المزج
(١) هل سنرى في المستقبل كائنات تمزج بين البشر والحيوانات؟
من الناحية الخيالية يُعتبر المزج بين البشر والحيوانات أمرًا شائعًا بصورة كبيرة مثل حوريات البحر (التي هي مزيج بين نساء وأسماك) أو القنطور (الذي هو مزيج بين رجل وحصان)، أو حتى صور الآلهة التي تجمع بين الصفات الإنسانية والحيوانية مثل الإله الإغريقي بان الذي كان نصفه إنسانًا والنصف الآخر تيسًا، وكذا إضفاء الطابع الإنساني على الحيوانات (انظر الفصلين الثاني عشر والثالث عشر). ولكن يختلف الأمر كليًّا من الناحية الواقعية.
يُعَدُّ المزج بين الجنس البشري والأصناف الحيوانية عبر التكاثر الجنسي، أيِ التهجين، مستحيلًا في ظل معارفنا الحالية؛ وذلك لأسباب بيولوجية. فلا وجود إذن لفروع من البشر والشمبانزي على غرار الكائنات المهجنة بين الحمار والحصان أو بين النمر والأسد، وذلك لحُسْن حظِّنا بالطبع. وعندما نعرف الطريقة التي يُعامِل بها البشرُ الحيوانَ أو حتى الطريقة التي يُعامِل بها بعضُ البشر نُظَرَاءَهم من «العبيد» أو مِن «دون البشر» فيمكننا أن نتخيل المصير البائس الذي سيلقاه مثل هؤلاء المهجنين من البشر والحيوانات إذا كان لهم وجود!
ومن الناحية العلمية، ثمة احتمالات أخرى لهذا النوع من المزج وبصفة خاصة ما نسميه «الكمير» و«زراعة الأعضاء».
(١-١) الكمير وزراعة الأعضاء
أما زراعة الأعضاء فتكمن، من الناحية التي تخصنا، في إدخال «عضو حيواني» في جسم إنساني في وقت تكون فيه آليات الرفض المناعية مُشكَّلة بالفعل. ومن أجل أن يبقى العضو المزروع في الجسم المستقبِل يجب أن يحصل الجسم بصفة عامة على جزيئات «مضادة للرفض» تقلل من دفاعه المناعي. وفي هذه الحالة، وعلى عكس ما يدور في الكمير، لا ينمو العضو المزروع ويكتفي «بالإقامة» في الجسم المستقبِل للحصول على الآثار النفسية المشابهة لتلك التي تنتج داخل الجسم الأصلي. فهو يمثل إذن «عضوًا بديلًا» يُفترض أن يكون مفيدًا من الناحية العلاجية لتعويض نقص ما أو غياب عضو لدى الجسم المستقبِل.
(١-٢) نقل الأعضاء من حيوان إلى إنسان
يوجد كما نعلم العديد من عمليات نقل الأعضاء بين البشر (نقل الكلى والقلب والوجه واليد والقرنية … إلخ، ويُعتبر نقل الدم أيضًا نقلًا لعضو سائل وهو الدم). أما نقل الأعضاء الحيوانية فيُعتبر أكثر ندرة ومحلًّا للعديد من الأبحاث التي لم يستخدمها الإنسان حتى الآن؛ لذا يسعى العلماء إلى استحداث عمليات نقل أعضاء من خنازير إلى قرود، ويأملون في التوصل إلى تطبيق ذلك على الإنسان على المدى البعيد. وخلافًا لنقل الأعضاء بين أبناء الجنس الواحد، يُطلق على نقل الأعضاء بين الحيوان والإنسان (أو وفقًا للنموذج التجريبي هنا، بين الخنازير والقرود) نقل الأعضاء بين الكائنات الحية الذي قد يكون فيه الإنسان هو المستقبِل.
ولكي نعود في النهاية إلى مسألة المزج بين الإنسان والحيوان، فنرى أنه ينبغي العدول عن مثل هذا المزج في المستقبل بشتى السبل الممكنة، وذلك لأسباب علمية واقتصادية وأخلاقية في آنٍ واحد!
