المراحل الخمس «غو-ئي»
١
يمكن القول إن زن موضوعٌ غريب يمكن الكتابة والحديث عنه إلى ما لا نهاية، دون أن نستنفد مكنوناته على الرغم من ذلك. ومن جهةٍ أخرى، وإذا ما رغبنا، فإن بمقدورنا شرحه برفع إصبع أو سعال أو غمزة أو تلفَّظ بصوتٍ خالٍ من المعنى.
ولذا قيل إنه حتى لو تحولت كل محيطات الأرض إلى حبر، وكل الجبال إلى فرشاة، وتحول العالم كله إلى صفحاتٍ من الورق، وطُلب منا أن نكتب في زن، لَمَا أعطيناه حقه. فلا عجب في أن لساني القصير، والمختلف تمامًا عن لسان بوذا، قد أخفق في إفهام زن للناس في المحاضرات الأربع السابقة.
في «المرحلة» الأولى بين المرحلتين الأخيرتين، يكافح الزنِّي ليحقق نفاذًا إلى قدراته القصوى، وفي «المرحلة» الأخيرة يبلغ غايته، والتي هي في الحقيقة ليست غاية.
-
(١)
شو تشوهِن، «الهن في الشو».
-
(٢)
هِن تشوشو، «الشو في الهن».
-
(٣)
شوتشو راي، «القدوم من الشو».
-
(٤)
كِن تشو شي، «الوصول إلى الكِن».
-
(٥)
كِن تشو تو، «الاستقرار في الكِن».
الشو | الهِن |
---|---|
المطلق | النسبي |
اللامتناهي | المتناهي |
الواحد | المتعدد |
الله | العالم |
الظلام (اللاتمايز) | النور (التمايز) |
التماثل | الاختلاف |
الفراغ (سُنياتا) | الشكل والمادة (ناماروبا) |
الحكمة (براجنا) | المحبة (كارونا) |
ري (لي) «الكوني» | جي (شيه) «المتميِّز» |
-
(١)
شو تشوهن «الهِن في الشو»: تعني أن الواحد في المتعدد، الله في العالم، اللامتناهي في المتناهي … إلخ. وعندما نفكر، فإن الشو والهِن يقفان متعاكسين متضادين دون إمكانية للتسوية بينهما، لكن الشو لا يمكنه في الحقيقة أن يكون الشو ولا الهِن يمكنه أن يكون الهِن حين يقف كل منهما بذاته؛ فما يجعل المتعدد (هِن) متعددًا هو وجود الواحد فيه، فإن لم يكن الواحد موجودًا، لا يمكننا الكلام عن التعدد.
-
(٢)
هِن تشوشو، «الشو في الهِن»: متممات (١). فإذا ما كان الواحد في المتعدد، فلا بد أن يكون المتعدد في الواحد؛ فالمتعدد هو ما يجعل الواحد ممكنًا. الله هو العالم والعالم هو الله، والله والعالم منفصلان وغير متماهيين، بمعنى أن الله لا يمكن أن يوجد خارج العالم وواحدهما غير مُميَّز عن الآخر، ومع ذلك فإن كلًّا منهما يحتفظ بفرديته: فالله يتجزأ إلى ما لا نهاية، وعالم الأجزاء يجد نفسه مُستكِنًّا وآويًا إلى صدر الله.
-
(٣)
نأتي الآن إلى المرحلة الثالثة في حياة الزنِّي، وهذه هي النقطة الحاسمة إلى أبعد حد؛ حيث تتحول الخاصية العقلية في المرحلتين السابقتين إلى خاصيةٍ نزوعية، ويصبح الزِّنِّي شخصية حية، حساسة، وذات إرادة. فحتى الآن كان هذا الزني عبارة عن رأس، أو فكر، مهما يكن المعنى الدقيق الذي نفهم به ذلك، أما الآن فيتزود بجذعٍ مع كل ما يشتمل عليه من أحشاء، وكذلك يتزود بالأطراف، وخاصة الأيدي، التي قد يزداد عددها حتى يصل إلى الألف (الأمر الذي يرمز للانهاية)، وهو يشعر في داخله الآن مثل بوذا الطفل الذي قال، حالما برز من جسد أمه: «السماء في الأعلى، والأرض في الأسفل، وأنا وحدي الأكثر شرفًا.»
