الفصل الرابع
الكوان
١
الكوان هو نوعٌ من المسألة التي يطرحها المعلم على مريديه طالبًا
حلها، إلا أن كلمة «مسألة» problem
ليست بالكلمة الملائمة، وأنا أُفضل الكلمة اليابانية الأصلية
كو-آن (وبالصينية كونغ-آن) وكو، حرفيًّا، تعني «علني» أما آن
فهي «وثيقة»، لكن العبارة «وثيقة عامة» a public
document لا علاقة لها بزن؛ ذلك أنَّ «وثيقة» زن
هي الوثيقة التي يحملها كل منا إلى العالم عند ولادته، ويحاول أن
يفك مغاليقها قبل أن يموت.
وتبعًا لأسطورة الماهايانا فإن بوذا حين برز من جسد أمه، قال:
«السماء في الأعلى، والأرض في الأسفل، وأنا وحدي الأكثر شرفًا»،
وكانت هذه وثيقة بوذا التي انتقلت إلينا لنقرأها، وأولئك الذين
يفلحون في قراءتها هم أتباع زن. وليس ثمة ألغاز في هذا، فكل شيءٍ
واضح أو «علني» بالنسبة لكل ذي عينٍ ترى، وإذا ما كان ثمة معنى خفي
في هذا القول، فإنه من طرفنا وليس من طرف «الوثيقة».
إن الكوان هو في داخلنا، وما يفعله معلم زن يقتصر على الإشارة
إليه بحيث تمكننا رؤيته بمزيدٍ من الوضوح، وحين يتم إخراج الكوان
من اللاوعي إلى حقل الوعي يُقال: إنه قد فُهم من قبلنا، ومن أجل
إحداث هذه اليقظة، يأخذ الكوان في بعض الأحيان شكلًا جدليًّا ولكنه
غالبًا ما ينتحل، في الظاهر على الأقل، شكلًا هرائيًّا
تمامًا.
ويمكن أن نصنف ما يلي بأنه جدلي:
يحمل المعلم في العادة عصًا أو عكازًا يستعملها أثناء ترحاله في
الطرق الجبلية، لكنها تحولت هذه الأيام إلى رمزٍ للسلطة في يد
المعلم، الذي غالبًا ما يلجأ إليها لتوضيح غرضه، فقد يبرزها أمام
الجميع ويقول: «هذه ليست عصا، ماذا تسمونها؟» وقد يقول في أحيانٍ
أخرى: «إن كنتم تقولون إنها عصا، «المسوا» «أو أثبتوا»، وإن كنتم
لا تسمونها عصا، «عارضوا» «أو انفوا». وإذا ما صرفنا النظر عن كل
من النفي والإثبات، فماذا تسمونها؟» والواقع أن هذا الكوان هو أكثر
من جدلي. وإليكم واحدًا من الحلول التي قدمها أحد المريدين
الأكفاء، ففي إحدى المرات، وبعد أن طرح المعلم سؤاله هذا خرج راهبٌ
من الحشد وتناول العصا من يد المعلم وكسرها ورمى القطعتين على
الأرض.
وثمة معلم آخر أطلق هذا القول المبهم بينما هو يبرز عصاه: «حين
يكون لديك عصا، سوف أعطيك واحدة، وعندما لا يكون لديك عصا سآخذها
منك».
وفي بعض الأحيان يسأل المعلم وبصورةٍ مشروعة تمامًا، «من أين
أتيت؟» أو «إلى أين تمضي؟» لكنه قد يتحول فجأة عن هذا الموضوع
ويقول: «كم تشبه يداي يدي بوذا! وكم تشبه ساقاي ساقي
الحمار!».
قد يتساءل المرء: «وما الذي يهم إن كانت يداي مثل يدي بوذا؟ أما
أن تكون ساقاي كساقي الحمار، فالأمر يبدو فانتازيًّا، وحتى لو
سلمنا بأنها كذلك، فما علاقة ذلك بسؤال الوجود الأساسي، والذي نحن
معنيون به على نحوٍ جدي؟»، إن الأسئلة أو الاختبارات التي يطرحها
المعلم هنا يمكن اعتبارها «هرائية» إذا أردت أن تصنفها
كذلك.
دعوني أقدم عن مثل هذا الهراء مثالًا أو اثنين كان معلمٌ آخر قد
طلع بهما، فعندما سأل أحد المريدين المعلم: «ما هو الشيء الذي يقف
وحده، دون شريكٍ بين العشرة آلاف شيء؟» أجاب المعلم: «حين تبتلع
النهر الغربي جرعةً واحدة، سوف أقول لك»، إن ارتكاسنا المباشر هو
الصراخ «مستحيل»، بيد أن التاريخ يخبرنا أن تعليق المعلم هذا قد
فتح الحجرة المظلمة في وعي المريد الذي طرح السؤال.
وهذا المعلم نفسه هو الذي رفس واحدًا من الرهبان في صدره؛ لأنه
أخطأ إذ سأل: «ما معنى مجيء البوذي دهارما إلى الصين من الغرب؟»
الأمر الذي يكافئ القول: «ما هو المعنى الجوهري للدهارما؟» ولكن
عندما نهض الراهب عن الأرض، مستيقظًا من الصدمة، أعلن وهو يضحك
بجرأةٍ وحماس: «كما هو غريب أن كل شيء ممكن من أشكال اﻟ سادهي في العالم هو في قمة شعرة وأنا ضالعٌ
بمعناه الخفي حتى أعمق جذوره!»، فما العلاقة المحتملة بين رفسة
المعلم وإعلان الراهب الجريء؟ هذا ما لا يمكن فهمه أبدًا على مستوى
التفكير، فعلى الرغم من أن هذا كله قد يكون مجرد هراء، إلا أننا
وبسبب من عادة إضفاء المفاهيم
conceptualization التي لدينا
نُخطئ مواجهة الواقع الجوهري كما يقف بذاته عاريًا. إن في ما هو
«هرائي» قَدرًا كبيرًا من المعنى ويتيح لنا اختراق الحجاب الذي
يكون موجودًا بقدر ما نقف في هذا الجانب من النسبية.