(٢) هل سنصبح كلنا «سايبورج» في المستقبل؟
(٢-١) تطور الإنسان المُقَوَّم على حساب الإنسان المُطور يثير النقاش
إن جهاز تنظيم ضربات القلب والشرايين والأوراك الاصطناعية وسماعات الأذن المزروعة ومضخات الأنسولين وحتى التركيبات السيراميكية للأسنان؛ هي كلها بدائل تقنية تسمح بالعيش بصورة أفضل ولفترة أطول. وتتجه الأبحاث حاليًّا نحو واجهات جديدة تسمح بالربط المباشر بالألياف العصبية. فعلى سبيل المثال يمكن لشخص قُطِعَ ذراعاه أن يستخدم بدائل روبوتية يتحكم فيها بصورة مباشرة — السيال العصبي — حتى يتمكن من استعادة بعض القدرات على استخدام الأشياء. ويعود حاليًّا بعض مرضى داء باركينسون إلى الحياة بفضل جهاز اصطناعي لتنشيط الخلايا العصبية لمادة الدوبامين. وهي كلها تقنيات جراحية؛ لأنها تتطلب عملية جراحية تختلف أهميتها حسب الحالة. فيتعين إذن أن تكون هذه الآلات المزروعة مباشرةً داخل جسم الإنسان موثوقًا بها وعمرُها طويلٌ إلى درجة كبيرة.
ويُعتبر الانتقال من الإنسان «المُقَوَّم» إلى الإنسان «المُطوَّر» محل العديد من النقاشات. فإن أوسكار بيستوريس الرياضي الجنوب أفريقي الذي بُترتْ ساقاه يجري حاليًّا بسرعات تسمح له بالمشاركة في الألعاب الأوليمبية العادية، وذلك بفضل البدائل المُركَّبَة في جسمه. وكذا كيفين وارويك الباحث البريطاني الذي زرع العديد من الشرائح الإلكترونية في ذراعه بهدف التحكم في بعض الأجهزة عن بُعْدٍ. وتجري الآن دراسة العديد من مشاريع الجنود «المطوَّرين»؛ فيحلم البعض بتوسيع مدى إدراكهم للأشعة تحت الحمراء وفوق البنفسجية والأشعة السينية والموجات فوق الصوتية، وأن يُزوَّدوا بحسٍّ جديد للتوازن، أو أن يكون بينهم ترابط عن بُعدٍ بزَرْع بدائل ليست ذات غاية طبية بالتأكيد.
(٢-٢) كلنا سايبورج
ماذا عن هذه التطورات؟ بالرغم من التأثير الذي قد ينعكس على الخيال من جراء البدائل الجراحية الموصلة بالجهاز العصبي بصورة مباشرة، فمِن غير المرجح أن يتجاوز استخدامها المجال الطبي. ففي الواقع يصعب تخيل كيف يمكن لهذه البدائل المزروعة أن تُغني عن عمليات جراحية معقدة يجب إجراؤها في المستشفيات. ونظرًا للسرعة التي تتطور بها التكنولوجيا (انظر الفصل الأول) والتي يُعَفِّي بها الزمن الأنظمةَ التقنيةَ والمعاييرَ، فلا يبدو أن زرع جهاز بصورة دائمة تحت الجلد فكرة جيدة. فمَن يستطيع اليوم أن يستمتع بوجود جهاز إلكتروني تحت جلده منذ عام ١٩٨٠؟ وإذا استطاعتِ التكنولوجيا في المستقبل تعويضَ عددٍ أكبرَ من الإعاقات، فإنه من غير المرجح أن يتم استخدامُها بصورة شائعة من أجل الراحة والفراغ والتسلية.
لقد وُلد معظمنا في مستشفًى وندين بحياتنا لهذه البيئة الاصطناعية. ولقد حظِينا بالرعاية، وتم تطعيمُنا بفضل المهارات والخبرات التي تمَّ تناقلُها عبر الأجيال. ولقد تعلمنا التحدث ثم الكتابة وفقًا لمجموعة من التقنيات اللغوية القديمة دائمة التطور؛ مما سمح لنا بالتفاعل مع العالم والتمثيل والنقل. وتعلمنا أيضًا التحكم في أنفسنا بصورة مباشرة وتعديل مزاجنا أو إرادتنا عبر مواد استطعنا زراعتها أو استخراجها مثل الكافيين أو النبيذ أو المخدرات الأخرى المضرة لجسمنا. وقد يموت بعضنا بصحبة التكنولوجيا والبعض الآخر يفضل أن يكون بمعزل عنها. فمنذ اللحظة الأولى في حياتنا وحتى الرمق الأخير منها نعيش في اتحاد مع التقنيات التي ابتكرناها، فهي حقًّا تحدد هويتنا وتحولنا.