وبالمناسبة، وحين أُورد هذا القول لبوذا، فإن ذوي العقول العلمية قد يبتسمون ويقولون: «يا لهذا الهراء! كيف يمكن لطفلٍ خرج للتو من جسد أمه أن يُطلِق مثل هذا القول الفلسفي العميق؟ هذا لا يصدَّق أبدًا!» وأنا أعتقد أنهم على حق، لكن علينا أن نتذكر أنَّه على الرغم من كوننا كائنات عاقلة، فإننا المخلوقات الأبعد عن العقل في الوقت ذاته، ولنا ولع بكل ضروب السخافات المنافية للعقل والتي ندعوها بالمعجزات؛ ألم يقم المسيح من بين الأموات ويصعد إلى السماء، على الرغم من أننا لا نعلم أي ضرب من السماء كانت تلك السماء؟ ألم تقم أمه، مريم العذراء، حتى وهي حية بأعجوبةٍ مشابهة؟ ثمة ما يقوله لنا العقل، لكن هنالك شيء ما إلى جانب العقل لدى كل منا يهيئنا لتقبُّل المعجزات، والواقع أننا نحن أيضًا؛ أي هذا النوع العادي جدًّا من البشر، نقوم بمعجزاتٍ في كل لحظةٍ من لحظات حياتنا، بصرف النظر عن اختلاف أدياننا.
لقد قال لوثر: «إنني واقفٌ هنا، لا أستطيع فعل شيء آخر.» وعندما سئل هياكوجو ما هو الشيء الأروع، أجاب: «إنني جالسٌ وحدي على قمة جبل دايو»، وجبل دايو هو المكان الذي يقع فيه دير هياكوجو، وفي الأصل الصيني لا نجد أية إشارة إلى أي شيءٍ أو أي شخصٍ جالس على قمة جبل دايو، وتقتصر الجملة على «وحيدًا جالسًا جبل دايو»؛ فالجالس غير متميِّز عن الجبل. وتوحُّد الزِّنِّي، على الرغم من كونه في عالم الكثرة والتعدد، ملحوظٌ وبارز.
«إن الرجل الحقيقي بلا عنوان» لدى رينزاي ليس سوى ذلك الذي قدامنا جميعًا في هذه اللحظة، يصغي بلا ريب لصوتي، وأنا أتكلم أو لكلماتي وأنا أكتب، أليست هذه الواقعة عجيبة جدًّا نختبرها جميعًا؟ أليست مصدر إحساس الفيلسوف ﺑ «غموض الكينونة» إن كان يحس به حقًّا؟
إن القوة التي يملكها «أنا» تأتي كلها من هذه الوحدة. وتبعًا للسيد إيكهارت، فإن البرغوث في الله هو أكثر واقعية من الملاك ذاته، أما اﻟ «أنا» المراوغ والمتملص فلا يمكن أبدًا أن يكون «الأكثر شرفًا».
وتكون المرحلة الثانية:
ومن ثم تكون المرحلة الثالثة:
وبما أن المرحلة الثالثة تدل على نقطة تحول العقلي إلى نزوعي والمنطق إلى شخصية، فإنها تُصاغ على النحو التالي:
«هل للحياة أي معنى؟»
«إنني أدور في دوامة الوقائع البهيمية، وكلها متعينة، ومحدودة وثابتة على نحوٍ مطلق، أنا يائس، وألعوبة في يد الأقدار، ومع ذلك فإنني أتوق إلى الحرية، وأريد أن أكون سيد نفسي، وهذا الأمر ملح بصورةٍ أو بأخرى، على الرغم من أنني لا أملك الاختيار، وأنا لا أعرف ماذا أفعل، ولكن أي «أنا» هذا الذي يقف خلف هذه الأسئلة المتعبة والمحيِّرة؟»
«أين هي إذن تلك الأرض الآمنة التي أستطيع أن أقف عليها دون أي إحساسٍ بالقلق؟ أو ما «أنا»؟ ذلك أنني أعلم أن «أنا» قد يكون هذه الأرض الآمنة ذاتها، أيمكن أن تكون هذه هي الحقيقة التي لم أستطع اكتشافها إلى الآن؟ يجب اكتشاف اﻟ «أنا» إذًا، وسوف أكون آنئذٍ على ما يرام»!
