تقديم
ليس الفكر ترفًا يلهو به أصحابه كما يلهو بالكلمات المتقاطعة رجلٌ أراد أن يقتل فراغه، بل إن الفكر مرتبط بالمشكلات التي يحياها الناس حياة يكتنفها العناء، فيريدون لها حلًّا، حتى تصفو لهم المشارب، وبمقدار ما نجد الفكرة على صلة عضوية وثيقة بإحدى تلك المشكلات، نقول إنها فكرة بمعنى الكلمة الصحيح.
لكن التفكير في حياة الناس ومشكلاتها لا يقع كله على صعيدٍ واحد، بل إنه ليتفاوت درجات يعلو بعضها فوق بعض، دون أن تفقد الصلة الرابطة بينها، والتي تشد المستوى الأعلى إلى المستوى الأدنى؛ وذلك لأن التفكير على صعيد الحوادث اليومية كما تجري جريانًا مباشرًا، إنما يحصر نفسه في تفصيلات المواقف الفعلية، كما يفعل القاضي وهو أمام قضية يريد أن يُصدِر فيها حكمًا، أو كما يفعل المهندس وهو بإزاء نهر، ويريد أن يقيم بين شاطئيه جسرًا ليعبره الناس، ذلك — إذن — هو الصعيد المباشر للفكر، لكنه وحده لا يكفي، إذ كثيرًا ما تكون للمشكلات المعروضة على ذلك الصعيد جذور ضاربة إلى ما وراءه، فإذا أردنا معالجة تلك المشكلات، حاولنا أن نزيل أسبابها الكامنة وراءها، وعندئذٍ يكون للفكر صعيد أعلى يتحرك فيه، وهكذا دواليك بحسب الدرجة التي يعلو إليها المفكِّر تعقبًا لأصول الحوادث ومنابعها.
وفي هذا الكتاب الذي بين يديك فكر من النوع الذي يتعقب ما هو مباشر إلى ما هو أصول له، لعله يقع على جذور العلة في مكامنها ليقتلعها، فإذا المجتمع قد بَرئ مما هو فيه، وإنها لكارثة تكرث حياتنا بعد حين، إذا نحن تركنا مجتمعنا العربي يعاني كما يعاني.
والله ولي التوفيق.
زكي نجيب محمود