٢
إن هذه «الأسئلة والأجوبة» (والتي تُعرف باليابانية باسم
موندو) وأقوال المعلمين التي
تُصنَّف الآن بوصفها كوانات، لم تكن معروفة بهذا الاسم أيام وقعت
فعلًا؛ ذلك أنها لم تكن سوى الطريقة التي استخدمها الباحثون عن
الحقيقة لكي يستنيروا، ولجأ إليها معلمو زن لمصلحة الرهبان
المتسائلين، أما ما يمكن أن ندعوه طريقةً منظمة نوعًا ما لدراسة زن
فقط، فقد بدأت مع معلمي السُّنغ
sung في وقتٍ ما من القرن الثاني
عشر، وكان أحدهم قد اختار ما عُرف باسم «مو!» جوشيو (وو
بالصينية) بمثابة كوان وألقاه على مريديه لكي يتفكَّروا به، وتجري
قصة جوشيو كما يلي:
كان جوشيو جوشين (٧٧٨–٨٩٧م)، (تشاو-تشوتسنغ-شين بالصينية)،
واحدًا من معلمي زن الكبار، وكان أحد الرهبان قد سأله مرة: «هل
لبوذا طبيعة كلب؟»، فأجاب المعلم: «مو»!
«مو»! وو! تعني حرفيًّا «لا»، ولكنها حين استخدمت ككوان
لم يعد المعنى مهمًّا، إنها «مو»! الخالي من المعنى بصرف النظر عما إذا كان يعني
«نعم» أو «لا» أو أي شيءٍ آخر، في الواقع فقط «مو»! «مو».
ولسوف يستمر هذا التكرار الرتيب للصوت «مو»! إلى أن يتشبع به العقل تمامًا ولا يبقى أي مجال
لأيِّ فكرة أخرى، والمرء الذي يتلفظ بالصوت، على نحوٍ مسموع أو غير
مسموع، يتماهى الآن تمامًا مع الصوت، فلا يعود شخصًا فرديًّا يكرر
اﻟ «مو»! ذاتها وهي تكرر ذاتها،
وحين يتحرك فإنه لا يتحرك كشخصٍ واعٍ لذاته وإنما اﻟ «مو»! هي التي تتحرك. اﻟ «مو»! تقف أو تجلس أو تمشي، تأكل أو تشرب،
تتكلم أو تبقى صامتة، ويتلاشى الفرد من حقل الوعي، الذي تشغله الآن
اﻟ «مو!» تمامًا، والواقع أن
الكون كله ليس سوى اﻟ «مو»!
وحسب. «السماء في الأعلى، والأرض في الأسفل، وأنا وحدي الأكثر
شرفًا!» واﻟ «مو!» هي هذا
«الأنا»، ويمكن لنا أن نقول الآن: إن اﻟ «مو!» واﻟ «أنا» واللاوعي الكوني؛ الثلاثة واحد
والواحد ثلاثة. وعندما تسود هذه الحالة من التشاكل أو التماهي،
يكون الوعي في وضعٍ فريد، أدعوه باسم «اللاوعي الواعي» أو«الوعي
اللاواعي».
لكن هذه ليست بعد تجربة
الساتوري. ويمكن القول: إنها تتماشى مع ما يعرف باسم
السمادهي، وتعني «توازن»، أو
«تشاكل»، أو «اتزان»، أو «حالة من السكينة»، وهذا غير كاف بالنسبة
لزن؛ إذ ينبغي أن يكون ثمة يقظة معينة تكسر التوازن وتعيد المرء
إلى مستوى نسبي من الوعي، عندما تتم
الساتوري. بيد أن ما يُدعى مستوى نسبيًّا من الوعي ليس
نسبيًّا في الواقع، إنه الحد الفاصل بين المستوى الواعي واللاواعي،
وحالما يتم بلوغ هذا المستوى، فإن الوعي العادي للمرء تغمره
فيضانات اللاوعي، وهذه هي اللحظة التي يدرك فيها العقل المتناهي
أنه متجذِّر في اللاتناهي. وبتعابير مسيحية، فإن هذه اللحظة التي
تسمع فيها النفس جهارًا أو سرًّا صوت الرب الحيِّ، وقد يقول
اليهود: إن موسى قد كان في هذه الحالة العقلية على طور سيناء حين
سمع الرب يعلن اسمه قائلًا: «أنا الذي أنا»
١.
٣
والسؤال الآن هو كيف اكتشف معلمو السُّنغ أن اﻟ «مو» هي وسيلة مؤثرة في بلوغ تجربة زن؟»
ليس ثمة ما هو فكري في اﻟ «مو!»،
والوضع معاكس تمامًا لما حدث حين تم تبادل اﻟ موندو بين المعلمين والمريدين قبل عهد
السنغ، وفي الواقع، حيثما يكون ثمة سؤال، فإن واقعة التساؤل ذاتها
تنطوي على فَكرَنة
intellectualization «ما هو
بوذا؟»، «ما هي الذات؟»، «ما هو المبدأ الجوهري للتعاليم
البوذية؟»، «ما معنى الحياة؟»، «هل تستحق الحياة العيش؟» كل هذه
الأسئلة تبدو بحاجةٍ إلى جوابٍ معين «فكري» أو يدركه العقل، أما
حين يُطلب من هؤلاء المتسائلين أن يعودوا إلى حجراتهم وينكبُّوا
على دراسة اﻟ «مو»!، فكيف يمكن
أن يتلقوا الأمر؟ إنهم ببساطة سوف يُصعقون، ولن يعرفوا ما الذي
سيفعلونه بمثل هذا الاقتراح.