٢
فلننتقل مع هذه الملاحظات إلى المرحلة الرابعة، والواقع أن المرحلتين الثالثة والرابعة مرتبطتان صميميًّا ولا يمكن تناول إحداهما بمعزلٍ عن الأخرى.
لقد كان لجوشو جوشين، وهو واحد من معلمي زن العظماء، ديره الخاص في الجبال وكان مشهورًا بالجسر الحجري الذي وفرته الطبيعة ليقود إليه. وفي أحد الأيام زار راهب جوشو وقال: «أيها المعلم، إن جسرك الحجري مشهور في الإمبراطورية كلها، لكنه كما أرى ليس سوى جسر خشبي واهن».
فردَّ جوشو: «أنت ترى جسرك الواهن وتخفق في رؤية الجسر الحجري الفعلي».
فسأل الراهب: «ما هو الجسر الحجري؟»
وردَّ جوشو: «جيادٌ تمر عليه، حمير تمرُّ عليه».
فجسر جوشو يشبه رمال نهر الغانج، التي تطؤها كل أنواع الحيوان وتلوِّثها أشد التلويث، ومع ذلك فإن تلك الرمال لا تشتكي أو تتذمر أبدًا، ولن تمحى أبدًا آثار الأقدام التي خلَّفتها هناك مخلوقات من كل جنسٍ ونوع، لكن أقذارها ستغوص حتمًا وتعود الرمال نظيفة على الدوام. وهكذا الأمر مع جسر جوشو الحجري: حيث تمر عليه هذه الأيام، لا الجياد والحمير وحسب، بل وجميع أنواع العربات، بما فيها الشاحنات الثقيلة وقوافل السيارات وهو يتسع لها على الدوام، وحتى حين تسيء استعماله فإن رضاه لا يهتزُّ. وزني «المرحلة الرابعة» مثل هذا الجسر، ومع أنه لا يدير خده الأيمن حين يُضرب على خده الأيسر، إلا أنه يعمل بصمتٍ من أجل خير ورفاه الآخرين.
ذات مرة سألت امرأة عجوز جوشو: «أنا امرأة، وحياة النساء قاسية جدًّا، ففي الطفولة تعاني المرأة؛ إذ عليها طاعة والديها، وحين تكبر بما يكفي تتزوج ويكون عليها أن تطيع زوجها، أما حين تشيخ فيكون عليها أن تطيع أولادها، فلماذا خُلقت لتعيش حياة كهذه دون فترةٍ من الحرية والاستقلال؟ ولماذا لا تكون مثل غيرها من البشر الذين يعيشون دون أي شعورٍ بالمسئولية؟ إنني أتمرَّد على أسلوب الحياة الصيني القديم».
ورد جوشو، «لتكن صلاتك»: «فليفعل الآخرون كل ما يحلو لهم، أما أنا فسأقبل بقسمتي».
إنني لست محاميًا عن جوشو، فهو يرد على هذا الاعتراض على النحو التالي:
لقد سأله أحدهم: «أنت شخصٌ طاهر وورع، أين ستجد نفسك بعد وفاتك؟»
فأجاب جوشو الزني: «أمضي إلى الجحيم قبلكم جميعًا!»
