المرآة
(١) هل تساعدنا الحيوانات على التفكير في أنفسنا؟
نجد حولنا في كل مكان الحيوانات المفترسة أو المنزلية، والحيوانات الكبيرة أو المجهرية، والحيوانات المفيدة أو الضارة من وجهة نظرنا، والحيوانات الجميلة والقبيحة وفقًا لذوقنا؛ فليس عجيبًا إذن أن يتأثر جزء كبير من ثقافتنا بالحيوانات.
فهي تساعدنا على التفكير أولًا في العلاقة الملموسة التي تربطنا بها في الحياة وعلى وضع حدود للمملكة الحيوانية في «الكون المحيط بنا». فما هو الحيوان من الناحية العلمية؟ ما الذي يميزه عن النبات؟ كيف تعمل أعضاء جسمه؟ فيمَ يستطيع أن يخدمنا؟ هل يُشبِهنا؟ (انظر الجزء الثالث من هذا الكتاب). وبلا شك تهم كل هذه الأسئلة المنطقية الفكر الإنساني بفروعه كافة: علم الأحياء وعلم الاجتماع والفلسفة والتاريخ والجغرافيا والطب … إلخ.
(١-١) العالَم الخيالي
لقد رأينا فيما سبق كيف يتسنَّى للإنسان أن يُمثِّل لنفسه في العديد من الديانات غير السماوية بنية الآلهة بفضل الحيوان الذي يكتسب الطابع الإنساني (انظر الفصل الثاني عشر). ولكن أيضًا في الدول العلمانية غالبًا ما يوفر الحيوان حكاية رمزية لتوجيه السلوك الإنساني؛ فلقد ذكرنا من قبل أساطير لافونتين أو خرافات إيسوب التي تستخدم الحيوانات من أجل إعطاء البشر دروسًا أخلاقية. وقد نضيف إلى ذلك ابتكار الحيوانات الخيالية مثل حصان الحريش وحورية البحر والتنين وهي كلها حيوانات تدعو إلى الحلم. وقد لجأتِ الفنون — أدبٌ ورسمٌ ونحتٌ وسينما … إلخ — مرارًا وتكرارًا إلى استخدام هذه الحيوانات الحقيقية أو الخيالية. ولنذكر أيضًا الاستخدام الشائع وفقًا للاعتقاد الشعبي للاستعارات حول صفات يُفترض أنها من صفات الحيوانات. فهكذا قد نتَّسِم بالشجاعة مثل الأسد، أو بالكسل مثل الحَنَش، أو بالعِنَاد مثل الحمار، أو بالفخر مثل الديك. وبالطبع لا ترتبط هذه الاستعارات إلا مِن بعيد بالسلوك الحقيقي لهذه الأصناف الحيوانية المذكورة! ولنذكر في النهاية أن الاستعارة الحيوانية قد تتعلق بكل أوجه الفكر الإنساني، ولنذكر مثال الاستعارة الدينية الشائعة في الدول المسيحية التي تشير إلى «حَمل الله».
ويجب أن نضيف إلى هذه الطرق المختلفة التي تساعدنا بها الحيوانات على التفكير الحالة التي تُساعد فيها الحيوانات فكرنا (الشاب) على النضوج، وهي حال الأطفال الذين حظوا بفرصة النمو مع حيوان أليف كقطة أو كلب، مما سمح لهم بتكوين علاقاتهم العاطفية، وهي أيضًا حال مَن لم يستطيعوا مجاورة حيوانات مثل دُمَى الطفولة التي ارتبط بها العديدون عاطفيًّا بل اندمجوا معها، ودونها ربما كان فكرهم البالغ لم ينضج بصورة متناسقة!
فتساعدنا الحيوانات طيلة حياتنا على التفكير أو الحلم أو الحب.
(٢) هل تساعدنا الآلات على التفكير في أنفسنا؟
لم ينتظر الإنسان ظهور علم الجراحة ليفتح جسم نظرائه. فقد حمله الفضول مبكرًا، ولكن ماذا يرى الإنسان حين ينظر بداخل جسم إنسان آخر؟ يرى في مجموعات العظام والأحشاء آلات، يرى آلات عصره.