وفي حين أن كل هذا صحيح وصائب، ينبغي أن نتذكر أن موقف زن يقضي
بتجاهل كل نوعٍ من أنواع التساؤل؛ لأن التساؤل ذاته مناقض لروح زن،
وما ينتظره زن منا هو أن ننكبَّ على المتسائل ذاته كشخصٍ، وليس على
أي شيءٍ يصدر عنه، ولسوف يوضح مثال أو مثالان هذه النقطة
تمامًا.
كان باسودو-إيتشي واحدًا من أعظم معلمي زن في عهد سلالة التانغ،
ويمكن لنا القول: إن زن قد بدأ معه، وكانت معاملته للمتسائلين
شيئًا ثوريًّا وأصيلًا إلى أبعد حد، كان سويريو (أو سويرو) واحدًا
من هؤلاء، وهو الذي رفسه المعلم عندما سأله عن حقيقة زن
٢. وفي مناسبة أخرى ضرب باسو راهبًا رغب بمعرفة مبدأ
البوذية الأول، وفي مناسبة ثالثة تلقى منه أحدهم لطمةً على أذنه؛
لأنه أخطأ إذ سأل المعلم: «ما معنى زيارة
بوذي دهارما للصين؟» ويبدو، في الظاهر، أن كل هذه
التدابير القاسية التي يتخذها باسو لا علاقة لها بالأسئلة
المطروحة، اللهم إلا إذا فُهمت بوصفها نوعًا من العقاب الذي يُنزَل
بأولئك الذين هم حمقى بما يكفي لأن يطرحوا مثل هذه الأسئلة.
والغريب أن الرهبان المعنيين لم يكونوا ليغضبوا أو يغتاظوا على
الإطلاق، بل على العكس، فقد غمرت البهجة والإثارة واحدًا منهم بحيث
أعلن قائلًا: «كم هو غريب أن كل الحقائق التي تقدمها
السوترات٣ متجلية في رأس شعرة!» فكيف استطاعت رفسة
معلم على صدر راهب أن تجترح مثل هذه المعجزة ذات الطبيعة
المتعالية؟
لقد اشتهر رينزاي، معلم زن العظيم، بسبب إطلاقه اللفظة غير
المفهومة «كاتز!» عند كل سؤالٍ
يُطرح عليه. أما تاكو-سان، وهو معلمٌ عظيم آخر، فقد اعتاد على
استخدام عصاه بحريةٍ حتى قبل أن يكون الراهب قد فتح فاه، بل إن
لتاكو-سان تعبيره الشهير الذي يجري كما يلي: «ثلاثون ضربة من عصاي
حين يكون لديك ما تقوله، وثلاثون مثلها حين لا يكون لديك ما
تقوله»، أما نحن فلن نستطيع الخروج بأي شيء من أفعال المعلم هذه،
ما دمنا في مستوى النسبية وقابلية الفهم، كما لن نستطيع أن نكتشف
أي نوعٍ من العلاقة بين الأسئلة التي يطرحها الرهبان وما يبدو
وكأنه انفجارٌ عنيف لشخصيةٍ غضوب، فما بالك بأثر هذا الانفجار على
المتسائلين؟ إن أقل ما نقوله هو: إن تشوش وإبهام الأمر كله يزرع
الإرباك والحيرة.
٤
والحقيقة أن ما يشتمل على كليَّة الوجود البشري ليس التفكير
وإنما الإرادة بالمعنى المباشر للكلمة. فالفكر قد يطرح كل ضروب
الأسئلة — ومن حقه تمامًا أن يفعل ذلك — لكن انتظارنا من الفكر
تقديم جواب نهائي يعني أن نطلب منه الكثير؛ لأن ذلك ليس من طبيعة
التفكير، إن الجواب مدفون في أعماق كينونتنا، وإبرازه على السطح
يقتضي رعشة الإرادة الأشد، وحين يتم الشعور بذلك تنفتح بوابات
الإدراك ويكون ثمة مشهد جديد لم نحلم به من قبل. إن الفكر لينوي،
لكن من يقرر ويقدر ليس من ينوي ذاته، وبصرف النظر عما يمكن أن
نقوله عن الفكر، فإنه في النهاية سطحي، شيء ما طاف على سطح الوعي،
ومن أجل الوصول إلى اللاوعي لا بد من خرق هذا السطح، وما دام هذا
اللاوعي منتميًا إلى ميدان السيكولوجيا، فلا يمكن أن يكون هنالك أي
ساتوري بالمعنى الذي لهذه الكلمة في زن، لا بد من التعالي على
السيكولوجيا وتخطِّيها ولا بدَّ من تجاوز ما يمكن أن ندعوه
«اللاوعي الأنطولوجي».