وصُعق السائل وقال: «كيف يمكن ذلك؟»
ولم يتردد المعلم: «إن لم أذهب أولًا إلى جهنم، فمن سيكون منتظرًا هناك لإنقاذ أناسٍ مثلك؟»
هذا قول قويٌّ جدًّا، لكن جوشو لديه ما يبرر ذلك من وجهة نظره الزنية، وهو هنا بعيد عن أي دافعٍ أناني، ووجوده مكرس برمته لخير الآخرين، ولو لم يكن الأمر كذلك، لما استطاع أن يُطلق هذا القول الصريح المباشر دون غموضٍ أو التباس، ويقول المسيح: «أنا الطريق»، ويدعو الآخرين لأن يخلِّصهم، وروح جوشو هي أيضًا روح المسيح، فليس ثمة روح متغطرسة ومتمركزة على ذاتها لدى أي منهما، إنهما يعبِّران عن روح المحبة ذاتها ببساطة، وبراءة، ومن القلب.
ذات مرة سأل أحدهم جوشو: «بوذا هو المستنير ومعلِّمنا جميعًا، إنه متحررٌ من الداخل بطبيعته من كل الأهواء (كليسا)، أليس كذلك؟»
فقال جوشو: «لا، إنه الذي يرعى الأعظم من بين الأهواء جميعًا».
«كيف يمكن ذلك؟»
ورد جوشو: «إن هواه الأعظم هو إنقاذ الكائنات جميعًا!»
«إن البوذيساتفا يدير عجلة وحدة المتعارضات أو المتناقضات: الأسود والأبيض، والظلام والنور، والتماثل والاختلاف، الواحد والكثرة، والمتناهي واللامتناهي، الحب والكراهية، الصداقة والعداء، إلخ إلخ، وبينما هو وسط الغيوم والغبار، متنوعًا إلى ما لا نهاية، يعمل البوذيساتفا ورأسه ووجهه مغطى تمامًا بالوحل والرماد، وحيثما تضطرم فوضى الأهواء بعنفها وضراوتها التي لا توصف، فإن البوذيساتفا يعيش حياته بكل تقلُّباتها، وكما يعبر عنها المثل الياباني، «دُر سبع مرَّات صاعدًا وهابطًا، ثم امض مستقيمًا ثماني مرات»، إنه مثل زهرة لوتس في اللهب، يسطع لونها أكثر فأكثر كلما عبرت معمودية النار.
عندما سأل مانجو يوئيما عن مرضه، أجاب الأخير، «إنني مريضٌ لأن كل الكائنات مريضة، ولن يُشفى مرضي قبل أن تُشفى، فهي على الدوام يغزوها الطمع والغضب والحماقة».
وهكذا نرى أن الحب والإشفاق هما جوهر البوذية، فهذا النوع من «الأهواء» يبقيها مع الكائنات جميعًا ما دام هنالك واحدٌ منها لم يصل بعد إلى حالة الاستنارة. ويقول المثل الياباني: «إلى عالم الصبر هذا جاءوا وذهبوا ثمانية آلاف مرة»، وهو يعني بذلك أن كل بوذا وبوذيساتفا سيزور عالمنا هذا عددًا لا نهاية له من المرات، هذا العالم المليء بالآلام التي لا تطاق؛ وذلك لأن حبهم لا يعرف أيَّ قيود.
عندما نظم هايا كوجو ديرًا جيدًا لرهبان زن حصرًا، كان العمل قاعدة من قواعده، حيث كان على كل راهب، بما في ذلك المعلم نفسه، أن ينهمك في عملٍ يدوي وضيع من الأعمال، وحتى عندما أصبح هايا كوجو عجوزًا، رفض أن يتخلَّى عن عمله في الحديقة، وحين أبدى مريدوه قلقهم عليه نظرًا لتقدمه في السن، أخفوا كل عدة عمله؛ لكي يكف عن العمل بالكد الذي اعتاد عليه، لكن هيا كوجو أعلن قائلًا: «إن لم أعمل لن آكل».
ولهذا السبب، فإن ما يميز معابد زن وأديرته في اليابان، وكذلك في الصين، هو أنها تبقى نظيفة وحسنة الترتيب، ورهبانها جاهزون للاضطلاع بأي عملٍ يدوي، مهما يكن منفرًا وقذرًا.
ولعل روح العمل هذه أن تكون مغروسة بعمقٍ في عقول الصينيين منذ القدم؛ ذلك أن مزارع تشوانغ-تسي، وكما أشرت في الفصل الأول، رفض استعمال الشادوف ولم يكن يهمه القيام بأي قدرٍ من العمل؛ لأنه كان يحب ذلك، وهذا لا ينسجم مع الفكرة الغربية، والحديثة في الحقيقة، عن وسائل توفير الجهد من كل صنف.
