الروح
(١) هل تمتلك الحيوانات روحًا؟
يتوقف ذلك على ما نقصده ﺑ «الروح».
توجد في الواقع العديد من المفاهيم للروح، ويمكن جمعُها بصورة إجمالية في نوعين كبيرين؛ النوع الأول: تكون فيه الروح إحدى الخصائص العامة لحياة الكائنات الحية وجسدها، والنوع الثاني: لا تنتمي فيه الروح للجسد ويمكنها أن تنفصل عنه.
(١-١) الروح والأديان
يختلف هذا المستقبل وفقًا للأديان. فتؤمن ديانات عِدَّة ﺑ «تناسُخ الأرواح» أيْ عَوْدة الروح إلى الدنيا بعدَ وفاتها في جسد آخر. وقد يكون هذا الجسد عامةً جسد حيوان، وذلك ما تؤمن به ديانات المشرق مثل الهندوسية أو البوذية مع مراعاة اختلافاتهما. وكان ذلك أيضًا رأيَ العديد من فلاسفة اليونان مثل فيثاغورس وأفلاطون. وفي المقابل، يكون مصير الروح بعدَ الموت في الديانات السماوية مختلفًا عن إعادة التجسد. فوفقًا لهذه الديانات التي تؤمن بوجود «جَنَّة» بعدَ الموت، تَطرَح مسألة روح الحيوانات ومستقبلها نفسَها بصورة مشروعة على عكس المفهوم الأرسطي وفكرة «تناسُخ الأرواح» اللذين لا تُطرَح فيهما هذه المسألة.
تدفعنا العقيدة المسيحية بصورتها التقليدية السائدة حاليًّا في الغرب إلى الاطِّلاع على أعمال ديكارت في هذا الشأن. فيرى ديكارت أنه إذا كان جسد الإنسان والحيوان نوعًا من «الآلات» (انظر الفصل السادس)، فإن البشر وحدَهم، الذين خلقهم اللهُ على صورته، يمتلكون روحًا أبدية وقادرة على البقاء بعدَ موت الجسد. وتُسمَّى هذه الحقيقة المزدوجة للإنسان، كجسد وكروح، «الازدواجية الديكارتية» وتظل إحدى الأفكار الأكثر انتشارًا في الحضارة الغربية. فنحن نرى دائمًا أن الحيوانات لا تمتلك روحًا بل تمتلك فقط جسدًا يختفي بعد الموت ولا يبقى بعده شيء، وذلك خلافًا للإنسان.
(١-٢) الروح والإلحاد
لا يمكن أن يكون هذا البقاء غير محدود؛ فيسبب موت الجسد بالضرورة انقطاعًا جوهريًّا في شبكة المعلومات التي تبقى بعده. وعلى غرار الموجة في المستنقع، تكون نهاية الروح بالمعنى الذي حدده لازار هي الاختفاء، فتختلف بذلك عن الروح المقصودة في الأديان، وتقترب من المفهوم الأرسطي في ارتباطها الوثيق بالجسد البيولوجي مع الاحتفاظ بنوع من الاستقلالية تجاهه. وإذا كان الملحد يَقبَل هذه الفكرة فهي لا تتعارض مع ذلك مع مفهوم أكثر تديُّنًا ومماثل للمفاهيم المذكورة فيما سبق. ولكن سيُقدِّم المؤمنون بالأديان افتراضات ميتافيزيقية إضافية فيما يتعلق ببقاء الروح وهو ما يفوق ما يستطيع الملحد أن يقبله.
(٢) هل تمتلك الآلات روحًا؟
لا، لا تمتلك الآلات روحًا وفقًا لتعريفها. قد تكون تلك إجابة أولية بسيطة وحاسمة. ففي الازدواجية الديكارتية شبه الهزلية، توجد الآلية التي تُفسِّر غالبية عمل الإنسان، وكذا «العامل الدخيل» الذي يمثل هذا الفارق الذي يميز الإنسان والذي لا تستطيع الآلة إدراكه. ويرى الكثيرون أن العامل الدخيل هو تحديدًا الروح التي تُعرف فقط بعدم انتمائها للآلية (انظر الفصلين الثاني عشر والثالث عشر).
