الوعي
(١) هل تمتلك الحيوانات وعيًا؟
نعم يمتلك العديد من الحيوانات وعيًا، ولكنه لا يشبه وعينا بالضبط.
دفع عدم قدرة الحيوانات على التكلم عددًا من الفلاسفة إلى التأكيد بأنها لا تفكر ولا تتألم بما أن المعاناة تفترض وجود نوع من التفكير الواعي (انظر الفصلين السادس والرابع). ويرى العديد من العلماء وفيهم العلماء المعاصرون أنه لا وجود للتفكير ولا للوعي دون تحدث. ولكن جاءت الأبحاث الحديثة حول سلوك الحيوانات لزعزعة هذه «الحقائق» الفلسفية.
(١-١) اختبار المرآة
غالبًا ما نقصد «بالوعي الظاهري» «إدراكنا لوعينا» أيِ الوعي بالذات عن طريق التفكير، وهو شديد الأهمية في نظر الإنسان، ونفضل تسميته «الوعي التأملي» إذا استخدمنا التعبير الدارج. ونظرًا لأن الحيوانات لا تتحدث عن وعيها، فيبدو من الصعب معرفة ما إذا كانت تمتلك هذا النوع من الوعي التأملي أم لا، إلا أن العلماء قد ابتكروا اختبارًا يُسمى «اختبار المرآة» ويسمح بتكوين فكرة عن هذا الأمر. وفيما يلي مبدأ هذا الاختبار: عندما يخلد شمبانزي إلى النوم نرسم على الجانب الأيسر من جبينه على سبيل المثال بقعة ملونة، وعندما يستيقظ وينظر في المرآة سيسعى إلى محو هذه البقعة، ما يفترض أنه تعرف على نفسه في المرآة وأنه لا يعتقد أن الأمر يتعلق بشمبانزي آخر. فعلى الأقل يسمح هذا الاختبار إذن بإبراز وجود وعي تأملي لدى الشمبانزي. وقد نجح الاختبار ذاته لدى الفيلة، ومن المرجح أنه سينجح أيضًا في الأعوام القادمة لدى عدد كبير من الثدييات والطيور الأكثر «ذكاءً».
وعلى صعيد البنية المخية، نعرف أن مقر الوعي يوجد في الجزء الأعلى من المخ أي في القشرة المخية الموجودة لدى كل الفقاريات من الحيوانات، والتي يمتلك الأخطبوط مثيلًا لها. أما التفكير الإدراكي فمقره في المناطق الأكثر ارتفاعًا من القشرة المخية المتطورة بصورة خاصة لدى الثدييات، التي تُسمى القشرة الجديدة، أو في مناطق قد تلعب الدور ذاته لدى بعض الطيور. وبلا شك فإن تقنيات التصوير المخي التي تسمح إلى حد ما برؤية مناطق المخ التي تنشط خلال بعض العمليات العقلية، ستتوصل في المستقبل إلى تحديد المناطق الخاصة التي تنشط مع ظهور الوعي التأملي.
(١-٢) حدود الوعي
فيما يتعلق بالوعي، يتعين أيضًا أن نذكر نتائج شائقة للغاية توصلت إليها العلوم البيولوجية التي تقترح أن الوعي بالنسبة إلى عالم الكائنات الحية ربما لا يحظى بالأهمية التي نُولِيها إليه نحن البشر، وأن أهم السلوكيات التي يقوم بها الإنسان قد تكون نابعة من المخ في غياب الوعي.
وهذا ما تؤكده الأعمال الشهيرة للباحث الإنجليزي بنجامين ليبت وزملائه (١٩٨٣). وبطريقة أبسط، يسجل هؤلاء الباحثون الظواهر العقلية الكهربية لدى بعض الأشخاص الذين يُطلب منهم اتخاذ قرار للقيام بحركة بسيطة، كالضغط على زر على سبيل المثال. وتوجد أمامهم ساعة تسمح لهم ﺑ «رؤية» الوقت الذي يتخذون فيه القرار. فتسمح التسجيلات العقلية الكهربية التي يقوم بها العلماء بإظهار أن المخ قد اتخذ بالفعل (بصورة لا واعية) القرار، أي العامل الذي سيدفعهم إلى الحركة قبل أن يعي هؤلاء الأشخاص أنهم قد اتخذوا القرار بمئات من الملِّي ثوانٍ. وفي الواقع يمكننا أن نرصد في التسجيلات العقلية الكهربية إشارة كهربية محددة و«لا واعية» تعلن عن الحركة قبل الرصد المدرك الذي يقوم به الأشخاص للساعة بمئات من الملِّي ثوانٍ.
وتكون إذن النتائج التي يمكننا استخلاصها هي أن مخنا «المُستحدَث» عبر التطور الطويل لأسلافنا الحيوانات يُعتبر قبل كل شيء آلية مرنة جدًّا سمحت لأسلافنا باتخاذ كل القرارات المفيدة لبقائهم (بصورة لا واعية) وتؤدي لنا اليوم الخدمات ذاتها. فقد يتخذ مخنا إذن دون علمنا أي قرار مفيد بالنسبة لنا ولن يخبرنا به (بصورة واعية) إلا بعد مرور مئات من الملِّي ثوانٍ مما يوحي لنا (أو يوهمنا) بأننا نتخذ عن وعي قرارًا يكون قد اتُّخذ بالفعل نيابة عنا دون وعينا. وحينئذٍ لن تكون حرية الاختيار التي نتفاخر بها إلا أوهامًا.
