سلطان العقل
عرف عني صديقي أنني نصير للعقل، حيثما كان للإنسان موقف جاد من علم أو من عمل، ولم أجادل صديقي فيما عرفه عني؛ لأنه صحيح.
قال: لكن هنالك ظواهر عجيبة تحدث، مما يتحدى العقل، ويحتاج منَّا إلى البحث عن مصدر آخر غير العقل لتفسيرها.
قلت: إن أمثال تلك الظواهر التي تشير إليها، لم تكن أبدًا، ولن تكون من الدعائم التي تُبنى عليها الحضارات، لا فرق في ذلك بين حضارة المسلمين إبان قوتها، وسائر الحضارات التي قامت وسوف تقوم، فلقد قامت حضارة المسلمين، كما قام غيرها، على واقع، وعلى علم بذلك الواقع، وأما الظواهر التي تشير إليها، مما يثير العجب ويتحدى العقل، فهي أمور يذكرها الناس بعضهم لبعض، أو لا يذكرونها، دون أن يكون لذكرها أو عدم ذكرها أثر في سير الأحداث التي تصنع التاريخ.
وها هو ذا أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب، وقد همَّ بالخروج لمقاتلة الخوارج، فجاءه منجِّم يدعي القدرة على حساب الغيب، ونصحه بألَّا يسير إلى القتال في تلك الساعة، وبأن يجعل سيره على ثلاث ساعات مضين من النهار قائلًا له: «إنك إن سرت في هذه الساعة، أصابك وأصحابك أذًى وضرٌّ شديد، وإن سرت في الساعة التي أمرتك بها، ظفرت وظهرت، وأصبت ما طلبت.» فما كان من الإمام علي — كرم الله وجهه — إلا أن أعرض عن المنجِّم، بعد أن عنَّفه تعنيفًا شديدًا، ومضى فيما كان ماضيًا فيه، وانتصر، فقال لأصحابه ساعة النصر: لو سرنا في الساعة التي حددها لنا المنجِّم، وانتصرنا، لقال الناس إن النصر إنما تحقق بفضل ذلك المنجِّم ونبوءته، «أما إنه ما كان لمحمد ﷺ منجِّم، ولا لنا من بعده، حتى فتح الله علينا بلاد كسرى وقيصر.»
إنه لمن أعجب ما يلفت النظر في طبيعة الإنسان أن الناس إذا اختلف بعضهم مع بعض على شيءٍ تولاه العقل بالتحليل والحساب، لم يغضب أحد منهم من أحد، بل إنهم ليراجعون تحليلهم وحسابهم مرةً أخرى، حتى يذعن المخطئ للمصيب، أما إذا اختلفوا على شيءٍ في غير ميدان العقل، شيء تولته العواطف والأهواء، فلا أمل عندئذٍ في إقناع أو اقتناع، وقد تحتد بينهم الخصومة إلى حد القتال، فكأنما يسهل عليهم أن يتنازلوا عن الرأي الذي يرونه بعقولهم، ولا يسهل عليهم أن يفرطوا في ميل مالت بهم إليه عواطفهم، مع أن رؤية العقل هي مجال اليقين، وأما ميل العاطفة، فطريق معبأ بالضباب.
على أنه لا جدوى من أن نردد كلمة «العقل» بألسنتنا دون أن نعني بها كل ما تعنيه تلك الكلمة، أو ما يجب أن تعنيه، إذ العقل — آخر الأمر — هو التخطيط المدروس، ولا يكون للتخطيط المدروس معنًى إلا أن يكون هنالك أهداف واضحة مقصودة، وأن يكون هنالك مسح إحصائي للواقع كما هو قائم، ثم يجيء ذلك التخطيط المدروس (الذي هو «عقل»)، فيطوِّع هذا الواقع الذي رسمته لنا البحوث الإحصائية تطويعًا يحقق تلك الأهداف التي قصدنا بادئ الأمر إلى تحقيقها.