ولكننا ذكرنا أيضًا أن مفهوم الروح قد يختلف وفقًا للعادات. فعلى سبيل المثال يَرَى أفلاطون أن الروح غير مادية ومتنقلة وقادرة على الإقامة في أجساد مختلفة على التوالي. في المقابل يَرَى أرسطو أن الروح قبل كل شيء مبدأٌ حياتيٌّ مسئولٌ عن حركة الكائنات الحية؛ فهي لا تتنقل من جسد إلى آخر خلافًا لما يقوله أفلاطون. وكما سنرى لاحقًا، نجد مفاهيم مماثلة في التطورات الأخيرة لعِلْمِ تصميم الروبوتات والذكاء الاصطناعي.
(٢-١) لدى بعض الآلات برامج غير ملموسة ومتنقلة وجسد مادي مستقر
نَجِد أمثلةً واضحةً على فكرة وُجود روح فاعِلة «تسكن» جسدًا خامدًا، وذلك في العديد من الآلات المبرمجة القديمة والحديثة. وتتسم العديد من الآلات التي صُمِّمتْ في القرن الثامن عشر بنوعٍ من الفصل بين مجموعة ميكانيكية وعملية تشغيل قابلة للبرمجة. فكانتِ الآلة العازفة للفلوت التي ابتكرها جاك دي فوكونسن على سبيل المثال تستطيع إنتاج اثنتي عشرة نغمة مختلفة. وبإتقان الآلية ذاتها، كانت آلة الكاتب التي صنعها بيير وهنري-لوي جاكيه درو تمتلك أربعين كامة تتحكم في حركة الريشة. وكان الجسم نفسُه يستطيع أداء مقاطع مختلفة وفقًا لموضع نظام الكامات. ثم تَضَاعَف تدريجيًّا عدد الأجهزة الميكانيكية التي تُتِيح البرمجة: آلات نسج وبطاقات مثقوبة وفونوجراف. ثم تطورت عمليات التشغيل في شكل برامج أكثر استقلالية عن الجسم الميكانيكي للآلة.
(٢-٢) يبدو أن مفهومَيِ المادي وغير المادي مرتبطان أحدُهما بالآخر بصورة وثيقة
لا يمر فصل الروح عن جسد الآلة دون حدوث مشاكل. فقد ظهر في الخمسينيات عِلْمَان متكاملان. فمِن ناحيةٍ عمل الباحثون في الذكاء الاصطناعي على تخيل لوغاريتمات تسمح للآلة بالترتيب والتنبؤ واتخاذ القرار، ومن ناحية أخرى طوَّر علماء الروبوت مستشعرات جديدة (لكشف الحواجز وفهم الطبيعة بصورة أفضل، إلخ.) وأنظمة حركة جديدة (للتنقل والإمساك بالأشياء، إلخ.) موسِّعين بذلك العالَم الذي يمكن للروبوتات أن تتطور فيه.
واختلف العِلْمَان بطبيعة الحال. فلم يَعُدِ الكثيرون من الباحثين في الذكاء الاصطناعي يعتبرون الجسد مكونًا أساسيًّا من مكونات بحثهم، بل فضَّلوا تكثيف جُهُودِهم على وضْع نموذج لسلوكيات إدراكية إنسانية معقدة، وأعدُّوا نماذج للذكاء الإنساني ملائمةً للتشخيص الطبي أو لإثبات المبرهنات الرياضية أو للألعاب المنتشرة في المجتمع. وتعزز هذه اللوغاريتمات الرؤية التي تعتبر الذكاء الإنساني قبلَ كلِّ شيء نظامًا يستخدم الرموز. واستحوذتِ النفسية الإدراكية على هذا الافتراض الذي يؤكد أن عملية معالجة المعلومات تعبِّر عن آليات الذكاء بصورة أفضل من النظريات السلوكية المنتشرة فيما وراء الأطلنطي. وثمة افتراضات تختزل الفكر في مجموعة من العمليات الحسابية الرمزية فرضتْ نفسَها. أما الجسد فكان منسيًّا وفُصِلَ بصورة لا رجعةَ فيها عن آليات الذكاء.