(٢-٣) الجلد ليس هو الحدود القصوى لجسمنا
عندما نتفاعَلُ مع أجهزة تقنية يمتد جسمنا وتتغير هيئته. فالعصا والمطرقة والقلم والشوكة وآلة التقشير والمضرب والسيف كلها أدوات تُطيل يَدَنا حتى نجدها بالتعود مُدمجَة في أجسامنا بصورة كاملة. فنقوم تلقائيًّا بالانحناء قليلًا أثناء السير إذا كنا نرتدي قبعة أو نغير من طريقة سيرنا إذا كنا نرتدي خفًّا ناعمًا أو حذاءً ذا كعب عالٍ.
يُعتبر إذن غلافنا الجسدي قابلًا للامتداد ومتغيرًا؛ فنمدده عبر المطرقة التي نُمسِك بها في أثناء دق مسمار، وبعد انتهاء العملية تعود الأداة لتصبح شيئًا خارجيًّا في متناول اليد لكنه بعيد عنها. ولا يكون شكل جسدنا في ذلك الوقت نموذجًا له بل هو مساحة هندسية متغيرة. ففي كل حين، نقوم نحن بدور السرعة القصوى أو طرف العصا أو حد السيف أو أيقونة الفأرة. فهكذا نتفاعل ونشعر ونقيس.
إن عملية الإدماج التي لا تزال غير مفهومة جيدًا وغير مدروسة باستفاضة، تُعَدُّ عملية أساسية، فالحياة عبارة عن تحولات مستمرة.
(٢-٤) ذاكرتنا ليستْ في رأسنا
توجد ذاكرتنا في الخارج، فهي موزعة في البيئة المحيطة بنا ومحفوظة على جدران الكهوف ومدونة على الألواح وعلى جلود الحيوانات وفي كتب مطبوعة أو رقمية: ذاكرة لا تكون أبدًا مباشرة بل مهيكلة ومتاحة عبر أجهزة تقنية، فذكرياتنا وما نعتقد أنه يُذكِّرنا ليستْ إلا إدخالًا للتمثيلات الخارجية. فنحن نتذكر قصيدة أو رقمًا أو قائمة أو خطة، وأحيانًا نستغرق وقتًا لتذكر معلومة ونظل نتلعثم في اسم مدينة كان «على طرف اللسان». وينبغي علينا أن نحرك أصابعنا لكي نتذكر الرقم السري لبوابة ما. ويكون أحيانًا أكثر سرعة وفاعلية أن نتذكر معلومة بفضل أجندة رقمية أو محرك بحث قادر في بضع ثواني على تصفح قواعد بيانات هائلة.
يحاول مرضى ألزهايمر تعويض فقدان الذاكرة عبر بيئات مهيكلة جيدًا يقوم فيها كل شيء بدور جهاز مساعد للذاكرة؛ لذا يُعتبر أيُّ هدْم أو تحويل لهذه البيئة التي شيَّدوها بمنزلة بتْر جزء منهم شخصيًّا. ونحن جميعنا مصابون إلى حدٍّ ما بمرض ألزهايمر: بما أن جزءًا منا يقع خارجنا في الأشياء المحيطة بنا؛ لذا قد يسبب الانتقال من مسكن إلى آخر الاضطراب في بعض الأحيان، فيتعين علينا في هذه الحالة تعديل سلوكيات روتينية وأوضاع معتادة وطرق يمكننا سَلْكُها مُغمضِي الأعين، وبناء كل هذه الأمور في مكان آخر؛ فتغيير بيئتنا يقلب أمورنا.
ومع تزايد بدائلنا الإدراكية، يقل استخدامنا لقدرتنا على حفظ المعلومات والمهارات، فالآلة الحاسبة تُغني عن الحساب العقلي، وكذا نظام تحديد المواقع الذي يُغنينا عن القدرة على تحديد الاتجاهات، بالإضافة إلى الموسوعات الرقمية التي تُغنينا عن الاستذكار. فتتحرر أجزاء من فكرنا لاستكشاف مجالات أخرى من التفكير.
فنحن إذن سايبورج، نستعين بصورة متزايدة بالبدائل الخارجية للتحرك والتفكير والابتكار ولتحديد هويتنا. ووفقًا لمقولة ميرلو-بوتي: «يوجد جسمنا في المكان الذي تقع فيه الحركة»؛ فهو يتغير ويتمدد ويصغر ويتحول باستمرار. ومع الوقت يحدد تاريخُ تفاعُلاتِنا المطوَّرة عبرَ البدائل هويَّتَنا، وهي قصة تُعَدُّ في حد ذاتها بناءً تقنيًّا. ولا شيء يدعو إلى الاعتقاد أن هذه العملية قد تتباطأ.