لا بدَّ من أن يكون معلمو السُّنغ قد تحققوا من ذلك خلال تجربتهم
الطويلة وتعاملهم مع مريديهم، وهكذا رغبوا في أن يضعوا حدًّا للأبوريا،
٤ الفكرية من خلال اﻟ
«موا!» الخالية من أي أثرٍ للتفكير، والمفعمة بالإرادة
المحضة المُلغية للفكر، بيد أن عليَّ تذكير قرَّائي بألَّا
يعتبروني مناهضًا للفكر تمامًا، فما أعترض عليه هو اعتبار الفكر
بمثابة الواقع الجوهري ذاته، في حين أننا نحتاج الفكر لكي نحدد،
ولو بشكلٍ مبهم، أين هو الواقع، لكن فهم الواقع لا يتم إلا حين
يزيح الفكر عنه مزاعمه، وزن يدرك هذا ويقترح بمثابة كوان قولًا فيه
شيء من نكهة الفكر، شيء يبدو بهيئته التنكرية وكأنه بحاجةٍ إلى
معالجةٍ منطقية، أو يبدو وكأن هنالك متسعًا لمثل هذه المعالجة،
وسوف توضح الأمثلة التالية ما أعنيه:
يُحكى أن يينو، البطريرك السادس، طلب من سائله قائلًا: «أرني
وجهك الأصلي الذي كان لك قبل أن تولد»، أما نانجاكو، وهو واحد من
مريدي يينو، فقد سأل شخصًا أراد أن يستنير: «من هو الذي يأتي إليَّ
هكذا؟» وثمة معلم من معلمي السُّنغ أراد أن يعرف: «أين نلتقي بعد
أن تموت، وتحرق جثتك، ويذر رمادك؟»، كما أن هاكوين، وهو معلم عظيم
من معلمي زن في اليابان الحديثة، قد اعتاد على رفع إحدى يديه أمام
أتباعه طالبًا منهم أن يسمعوه صوت يد واحدة وهي تصفق، وثمة في زن
كثير من هذه الطلبات المستحيلة: «استخدم الرفش الموجود في يديك
الفارغتين»، «سِرْ وأنت راكب على حمار»، «تكلم دون أن تستخدم
لسانك»، «اعزف على مزهرك الخالي من الأوتار»، «أوقف هذا المطر
المبلل»، ولا شك أن هذه المسائل المنطوية على مفارقاتٍ تنيخ بثقلها
على فكر المرء وترفعه إلى أعلى درجات التوتر، فتدفعه في النهاية
إلى وصفها جميعًا بأنها هرائية تمامًا، ولا تستحق أن يصرف طاقته
الذهنية عليها، بيد أن أحدًا لن ينكر عقلانية السؤال التالي الذي
حيَّر الفلاسفة، والشعراء، والمفكِّرين من كل صنفٍ منذ بزوغ الوعي
البشري: «من أين أتينا؟ وإلى أين نمضي؟»، إن كل تلك الأسئلة
والأقوال «المستحيلة» التي يطرحها معلمو زن ليست سوى تنويعات «لا
منطقية» على السؤال «العقلاني» تمامًا الذي أوردناه للتو.
والواقع أنك حين تقدم آراءك المنطقية بشأن كوان ما، فإن من
المؤكد أن المعلم سوف يرفضها، صراحةً أو بصورةٍ تهكمية، دون أن
يقدم أساسًا لفعله هذا مهما يكن، وبعد بضعة لقاءاتٍ قد لا تعرف ما
عليك فعله سوى التخلي عنه بوصفه «عجوزًا متعصِّبًا وجاهلًا» أو
لأنه «لا يعرف شيئًا عن «الطريقة العقلانية الحديثة» في التفكير»
لكن الحقيقة هي أن معلم زن يتقن عمله على نحوٍ أفضل بكثيرٍ مما
تُقدِّر؛ ذلك أن زن، في النهاية، ليس لعبة فكرية أو جدلية من أي
نوع، وهو يُعنى بما يتعدى منطقية الأشياء، حيث يعلم أن هنالك تكمن
«الحقيقة التي تحرر الإنسان».
ومهما يكن القول الذي يطلقه المرء بشأن أي موضوع، فإنه يبقى على
سطح الوعي بصورةٍ يتعذَّر تفاديها ما دام خاضعًا بشكلٍ ما لمعالجةٍ
منطقية، فالفكر يخدم أغراضًا متنوعة في حياتنا اليومية، حتى فيما
يتعلق بإبادة البشرية، فرادى أو جماعات، ولا شك في أنه مفيدٌ
جدًّا، لكنه لا يحل المشكلة الجوهرية التي سيواجهها كلٌّ منا في
سياق حياته إن عاجلًا أو آجلًا، وهي مشكلة الحياة والموت، التي
تُعنى بمعنى الحياة. وحين نواجهها، على الفكر أن يعترف بعدم قدرته
على التنطُّح لها؛ ذلك أنها تتحول حتمًا إلى معضلةٍ أو أبوريا هو
عاجز بطبيعته عن حلها. إن السبيل الفكري المسدود الذي ننساق إليه
هو مثل «الحبل الفضي» أو «الجدار الحديدي» الذي ينتصب أمامنا
مباشرة، وما نحتاج إليه لإحداث اختراق، ليس المناورة الفكرية أو
التحايل المنطقي، وإنما كامل كينونتنا، فالأمر — كما سيقول لنا
معلم زن — أشبه بالتسلق على عمودٍ يرتفع مائة قدم وتشعر مع ذلك أنك
مدفوعٌ لأن تتسلق وتتسلق إلى أن يكون عليك القيام بقفزةٍ يائسة،
مستخفًّا تمامًا بأمنك الوجودي. وفي اللحظة التي تقوم فيها بذلك،
تجد نفسك آمنًا عند «قاعدة زهرة لوتس في أوج تفتحها». أما التفكير
ومنطقية الأشياء فلا يمكن لهما تجريب هذا النوع من القفز، فمنطقية
الأشياء لا تؤمن إلا بالاستمرارية وليس بالقفز فوق الهوَّة
الفاغرة. وهذا ما ينتظر زن من كلٍّ منا أن ينجزه على الرغم مما
يبدو على السطح من استحالةٍ منطقية؛ ولهذا فإن زن يدفعنا على
الدوام لمواصلة عادتنا في عقلنة الأشياء؛ لكي نرى بأنفسنا إلى أي
حدٍّ يمكن أن نمضي في هذه المحاولة التي لا طائل منها، ذلك أن زن
يعلم تمامًا أين يقبع حدُّها، أما نحن فلا ندرك عمومًا هذه الحقيقة
إلى أن نجد أنفسنا عند النهاية المسدودة، وثمة حاجة لهذه التجربة
الشخصية من أجل إيقاظ كينونتنا بكليتها؛ لأننا عادةً ما نرضى
بسهولةٍ إزاء منجزاتنا الفكرية، والتي لا تُعنى — في النهاية — إلا
بهوامش الحياة.