-
(١)
دانا (الإحسان).
-
(٢)
سيلا (الوصايا الأخلاقية).
-
(٣)
كسانتي (التواضع).
-
(٤)
فيريا (الطاقة).
-
(٥)
دهيانا (التأمل).
-
(٦)
براجنا (الحكمة).
-
(١)
الإحسان، أو العطاء، هو أن يقدم المرء لمنفعةٍ ورفاه كل الكائنات (سارفاساتفا) أي شيء وكل شيء يمكنه تقديمه: لا الأشياء المادية وحسب، بل المعرفة، سواء الدنيوية أو الدينية أو الروحية (فالمعرفة تنتمي إلى الدهارما، الحقيقة الجوهرية)، وكل بوذي ساتفا مستعد حتى لأن يهب حياته من أجل إنقاذ الآخرين (وثمة قصص فانتازية عن ذلك في حكايات جاتاكا).يقدم لنا تاريخ البوذية اليابانية مثالًا رائعًا عن التضحية بالنفس من قبل أحد معلمي زن، ففي الفترة السياسية المعروفة باسم عهد الاقتتال warring era في القرن السادس عشر كانت اليابان ممزقة إلى عددٍ من المقاطعات المحكومة من قبل زعماء متحاربين، وكان أودانوبوناغا هو الأقوى بينهم، وعندما هزم عائلة تاكيدا المجاورة، لجأ واحدٌ من أفراد هذه العائلة إلى أحد أديرة زن، وطلب جيش أودا تسليمه لهم، لكن رئيس الدير رفض قائلًا: «إنه الآن في حمايتي، وبصفتي تابعًا لبوذا فإنني لا أستطيع أن أسلمه»، وهدد القائد المُحاصر بأن يحرق الدير كله بمن فيه؛ ونظرًا لإصرار رئيس الدير على موقفه، فقد أُضرمت النار في المبنى المؤلف من طبقاتٍ عدة، واضطر رئيس الدير، مع قلةٍ من الرهبان الذين أرادوا الانضمام إليه إلى الصعود إلى الطابق الثاني، حيث جلسوا جميعًا بسيقانٍ متصالبة، وقال رئيس الدير لأتباعه أن يستعدوا للحظةٍ أخيرة، طالبًا منهم أن يعبِّروا عن أية فكرة تخطر لهم في هذه المناسبة، وهكذا قدم كلٌّ منهم ما لديه، وعندما جاء دور رئيس الدير تلا الأبيات التالية بهدوء، ثم احترق حيًّا مع البقية:كي تمارس الدهيانا (التأمل) بسلام.ليس ضروريًّا أن تمضي إلى المُعتزَل الجبلي.إذا ما طهَّرتَ العقل من الأهواء.حتى النار ستصبح بردًا وسلامًا.
-
(٢)
سيلا: هي التقيد بالوصايا التي أوصاها بوذا والتي تفضي إلى حياةٍ أخلاقية، وفي حالة من لا بيوت لهم، فإن المقصود من الوصايا هو تحديد نظام الأخوية (سانغها)، والسانغها هو مجتمعٌ نموذجي مثله الأعلى هو عيش حياة سلام وانسجام.
-
(٣)
: كسانتي من المفهوم عمومًا أنها تعني «الصبر»، لكنها في الواقع تعني الخضوع لأفعال مُذلَّة بصبر، أو برباطة جأش، أو كما يقول كونفوشيوس: «الرجل المتفوق لن يرعى أي شعور فاسد حتى حين لا يُقدر الآخرون عمله أو فضيلته»، ولا يشعر أي من أتباع بوذا بالإذلال، إن لم يعجب بهم الآخرون، أو حتى حين يتمُّ تجاهلهم دون وجه حق، إنهم يتحمَّلون بصبرٍ كل الشروط السيئة.