(٢-١) الإنسان شبكة من القنوات
تطورت تقنيات الري منذ العصور الأولى لاستقرار الشعوب، وكانت كل الحضارات الكبيرة في القِدَم تَعرِف المبادئ الأساسية لعلم المياه، وفي اليونان ظهر الطب، ولا عَجَبَ إذا كانت أول استعارة تُستخدم لفهم عمل الجسم الإنساني هي تشبيهه بنظام ري. ويُظهِر تشريح جثث الحيوانات التي كانت تُقدم قرابين للآلهة وجود شبكة معقدة من القنوات التي تربط بين الأعضاء الخارجية والأعضاء المركزية، ولا سيما القلب والعقل، وهي شبكة مليئة بالهواء أو الدماء حسب الحالة. وفي ذلك العصر كان المفهوم السائد هو أن الأوردة تنقل الدم إلى القلب ولكن الشرايين تمتلئ بالهواء مثل المجاري الهوائية (في الواقع كانت الشرايين الملحوظة في جثث الحيوانات فارغة؛ وذلك لأن الدم خرج بسرعة من جسمها بعد الذبح). ولا تزال المصطلحات التشريحية تحتفظ ببقايا هذه الحيرة الأولية عبر كلمات مثل «القصبة الهوائية». ومن أجل تفسير الجريان المزدوج للدم لجأ بعض الأطباء القدماء مثل إمبيدوكليس إلى استعارة الساعة المائية التي كانت شائعة في هذا العصر التي كان من الممكن أن يتوقف معدل سيرها إذا أُغلق الثقب العلوي. فكان يتعين انتظار القرن السابع عشر لكي يقترح هارفي الاستعارة الأدق وهي استعارة المضخة لتوضيح جريان الدم.
ومنذ عصر أبقراط، تمَّ التعرف على شبكة الأعصاب التي تربط المخ بالأعضاء الحركية، وشُبهت بجهاز قنوات دقيقة للغاية تجري بداخلها «النفحة» وهي سائل مشتق من الهواء ولكن لا يشبهه مباشرةً. وتنتج الحركة العضلية عن وصول هذه النفحة إلى العضل. إلا أن مفهوم النفحة غير الدقيق والمثير للحيرة سيمتد وسيُعدل على يد أفلاطون وأرسطو وسيستمر استخدامه للإشارة إلى دور الأعصاب، وذلك حتى عصر النهضة.
(٢-٢) الإنسان آلة ذاتية الحركة
كان المفهوم الذي ذكره ديكارت في القرن السابع عشر في كتابه «ماهية الإنسان» قريبًا جدًّا من المفاهيم المائية والهوائية القديمة؛ حيث يقود جهاز غريب من القنوات والصمامات الروح الحيوانية — أي النفحة — حتى تصل إلى العضلات التي تنتفخ كالبالون، وذلك عبر حرارة نارية داخلية دون أيِّ ضوء داخل الجسم. وابتعد الفيلسوف الفرنسي قليلًا عن الأطباء اليونانيين؛ فاقترح اعتبار الآلية الإنسانية جهازًا آليًّا لا يحتاج إلى أيِّ قوة خارجية ليعمل. أما الروح التي اهتمَّ ديكارت بفصلها عن الجسم فهي لا تلعب بصفة خاصة أيَّ دور مباشر في عمل هذه الآلة (انظر الفصل التاسع عشر). ثم حلَّتِ الساعة الحديثة بصورة نهائية محلَّ الساعة المائية القديمة وأصبح جسمنا إذن آلة تشبه مباشرةً العجائب التي يستطيع إنتاجَها صانعو الساعات الأوائل.
سعى ميكانيكيو عصر النهضة منذ بداية القرن الثامن عشر إلى إعادة إنتاج الآلة الإنسانية في شكل جهاز يستطيع أي شخص أن يلاحظه ويفهمه، مستلهمين في ذلك من هذه الرؤية الآلية للإنسان المصنوع من أسطوانات وصمامات ومحركات. فهكذا بعد أن تناول جاك دي فوكونسن موضوع التنفس مع آلته العازفة للفلوت، وموضوع الهضم مع بطته، جرب الكاوتشوك المستورد حديثًا من أمريكا الجنوبية لتصميم «آلات متحركة» وفسر عبر هذا المثال جريان السوائل في الجسم.