إن ما أوصل بوذا في النهاية إلى تجربة الاستنارة لم يكن تدريبه
الفلسفي أو تقشُّفه الجمالي أو الأخلاقي، فهو لم يبلغها إلا حين
تخلَّى عن كل هذه الممارسات السطحية المتدلية على أطراف وجودنا.
فالتفكير أو الصياغة الأخلاقية أو المفاهيمية لا حاجة إليها إلا
لإدراك حدودها الخاصة. وتمرين الكوان يهدف إلى جعلنا ندرك كل ذلك
في الصميم.
وكما قلت من قبل، فإن الإرادة بمعناها المباشر أساسية أكثر من
الفكر؛ لأنها المبدأ الكامن عند جذر الموجودات جميعًا، والذي
يوحدها كلها في واحدية الوجود. فالصخور حيث هي؛ تلك إرادتها،
والأنهار تجري؛ تلك إرادتها، والنباتات تنمو؛ تلك إرادتها، والطيور
تطير؛ تلك إرادتها، وبنو البشر يتكلمون؛ تلك إرادتهم، والفصول
تتعاقب، والسماء ترسل مطرًا أو ثلجًا، والأرض تهتز في بعض الأحيان،
والأمواج تهدر، والنجوم تسطع؛ كلٌّ منها يتبع إرادته الخاصة. فأن
نكون يعني أن نريد وبالتالي أن نصير. ولا يمكن أن يكون في هذا
العالم مطلقًا أي شيء لا يملك إرادته الخاصة. والإرادة الواحدة
العظيمة التي تنبع منها كل هذه الإرادات المتنوعة إلى ما لا نهاية،
هي ما أدعوه «اللاوعي الكوني (أو
الأنطولوجي)»، والذي يشكل منطلقًا لإمكانات لا نهائية. وهكذا تكون
اﻟ «مو» مرتبطة باللاوعي من خلال
العمل على المستوى النزوعي
conative من مستويات الوعي. إن
الكوان الذي يبدو فكريًّا أو جدليًّا، هو أيضًا يقود المرء في
النهاية سيكولوجيًّا إلى المركز النزوعي للوعي، ومن ثم إلى المنبع
ذاته.
٥
كما قلت من قبل، فإن تلميذ زن، وبعد المكوث مع المعلم لبضع سنوات
— لا بل لبضعة أشهر — سوف يصل إلى حالةٍ من الجمود التام؛ ذلك أنه
لا يعرف في أي طريقٍ يمضي، فقد حاول حل الكوان على المستوى
النِّسبي ولكن من غير طائل مهما يكن، وها هو الآن محشور في الزاوية
حيث ليس ثمة أي طريق للهرب. وفي هذه اللحظة قد يقول المعلم: «إن من
الخير لك أن تكون محشورًا في الزاوية هكذا، فقد آن الأوان لأن تقوم
بتغييرٍ كامل»، وقد يواصل المعلم قائلًا: «عليك ألَّا تفكر بواسطة
الرأس بل بواسطة البطن، بواسطة الجوف».
وقد يبدو هذا غريبًا جدًّا، فتبعًا للعلم الحديث، فإن الرأس مليء
بكتلٍ رمادية وبيضاء وبخلايا وألياف متصلة بهذه الطريقة أو تلك،
فكيف يمكن لمعلم زن أن يتجاهل هذه الحقيقة، وينصحنا بأن نفكر
بواسطة البطن؟ بيد أن معلم زن إنسانٌ من نوعٍ غريب، وهو لن يصغي
إليك وإلى ما يمكن أن تقوله عن العلوم قديمها وجديدها، إنه يعرف
عمله على نحوٍ أفضل من خلال تجربته.
إنَّ لي طريقتي في شرح هذا الوضع، مع أنه قد لا يكون شرحًا
علميًّا، فمن الممكن تقسيم الجسد من الناحية الوظيفية إلى ثلاثة
أقسام: الرأس، والأجزاء البطنية، والأطراف. والأطراف تفيد في
التحرُّك والتنقُّل، لكن اليدين تمايزتا وتطورتا في طريقٍ خاص،
فهما تُستخدمان الآن في الأعمال الإبداعية، وتقوم اليدان مع
الأصابع العشرة بتشكيل جميع الأشياء المُعدة لخير الجسد ورفاهه،
وثمة حَدس لديَّ بأن اليدين قد تطورتا أولًا ومن ثم الرأس الذي
أصبح بالتدريج عضوًا مستقلًّا للتفكير، ولكي تُستخدم اليدان بهذه
الطريقة أو تلك، كان لا بدَّ أن تبتعدا عن الأرض، وتتمايزا عن أيدي
الحيوانات الدنيا، وعندما تتحرر اليدان البشريتان من الأرض على هذا
النحو، تاركة للساقين حصرًا وظيفة التنقُّل، يصبح بمقدورهما اتباع
خط تطورهما الخاص، والذي يفضي بدوره إلى بقاء الرأس منتصبًا،
ويمكِّن العينين من رؤية محيط أوسع وأرحب، إن العين عضوٌ فكري، في
حين أن الأذن عضوٌ أكثر بدائية، أما الأنف، فمن الأفضل بالنسبة له
أن يبقى بعيدًا عن الأرض، ذلك أن العين قد بدأت الآن اضطلاعها
بأفقٍ واسع، وهذا التوسيع لحقل الرؤية يعني أن العقل يصبح منفصلًا
أكثر فأكثر عن الموضوعات الحسِّية، جاعلًا من نفسه عضوًا للتجريد
والتعميم الفكريين.
هكذا يرمز الرأس للتفكير، والعين بعضلاتها المحركة هي أداته
النافعة، أما الجزء البطني الذي يشتمل على الأحشاء فتتم السيطرة
عليه بواسطة الأعصاب الإرادية، ويمثل المرحلة الأكثر بدائية من
مراحل التطور في بنية الجسد البشري، فالأجزاء البطنية أقرب إلى
الطبيعة التي نأتي منها نحن جميعًا وإليها نعود؛ ولذا فإن هذه
الأجزاء هي في تماسٍّ صميمي مع الطبيعة، ويمكنها أن تشعر بها
وتتكلم معها وتجعلها موضوعًا ﻟ «التأمل». إن التأمل ليس عملية
فكرية، وإنما هو عملية وجدانية عاطفية، إذا جاز التعبير، وكلمة
«شعور» هي الكلمة الأفضل عند استخدام هذا المصطلح بمعناه
الجوهري.