وقد أثبتتِ العديد من الأبحاث الأخرى في مجال العلوم العصبية هذه النظرية مثل «الرؤية العمياء» التي تُظهِر أنه في بعض حالات العمى المرتبطة ليس بعجز في العين بل باضطرابات في منطقة القشرة المخية التي تضطلع بإدراك ما نراه، يستطيع الإنسان «الرؤية» والتوجه والقيام بأعمال مناسبة كاختيار الأشياء دون أدنى وعي بما يقوم به.
وتُظهر هذه التجارب أنه يتعين بلا شك جعل مفهوم الوعي نسبيًّا، هذا المفهوم الذي يعتز به الإنسان، إلا أنه فيما يتعلق بالقرارات غير الفورية حين يضطر الحيوان المتطور أو الإنسان أن يوازن بين الإيجابيات والسلبيات في موقف ما ويشغل هذا التفكير حيزًا كبيرًا في عقله، تظهر فائدة الوعي وطبقاته المختلفة. وهكذا يبدو أن آليةً لا واعيةً كتلك التي وصفها ليبت لا تستطيع تفسير العمليات الفكرية أو القرارات الكبرى لدى الإنسان مثل الزواج أو الطلاق أو تغيير الديانة أو إثبات مبرهنة رياضية أو تأليف كتاب أو حتى لعب الشطرنج.
فيبدو أن الوعي ضروري للغاية لمثل تلك القرارات أو العمليات المعقدة، وهذا بالطبع سبب اختيار التطور له لدى الحيوانات الأكثر تطورًا!
(٢) هل يمكن أن تكون الآلات واعية؟
إن التساؤل حول امتلاك الآلات لأشكال محتملة من الوعي هو طريقة لاستكشاف التفسيرات المختلفة لهذا المصطلح.
(٢-١) هل يمكن أن تكون الآلات واعية بذاتها؟
لقد أظهرنا كيف تستطيع الآلة أن تتعلم التنبؤ بنتائج أعمالها على بيئتها (انظر الفصل الثاني)، وناقشنا أيضًا كيف يمكن لها أن تصنِّف المواقف التي تُقابلها نسبةً إلى مدى القدرة على التنبؤ بها (انظر الفصل الخامس). إلا أنه من الممكن تناول مشكلة «الوعي بالذات» عبر هذا الاستنباط المنطقي.
يكتشف الطفل في الأشهر الأولى من حياته أن ثمة مواقف يتحكم فيها بالكامل (وهي بالأساس تلك التي لا يشترك فيها إلا جسده، كإصدار الأصوات المبهمة أو بعض الحركات)، وأن ثمة مواقف أكثر تعقيدًا في التنبؤ بها، ولكن يمكن التنبؤ بها في شكل الثنائية الدائمة «الفعل-رد الفعل» (وهي بالأساس تلك التي تتطلب حركات باستخدام الأشياء الخارجية)، ولكن توجد أيضًا مواقف ترتبط بالديناميكيات الثنائية (وهي بالأساس التفاعلات مع كائنات حية أخرى)، ومواقف لا يمكن التنبؤ بها كليًّا (حركات الأشخاص أو الأشياء غير المرتبطة بحركاته).
يكتسب الطفل على مدار الأعوام أشكالًا من الوعي يزداد رُقِيُّها، ولا سيما حين يبدو قادرًا على التنبؤ بنوايا أقاربه ومعتقداتهم. ولا يُعَدُّ تطور هذا النوع من الوعي حاليًّا في متناول يد الآلات التي نستطيع تصميمها، إلا أنه ليس من المستحيل أن تستطيع آلة في يوم ما إعداد هذا النوع من النماذج التنبئية. وسوف يقودنا التقدم في هذا الاتجاه إلى معلومات متطورة وأكثر دقة حول طبيعة هذه العمليات المعقدة.
(٢-٢) هل يمكن أن تكون الآلات تتحدث داخليًّا؟
لقد ذكرنا سعي المهندسين إلى تصميم آلات ناطقة (انظر الفصل الرابع). ومن بين الملامح المقترنة بالوعي بصورة طبيعية، وجود صوت داخلي يعبر عن نفسه حين نلتزم الصمت. وقد حاول بعض الكُتَّاب مثل ناتالي ساروت أو جيمس جويس التعبير عن هذا الحوار الداخلي الصامت والمُجزَّأ الذي ينشط بصورة خاصة حينما نكتب أو نرتِّب أفكارًا جديدة.
وتكمن عملية الإدخال في محاكاة سلوك خارجي يسمح بالتنبؤ بنتائج هذا السلوك دون تنفيذه. وبالطريقة ذاتها التي نتبعها للتنبؤ بمسار كرة أو تخيل شكل ما، نستطيع أيضًا تحضير جملة بداخلنا قبل أن ننطق بها أو دون القيام بذلك (انظر الفصل الحادي والعشرين).
لقد ذكرنا كيف يمكن لآلة كبرنامج لعبة الشطرنج، على سبيل المثال، أن تقوم بهذا النوع من المحاكاة «ذات المدخلات الجديدة» بحيث تستبق نتائج أي حركة على عدة مراحل (انظر الفصل الثاني). فليس من المستبعد إذن أن تستطيع آلة إدخال تمثيلات خارجية صادرة عنها (رسوم أو كلمات، إلخ.) وبواسطة هذه الطريقة يمكن لآلة لم تكن تعمل في البداية إلا في بيئات حسية وحركية بسيطة أن تبدأ في استخدام الرموز. وفي ظل هذا السيناريو لن تكون الرموز منذ البداية في برنامج الآلة بل ستكون نتيجة لمحاكاة سلوك خارجي.