وفي حين أنه كان يوجد مجال بحث يستكشف الذكاء بعيدًا عن الجسد، عمل مجال آخر بالطريقة ذاتها على تطوير أجساد بلا ذكاء. فقد وُضعتِ الروبوتات الصناعية الأولى في بيئات قابلة للتنبؤ ومحكومة إلى أقصى درجة، فكانت تنفذ حركات معيارية في خطوط تركيبها بالمصانع. وفي ورش العمل كانت تقوم بأعمال نمطية بكل دقة. ولكن للأسف بمجرد أن تعلَّق الأمر بتطوير آلات في بيئات غير مصطنعة أو غير معروفة مسبقًا أو متغيرة، بدت برمجة سلوك الروبوتات مستحيلة.
وفي الفترة من الخمسينيات وحتى نهاية الثمانينيات في القرن العشرين، كان للانفصال بين مصممي «الأجسام» وباحثي «الذكاء» نتائج مباشرة انعكست على أداء الآلات المنتَجَة. وللخروج من هذا المأزق، ظهرتْ مدرسة جديدة للتفكير في نهاية الثمانينيات ضمت بعض الباحثين مثل رودني بروكس ولوك ستيلز ورولف فايفر. وكان الذكاء الاصطناعي المُجسد يرفض النهج الرمزي وغير المُجسد للذكاء الاصطناعي «التقليدي»، وأوضح هؤلاء الباحثون أنه لا ذكاء بلا جسد وبلا بيئة، وأنه لا يمكن وضع نموذج للجسد ولا للبيئة؛ فينبغي إذن على الأبحاث أن تتخلى عن بناء نماذج للواقع الخارجي للتركيز على التفاعل المباشر مع البيئة. ويرى رودني بروكس أن «العالم هو أفضل نموذج لنفسه.»
أدت هذه التغييرات في الرؤية إلى تجديد التجارب الروبوتية والعودة إلى أساليب تصميم وتجربة كانت تميز علم تصميم الروبوتات قبل ظهور الكمبيوتر الرقمي. فقد اتُّخِذ الإنسان الآلي الذي يُشبِه السلحفاة والذي صمَّمه جراي والتر عام ١٩٤٨ مثالًا لما يجب أن تكون عليه أيُّ آلة ذات أداء قويٍّ، مما أدخل بصورة بارعة مفهوم الآلة المادية ذات السلوكيات المأمولة. وكانت هذه الروبوتات المتشابهة قادرة على القيام بتصرفات معقدة دون استخدام لوغاريتمات ذكاء اصطناعي. وكان تصميمها يأخذ في الاعتبار طبيعتَها الفيزيائية الخاضعة للجاذبية والاحتكاك، التي تُحاكي الحواس بحركاتها. وكانت طبيعة نظامها الحسي ووضعُه يسمحان لها بحلِّ مَهَامَّ معقدة كإيجاد موقع إعادة الشحن دون الحاجة إلى القيام بأيِّ عملية استدلالية. ومن خلال هذا النهْج، كانت «روح» الآلة مرتبطة بصورة وثيقة بجسدها؛ حيث ينبغي تصميم الاثنين معًا لكي يُمثِّلا كلًّا متماسكًا.
(٢-٣) مفهوم الروح كمبدأ مُحرِّك ولكن غير متحرك
وفقًا لوجهة نظر أرسطو المعارضة لوجهة نظر أفلاطون في هذا الشأن، تُحرِّك الروح الأجسام، ولكنها غير متحركة في حد ذاتها. وتتردد هذه الرؤية التي تَعتَبِر الروح مبدأً محرِّكًا ولكن غير متحرك في العديد من المفاهيم الحديثة في علم تصميم الروبوتات. ففي بداية التسعينيات كانت تجارب الذكاء الاصطناعي الجديد تتركز أساسًا على وضع نموذج لسلوك الحشرات، وهو مثال بعيد استراتيجيًّا عن برامج الذكاء الاصطناعي التقليدي التي تلعب الشطرنج. ولكن في الأعوام التالية، حاول بعضُ الباحثين مدَّ النهج ذاتِه ليشمل تصميم روبوتات قادرة على التعلُّم كالأطفال الصغار؛ أيْ بصورة مستمرة ومفتوحة (انظر الفصل الخامس).
إجمالًا، فإن الأبحاث الحديثة عن الذكاء الاصطناعي لا تجعل منا آلات بلا «روح»، بل تدعونا في المقابل إلى التفكير في المفاهيم الفلسفية المختلفة حول الروح وحول طرق تجربتها في الواقع.