إن التأمل الفكري هو وظيفة الرأس؛ ولذا فإن فهم الطبيعة الذي
نحصل عليه من هذا المصدر هو تجريد للطبيعة أو تمثيل لها، وليس
الطبيعة ذاتها، فالطبيعة لا تتكشف على حقيقتها للفكر؛ أي الرأس،
والأجزاء البطنية هي التي تشعر بالطبيعة وتفهمها كما هي. وهذا
النوع من الفهم، والذي أدعوه فهمًا وجدانيًّا أو نزوعيًّا؛ يشتمل
على كيان الشخص بأكمله كما ترمز له الأجزاء البطنية من الجسد.
وعندما يقول لنا معلم زن أن نمسك الكوان في البطن، فهو يعني أن
كيان المرء بأكمله يجب أن يضطلع بهذا الكوان؛ أي عليه أن يتماهى
معه تمامًا، لا أن ينظر إليه فكريًّا أو موضوعيًّا وكأنه شيءٌ
يمكننا أن نقف على مسافةٍ منه.
ذات مرة زار عالمٌ أمريكي أحد الشعوب البدائية، وعندما قال لهم:
إن الغربيين يفكرون برءوسهم، ظنَّ هؤلاء البدائيون أن الأمريكيين
جميعًا مجانين، وقالوا: «نحن نفكر بواسطة بطوننا»، وعندما تبرز بعض
المشاكل العويصة، فإن الناس في الصين واليابان — وربما في الهند —
غالبًا ما يقولون: «فكر بواسطة بطنك»، أو ببساطة، «اسأل جوفك»؛
ولذا فإن النصيحة، عندما يُطرح أي سؤالٍ متصل بوجودنا، هي أن
«نفكر» بواسطة الجوف، وليس بأي جزءٍ منفصل من الجسد، ذلك أن
«الجوف» يكافئ كيان المرء بكليته، أما الرأس، والذي هو آخر أقسام
الجسد تطورًا، فيمثل التفكير، والفكر يخدمنا أساسًا في موضعة
objectifyng الموضوع الذي نحن
بصدده؛ ولذا فإن الشخص المثالي، في الصين خاصة، هو شخص بدين بارز،
كما هو واضح في صورة هوتي
hotei
(بو-تاي في الصينية)، والذي يُعتبر تجسيدًا لبوذا المنتظر، مايتريا
٥.
أن «تفكر بواسطة البطن، فهذا يعني في الواقع أن تبقي الحجاب
الحاجز إلى الأسفل، بحيث تفسح مجالًا للأعضاء الصدرية؛ كي تقوم
بوظيفتها على نحوٍ ملائم، وتبقي الجسد مستقرًّا ومهيأً جيدًا لتلقي
الكوان واستقباله. وليس المقصود من هذا الإجراء جعل الكوان موضوعًا
للتفكير؛ ذلك أن الفكر يُبقي موضوعه بعيدًا عنه على الدوام، وينظر
إليه من بعد، كما لو أنه خائفٌ حتى الموت من مسه، فما بالك
بالتقاطه والقبض عليه بين يديه العاريتين؟ وعلى العكس، فإن زن
يريدنا لا أن نلتقط الكوان باليدين، والبطن وحسب، بل وأن نتماهى
معه على النحو الأتمِّ، لدرجة أنني حين آكل أو أشرب لا أكون أنا،
بل الكوان هو من يأكل ويشرب، وحين يحصل ذلك فإن الكوان يحلُّ نفسه
دون أن أقوم من طرفي بأي شيءٍ آخر.
أنا لا أملك أية معرفة طبية بأهمية الحجاب الحاجز في بنية الجسد
البشري، بيد أن فهمي القائم على الحس السليم، والمستند إلى خبراتٍ
معينة، هو أن الحجاب الحاجز المتصل مع الجزء البطني له علاقة كبيرة
مع إحساس المرء بالأمن، الأمر الذي يتأتى من كونه مرتبطًا صميميًّا
بأساس الأشياء، أي بالواقع الجوهري. إن توطيد هذا النوع من العلاقة
يدعى باليابانية كوفو سورو،
وعندما يقول لك معلم زن أن تصل الكوفو الخاص بك مع الكوان بواسطة جزئك البطني، فإنه
يعني محاولة التوصل إلى توطيدٍ ناجح لهذه العلاقة، ولعل هذه
الطريقة في الكلام هي طريقة بدائية أو مناهضة للعلم؛ محاولة توطيد
علاقة بين الحجاب الحاجز والبطن والواقع الجوهري، ولكننا من جهةٍ
أخرى، قد أصبحنا بلا شك متعصبين جدًّا للرأس وأهميته فيما يتعلق
بنشاطاتنا الفكرية، وعلى أي حال فإن الكوان لا يمكن أن يحل بواسطة
الرأس، أي فكريًّا أو فلسفيًّا. ومهما بدت المقاربة المنطقية
مرغوبة أو ممكنة في البداية، فإن من المقدر للكوان أن يستقر في
النهاية في الأجزاء البطنية.