-
(٤)
فيريا: تعني في الأصل «الرجولة»، وهي تعني أن تكون مخلصًا على الدَّوام، وذا قدرة على تنفيذ كل ما ينسجم مع الدهارما.
-
(٥)
دهيانا: هي الاحتفاظ بحالةٍ عقلية هادئة وساكنة في كل الظروف، المواتية وغير المواتية، وتجنب الاضطراب أو الإحباط حتى حين تتتالى الأوضاع السيئة واحدًا إثر آخر، ويتطلب ذلك قدرًا كبيرًا من التدريب والمران.
-
(٦)
براجنا: ليس ثمة كلمة إنكليزية، أو حتى أوروبية، مرادفة لها، ذلك أن الأوروبيين ليس لديهم أية تجربة تكافئ البراجنا نوعيًّا، فاﻟ براجنا هي التجربة التي يحوذها المرء حين يشعر بكلية الأشياء اللامتناهية بحسه الأشد جوهرية، أي، بعبارةٍ سيكولوجية، حين يرجع الأنا المتناهي، مخترقًا قشرته الصلبة، إلى اللامتناهي الذي يشتمل على كل ما هو متناهٍ ومحدود وزائل بالتالي، ويمكن أن نعتبر أن هذه التجربة قريبة نوعًا ما من حدس كلياني بشيءٍ يتعالى على كل تجاربنا الخاصة، والمحددة.
٣
وفي النهاية، فإن ما يمكن أن نقوله هنا عن حياة الزنِّي ليس كثيرًا؛ ذلك أن سلوكه الخارجي ليس مهمًّا كثيرًا، فهو منكب تمامًا على حياته الداخلية، وتراه بأسمالٍ بالية يعمل بكدِّ عامل حقير، وكثيرًا ما وُجدَ زنيُّون متخفِّين بين المتسولين، في اليابان الإقطاعية، وثمة حالة واحدة على الأقل من هذا النوع، وحين مات هذا الرجل، فُحصت زبدية الرز التي كان يطوف بها مستوِّلًا طعامه ووجد عليها نقش بالصينية الكلاسيكية يعبر عن نظرته إلى الحياة وفهمه لزن. والواقع أن بانكئي، معلم زن العظيم، نفسه كان مرةً في رفقة المتسولين قبل أن يتم اكتشافه ويقبل تعليم أحد الأسياد الإقطاعيين في أيامه.
كان ثمة امرأة عجوز تدير صالةً للشاي أسفل جبل تايزان، حيث يقع دير لزن مشهور في الصين كلها، وكلما كان راهب مسافر يسألها عن الطريق إلى تايزان، كانت تقول: «سِر قُدمًا»، وحين كان الراهب يتبع هذا الاتجاه، كانت تُعلق: «وهذا واحد آخر يمضي في الطريق ذاته»، ولم يكن رهبان زن يعلمون ما يعنيه تعليقها.
وبلغ الأمر مسامع جوشو فقال: «حسنٌ، سأذهب لأرى أي نوع من النساء هي هذه المرأة»، وانطلق جوشو، وحين وصل إلى صالة الشاي سأل السيدة العجوز عن الدرب المؤدي إلى تايزان، وبالطبع فقد قالت له أن يمضي قُدُمًا، وفعل جوشو كما فعل الكثير من الرهبان قبله، وعلَّقت المرأة قائلة: «راهبٌ ممتاز، يمضي في الطريق ذاته مثل البقية»، وحين عاد جوشو إلى الأخوية، قال: «لقد اكتشفتُ هذه المرأة اليوم بكل ما في الكلمة من معنى!»
قد نتساءل: «ما الذي اكتشفه المعلم في المرأة ما دام سلوكه لم يكن مختلفًا أبدًا عن سلوك بقية الرهبان؟»، هذا هو السؤال الذي يجب على كلٍّ منا أن يحلَّه بطريقته الخاصة.