رفض العديد من الكُتَّاب، ومِن بينِهم الطبيب لاميتري، ازدواجية ديكارت غير المجدية واقترحوا نهجًا أكثر مادية. ففي المقابل كان كتاب لاميتري «الإنسان-الآلة» يبرز خاصةً ما يميز الأنسجة الإنسانية ويبرز أيضًا لامركزية عمل الجسم وخصائص أخرى لا تتفق والاستعارات الآلية المستخدمة في ذلك الوقت، مع الحرص على تشبيه التعقيد البيولوجي بآلات القرن الثامن عشر. إلا أن هذا الكتاب سيُحرَق وسيُجبَر لاميتري على النفي، ومع ذلك فهو بلا شك أحد الذين أثبتوا التشابه الكبير بين الإنسان والحيوان من جهة، ومن جهة أخرى التعقيد الغريب للآليات البيولوجية التي يصعب تفسيرها في ظل معارف هذا المهندس في القرن الثامن عشر.
(٢-٣) الإنسان جهاز كهربائي
على الرغم من رواج استعارة النفحة في النقل العصبي على مدار آلاف السنين فإنها يجب أن تتخلى عن مكانها بسبب ظهور تقنيات جديدة. فيوضح بوفون على سبيل المثال أن العمل الحركي يستخدم أثرًا قريبًا من الانفجار، وهو ما يشبه ما يحدث في الأسلحة النارية. وتُظهِر تجارب جالفاني وفولتا أن العضلات تتقلص بالتلامس مع تيار كهربائي، وتقترح هذه التجارب أيضًا أن ثمة مجالًا واعدًا لتفسير الآثار العصبية، ألا وهو مجال الكهرباء. وفي القرن التالي عندما أيَّد كلٌّ من هلمهولتس وإميل دوبوا ريمون الفرضية القائلة إن الآثار العصبية هي ظواهر كهربية، أصبحت الاستعارة المائية والهوائية بالية. وفي عشرينيات القرن الماضي أثبت اللورد إدجار دوجلاس أدريان وجود «حركات كامنة» ورموز تتردد للنقل بين الخلايا العصبية؛ فأصبحتِ الكهرباء، وليستِ النفحة، هي الآلية الأساسية للحياة.
وعلى غرار كل تقنية جديدة، امتدت الاستعارة إلى حدودها القصوى. ففي عصر النموذج المائي كانت كل الأمراض تُشخَّص على أنها مشاكل في جريان السوائل أو توزيعها؛ فكان الطبيب بمنزلة سَبَّاك. وفي عصر الكهرباء كان الطبيب يُعالِج المرضى عن طريق تيارات طبيعية أو اصطناعية؛ فكان بمنزلة الكهربائي. ولكن مع تطور التقنيات لا يتوقف التاريخ عند هذا الحد.
(٢-٤) الإنسان كمبيوتر رقمي
في منتصف القرن العشرين أَعلَنَ اختراعُ الكمبيوتر عن ثورة آلية ثالثة. فبَعدَ بضعة أعوام في كامبريدج أدخل اكتشاف واتسون وكريك لبنية الحمض النووي مفهوم البرنامج الشامل «المشفَّر» وفقًا لترتيب الجزيئات. ويحتوي هذا البرنامج على المعلومات التي تسمح ببناء الجسم في مجمله. وتَسُودُ هذه الاستعارة المعلوماتية حاليًّا معظم علم الأحياء الجزيئي ودراسة تكوين الأجنة. ومع فك رموز الجينوم يعتقد البعض أنه يمكننا التنبؤ ليس فقط بالتطور التشريحي لشخص ما ولكن تطور نفسيته أيضًا.
ولقد حول الكمبيوتر أيضًا طريقة فهمنا لعمل العقل البشري (انظر الفصل الثالث). وازدهرت نماذج جديدة تدخل فيها معطيات وتخرج معطيات أخرى وتظهر فيها علب سوداء متداخلة. وغالبًا ما توصف الذاكرة بقاعدة بيانات واسعة، وتقارِن العديد من الأبحاث بين قدرات العقل على التخزين وقدرات نظيره الاصطناعي. وتستمر الاستعارة في نجاح لدرجة أننا نعتقد في النهاية أن الأمرين شيء واحد.
وهكذا على مرِّ القُرون رأى الإنسان نفسَه على التوالي آلةً مائية هوائية ثم ذاتية الحركة ثم كهربائية واليوم آلة رقمية. ويعطي كل اختراع جديد رؤية جديدة عن الكائن الحي دون أن تكون رؤية مُرضِيَة بصورة كاملة. فيبقَى دائمًا «شيء» يبدو أنه من الصعب اختزاله في آلية، ويرى الكثيرون أن هذا «الشيء» الذي لا نراه إلا بالتفرقة هو ما يميز الإنسان عن سائر المخلوقات.