لنأخذ مثال العصا في يد المعلم، إنه يرفعها ويعلن: «أنا لا
أدعوها عصا فماذا تسمونها؟»، وقد يبدو أن هذا السؤال بحاجةٍ إلى
جوابٍ جدلي، ذلك أن الإعلان أو الاختبار يكافئ القول: «عندما لا
تكون آ هي آ فما هي؟» أو عندما لا يكون الرب هو الرب، فماذا
يكون؟»، إن قانون الهوية law of
identity المنطقي مُنتهك هنا، فعندما يتم تعريف آ
مرَّة بأنها آ، يجب أن تبقى آ وألَّا تكون أبدًا غير آ أو ب أو س،
وفي بعض الأحيان قد يقول المعلم: «العصا ليست عصا ومع ذلك فإنها
عصا»، وعندما يقارب المريد المعلم بعقلٍ منطقي ويعلن أن الاختبار
كله محض هراء، فإنه يكون واثقًا من أن العصا ذاتها سوف تهوي عليه،
ولا يستطيع المريد الفرار من كونه مساقًا إلى طريقٍ مسدود؛ ذلك أن
المعلم صعب المراس، ويرفض بصورةٍ مطلقة أن يخضع لأي قدرٍ من الضغط
الفكري. ومهما يكن الكوفو الذي
يضطر المريد الآن للقيام به فإنه يتم برمته في أجزائه البطنية وليس
في رأسه. ومن الواجب أن يفسح الفكر في المجال للإرادة.
إليك مثالًا آخر، لقد طلب البطريرك السادس رؤية «الوجه الذي كان
لك قبل ولادتك»، إن الجدل بلا طائل هنا، وهذا الطلب يشبه قول
المسيح: «أنا قبل إبراهيم»، مهما يكن التأويل التقليدي الذي يقدمه
اللاهوتي المسيحي لكينونة المسيح، فإن هذه الكينونة تتحدى إحساسنا
البشري بالزمن المتعاقب، وهذه هي الحال مع «وجه» البطريرك السادس،
وقد يبذل الفكر كل ما بوسعه، لكن البطريرك وكذلك المسيح سيرفضان
ذلك حتمًا بوصفه غير ذي صلة بالموضوع، فالرأس ينبغي أن ينحني
للحجاب وينبغي أن ينحني العقل للنفس، كما ينبغي أن يُطاح بكل من
المنطق والسيكولوجيا، وأن يوضعا أبعد من كل أنواع الفكرنة
intellectualization.
لكي نتابع هذا الكلام المُرمز أقول: الرأس واعٍ أما البطن فلا
واع. وعندما يطلب المعلم من مريده أن «يفكر» بواسطة الجزء السفلي
من جسده، فإنه يعني وجوب إنزال الكوان إلى الحقل اللاواعي من
الوعي، وليس إلى حقله الواعي، والكوان هو أن «نغوص» إلى كامل
الكينونة وألا نتوقَّف عند المحيط، وهذا، حرفيًّا، ليس له أي معنى،
وكأنك لا تقول شيئًا، لكن حين ندرك أن قعر اللاوعي الذي «يغوص»
إليه الكوان هو مكان لا يمكن حتى ﻟ
الألايا-فيجنايا، أي «الوعي المحافظ تمامًا»
٦ أن يستغرقه، فإننا سنرى أن الكوان يكف عن الوجود في
حقل التفكير؛ إذ يتماهى تمامًا مع ذات المرء، وهكذا يتخطى الكوان
كل حدود السيكولوجيا.
عندما يتم تجاوز كل هذه الحدود — الأمر الذي يعني المضي حتى إلى
أبعد مما يدعى اللاوعي الجمعي — فإن المرء يقع على ما يُعرف في
البوذية باسم أدارسانا جنانا،
«معرفة المرآة»، حيث يتم اختراق حلكة اللاوعي فيرى المرء كل
الأشياء كما يرى وجهه في المرآة الصقيلة الصافية.
٦
كما قلت من قبل، فإن طريقة الكوان في دراسة زن بدأت في الصين في
القرن الثاني عشر مع معلمي السُّنغو مثل غوزو هوين (تُوفِّي عام
١١٠٤م)، ويينغو كوكوغون (١٠٦٣–١١٣٥م)، ودايي سوكو (١٠٨٩–١١٦٣م)،
لكن وضعها في منظومةٍ حصل في اليابان بعد دخول زن مباشرة في القرن
الثالث عشر. وكان الكوان في البداية يُصَنَّف تحت ثلاثة عناوين؛
حَدسي، البراجنا (ريتشي)، وفعلي
(كيكوان)، وجوهري (كوجو). ولقد عمل هاكوين وأتباعه فيما بعد،
في القرن السابع عشر، على زيادتها إلى خمسة أو ستة، لكن الثلاثة
القديمة ظلت سارية المفعول من حيث الجوهر. وبما أن الترسيمة قد
اكتملت، فإن كل تلاميذ زن المنتمين إلى مدرسة رينزاي هذه الأيام
يدرسون زن تبعًا لها، وقد تَقَوْلَبت الدراسة إلى هذا الحد أو ذاك
لدرجةٍ تبدي علامات التدهور والفساد.
إن الأمثلة النمطية والكلاسيكية للكوان هي تلك التي تلَقَّاها
التلاميذ من بوكوكوكوشي (١٢٢٦–١٢٨٦م) في الصين ومن هاكوين
(١٦٨٥–١٧٦٨م) في اليابان،
٧ أما مقاربة زن من قبل أولئك الذين ليس لديهم نظام
للكوان فيمثِّلها، بقدر ما نعلم، رينزاي (تُوفِّي ٨٦٧م) في الصين
وبانكيي (١٦٢٢–١٦٩٣م) في اليابان
٨. أما الباحثون المهتمون بمزيدٍ من الدراسة السيكولوجية
لزن فإني أنصحهم بالاطلاع على بعض أعمالي في هذا الموضوع.