سوف أوجز الآن ما يقترح علينا زن القيام به: إنه التماس الاستنارة لأنفسنا ومساعدة الآخرين على بلوغها، وثمة لدى زن ما يمكن أن نطلق عليه اسم «صلوات»، على الرغم من أنها تختلف تمامًا عن الصلوات المسيحية، وسوف أذكر أربعًا منها، مع أن الأخيرتين هما بمثابة تضخيم للأولى والثانية:
-
(١)
مهما يكن عدد الكائنات كلها، فإنني أتضرع (أصلي) من أجل أن يتم إنقاذها جميعًا.
-
(٢)
مهما تكن الأهواء لا تنضب، فإنني أتضرَّع من أجل أن يتمَّ اجتثاثها جميعًا.
-
(٣)
مهما تكن الدهارما متباينة بما لا يُقاس، فإنني أتضرَّع من أجل أن تتمَّ دراستها جميعًا.
-
(٤)
مهما يكن طريق-بوذا رفيعًا وفائقًا، فإنني أتضرع من أجل أن يتم بلوغه كاملًا.
وقد يبدو زن في بعض الأحيان غامضًا جدًّا، وملغَّزًا، ومفعمًا بالتناقضات، لكنه في النهاية مذهب ونظام بسيط:
أفلا ينطبق هذا على الأوضاع البشرية كلها، حديثها وقديمها، في الغرب أو في الشَّرق؟
(٢) ما هو موقف زن من الأخلاق؟ ومن الحرمان السياسي والاقتصادي؟ ومن موقع الفرد ومسئوليته تجاه مجتمعه؟
(٣) ما الفرق بين الساتوري والهداية المسيحية؟ لقد قلتَ في أحد كتبك إنهما مختلفان، هل هناك أي فرق ما عدا الفروق الثقافية في طرائق الحديث عن هذا الموضوع؟
(٤) الصوفية المسيحية مفعمة بالصور الإيروسية، هل هناك أي أثر لذلك في الساتوري؟ أو ربما في المراحل السابقة على الساتوري؟
(٥) هل لدى زن معيار للتفريق بين التجارب الصوفية الأصلية وتجارب الهلوسة؟
(٦) ما هو اهتمام زن بتاريخ الفرد، وتأثيرات العائلة، والتربية، والمؤسسات الاجتماعية على تطور اغتراب الفرد عن ذاته؟ فقد اهتم بعضنا بهذا الأمر في علاقته بوضع حد للاغتراب لدى الأجيال الجديدة من خلال تحسين تنشئة الفرد، فضلًا عن المؤسسات الاجتماعية، فحين نعرف ما يحدد الصحة السيئة، يُفترض أن يمكننا فعل شيء حيالها قبل أزمة البلوغ.
(٧) هل يقدم زن أية أفكار فيما يخص أنواع التجارب التطورية في الطفولة والتي تساعد كثيرًا على إحداث الاستنارة في البلوغ؟
(٨) يبدو أن معلم زن يبدأ مع التلميذ دون انتباهٍ إلى إحساسه بنفسه كما هي عليه، أو على الأقل لا يتفاعل مع هذا صراحة وبصورةٍ مباشرة، ومع ذلك فإن من الممكن تصور أن مثل هذا الرجل قد يدخل زن انطلاقًا من فراغٍ أو حاجة إلى إيجاد إله جديد؛ الأمر الذي قد لا يكون واعيًا له، فهل يساعده على إيجاد سبيله لو كان مطِّلعًا على حقيقة أن اتجاهه الخاص سوف يحوِّل التجربة إلى رماد؟
هل يُقيم معلم زن نوعًا من التواصل بين إحساسه بالشخص وإحساسه بالعقبات التي قد تعترض طريقه؟ حتى لو لم يكن ثمة ميل لفعل ذلك، فهل من الممكن تصور أن القيام بهذا يجعل بلوغ الهدف أسهل؟
(٩) هل تشعر أن التحليل النفسي، كما تفهمه يوفر للمرضى أملًا بالاستنارة؟
(١٠) ما موقف زن تجاه الصور التي قد تظهر في سياق التأمل؟
(١١) هل يُعنى زن بإشكالية النضج الانفعالي وتحقيق الذات في الوجود الاجتماعي للإنسان؛ أي ﺑ «العلاقات بين الأشخاص»؟