ثمة بضع كلمات أريد أن أضيفها هنا؛ فعادةً ما تتم ترجمة كلمة
جنانا إلى «معرفة»، لكن كلمة
«حدس» قد تكون أفضل إذا أردنا الدقة، وأنا أترجمها في بعض الأحيان
إلى «حكمةٍ متعالية»، خاصةً حين تتصل بالسابقة برا على النحو
براجنا. فالحقيقة هي أن الموضوع،
حتى حين يكون لدينا حَدس، يظل أمامنا ونحسُّه، أو ندركه حسيًّا، أو
نراه؛ فثمة انقسام بين الذات والموضع، أما في البراجنا فيكف هذا الانقسام عن الوجود؛ ذلك
أن البراجنا غير معنية
بالموضوعات المتناهية بما هي متناهية، إنها كلية الأشياء
totality of thnigs وقد أضحت واعية
ذاتها بما هي كذلك. وهذه الكلية ليست محدودة على الإطلاق، والكلية
اللَّامتناهية هي أبعد من نطاق إدراكنا البشري العادي. أما
حَدس-البراجنا فهو ذلك الحَدس
الكلياني «وغير القابل للإدراك» باللانهاية، وهو شيء لا يمكن أبدًا
أن يحدث في تجربتنا اليومية المحدودة بالموضوعات والأحداث
المتناهية. وهكذا، وبعبارةٍ أخرى، فإن البراجنا لا يمكن أن تحصل إلا حين تتماهى موضوعات
الحسِّ والفكر المتناهية مع اللانهاية ذاتها. وبدلًا من القول إن
اللانهاية ترى ذاتها في ذاتها، فإن من الأقرب إلى تجربتنا البشرية
أن نقول إن موضوعًا يُعتبر متناهيًا، ومنتميًا إلى العالم المنقسم
بين الذات والموضوع، يتم إدراكه من قبل البراجنا من وجهة نظر اللاتناهي. وإذا ما عبَّرنا عن
ذلك رمزيًّا، فإن المتناهي يرى نفسه عندئذٍ منعكسًا في مرآة
اللاتناهي. وفي حين يقول لنا الفكر إن الموضوع متناهٍ، فإن
البراجنا تعارض، معلنةً أنه
اللامتناهي خلف حدود النسبية. أما أنطولوجيًّا، فإن هذا يعني أن كل
الموضوعات أو الكائنات المتناهية هي ممكنة؛ لأن اللانهاية تشكِّل
أساسها، أو أن الموضوعات منتشرة على نحوٍ نسبي وبالتالي محدود في
حقل اللاتناهي الذي ليس لها من دونه أي مرسًى.
ويذكِّرنا هذا برسالة القديس بولس إلى أهل كورنثوس (الرسالة
الأولى إلى أهل كورنثوس ١٣: ١٢)، التي يقول فيها: «إننا ننظر الآن
في مرآةٍ في لغزٍ لكن حينئذٍ وجهًا لوجه، الآن أعرف بعض المعرفة
لكن حينئذٍ سأعرف كم عرفت.» إن كلمة «الآن» تشير إلى تعاقب زمني
نسبي، ومتناهٍ، أما كلمة «حينئذ» فتشير إلى الأبدية، والتي هي،
بمصطلحاتي، حدس-البراجنا؛ ففي
حدس-البراجنا أو «المعرفة» أرى
الله كما هو في ذاته، وليس «في مرآة في لغز» أو «أعرفه بعض
المعرفة»؛ ذلك لأنني أقف أمامه «وجهًا لوجه»، لا بل لأنني
مثله.
والأدارساناجنانا التي تتكشف
حين يتم اختراق قعر اللاوعي؛ أي قعر الألايا، فيجنانا، ليست سوى حدس-البراجنا. والإرادة المباشرة التي تصدر منها جميع
الكينونات ليست عمياء ولا واعية، إنها تبدو كذلك بسبب جهلنا
(أفيديا) الذي يجعل المرآة
مبهمة، ويدفعنا إلى نسيان حتى حقيقة وجودها، إن العمى هو فينا وليس
في الإرادة، التي هي فكرية في مبدئها وجوهرها بقدر ما هي نزوعية
وإرادية. فالإرادة هي البراجنا
مضافًا إليها الكارونا؛ الحكمة
والمحبة. أما على المستوى النسبي، المحدود، والمتناهي، فإن الإرادة
تُرى وتتكشف متشظية؛ أي إننا نميل لاعتبارها شيئًا منفصلًا عن
نشاطاتنا العقلية، لكنها حين تتكشف في مرآة
الأدارساناجنانا، فإنها تكون «الله كما هو»، والذي لا
تتمايز فيه البراجنا عن
الكارونا، ويكفي أن تذكر إحداهما
حتى تبرز الثانية حتمًا.
لا أستطيع أن أتمالك نفسي عن إضافة كلمة أو اثنتين هنا؛ ففي بعض
الأحيان يتم الكلام عن علاقةٍ بين شخصية فيما يتعلق بتمرين الكوان
عندما يطرح المعلم سؤالًا ويشرع التلميذ في معالجته أمامه؛ وإذ
يخفق التلميذ في معرفة ما ينبغي فعله في هذا الموضوع، فإنه يشعر
وكأنه معتمدٌ تمامًا على يد المعلم المسعفة كي تنتشله، وخاصةً حين
يقف المعلم بصرامةٍ وعلى نحوٍ قاطع ضد المقاربة الفكرية التي
يحاولها التلميذ. هذا النوع من العلاقة بين المعلم والتلميذ مرفوض
في زن؛ لأنه لا يُفضي إلى تجربة الاستنارة ولا يساعد على إحداثها
لدى التلميذ؛ ذلك أن الكوان «مو!»
والذي يرمز للواقع الجوهري ذاته، وليس المعلم،
هو ما يوقظ لاوعي التلميذ، والكوان «مو» هو ما يدفع المعلم لأن يصرع التلميذ، الذي يصفع
المعلم على وجهه حين يستيقظ. وفي هذه المواجهة الشبيهة بالمصارعة
ليس ثمة ذات في طورها المتناهي والمحدود. وإنه لمن الهام جدًّا
أن يكون هذا مفهومًا على نحوٍ غير مغلوط لدى دراسة زن.