إنه إذا قيل لنا: أين نقطة البدء التي منها بدأت نهضتنا الحديثة كلها؟ لكان الجواب الصحيح هو: كانت البداية لحظات دعا فيها الدعاة إلى صحوة «العقل» في وجه الموجة العاتية التي غمرتنا بطوفانها من خرافات. وما الخرافة؟ هي قبل كل شيء، وبعد كل شيء، ربط المسبَّبات بغير أسبابها، فإذا مرض المريض — مثلًا — نسبنا المرض إلى أرواح شريرة حلَّت ببدنه، ولم نقل إنها جراثيم هي التي حلت بالبدن؛ في الحالة الأولى نحاول أن نطرد من البدن ما ليس له وجود، فنكون أتعس حالًا من دون كيخوته، وهو يحارب طواحين الهواء، وأما في الحالة الثانية فنحاول أن نقضي على جراثيم المرض بما يفتك بها ويمحوها.
أقول: إن نهضتنا الحديثة كلها قد بدأت، عندما دعا الداعون إلى يقظة العقل، لترتبط النتائج بأسبابها الصحيحة، وكان أبرز هؤلاء الداعين إلى حكم العقل هو إمامنا الشيخ محمد عبده، الذي إذا طرحت من حصيلته تلك الدعوة إلى تحكيم العقل، لم يبقَ منه إلا واحد كسائر الآحاد، فلقد أخذ — بكل جهده — يوضح العقائد الأساسية في الإسلام، توضيحًا يبين استنادها إلى منطق العقل، فجعل الأصل الأول لهذا الدين هو «النظر العقلي»، وعنده أن هذا النظر العقلي هو وحده وسيلة الإيمان الصحيح قائلًا في ذلك إن الإسلام يقاضينا إلى العقل، «ومن قاضاك إلى حاكم، فقد أذعن إلى سلطته، فكيف يمكنه بعد ذلك أن يجور أو يثور عليه.» ذلك هو الأصل الأول من أصول الإسلام، وأما الأصل الثاني فهو «تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض» أي إنه — وهذه هي عبارته: «إذا تعارض العقل وظاهر الشرع، أخذنا بما دل عليه العقل.» محاولين بعد ذلك تأويل ذلك الظاهر تأويلًا يعطيه من المعنى ما يتفق مع أحكام العقل.
انظر مثلًا إلى تفسير الشيخ محمد عبده ﻟ «الحسد»، إنه إذا جعل شر الحاسد إذا حسد، مجرد نظرة ينظر بها الحاسد إلى المحسود، لجافى حكم العقل؛ لأن النظرة وحدها لا تحرك ذرة من مكانها، فكيف تصيب أحدًا في ماله أو عياله أو صحته؟ إن القائل بمثل هذا هو بمثابة من يرد النتائج لغير أسبابها الصحيحة، وبالتالي فهو يحتكم في هذا إلى غير العقل ومنهجه في التفكير والتعليل، أما إذا فهمنا «الحسد» على أنه فعل إيجابي يبذله الحاسد ليغير به من حالتك على النحو الذي يريدك أن تتغير به، وهو بالطبع يفعل فعله ذاك في الخفاء، ليهدمك من حيث لا تدري، ومن حيث لا تتخذ الحيطة اللازمة لدرء الخطر عن نفسك، فإن مثل هذا الفهم يحيل الحوادث إلى تعليلها الذي يجيزه المنطق العقلي.
وموقف عقلي كهذا، كان قد سبق إليه الإمام الغزالي، حين قال إننا إذا وجدنا نصًّا من نصوص الشرع لا يتفق معناه الظاهر مع حكم العقل، علمنا أنه لا بد أن يكون لذلك النص معنًى غير معناه الظاهر، ووجب علينا أن نحاول تأويله تأويلًا يخرج منه المعنى المقبول عقلًا، وهاك قول الغزالي بنصه: «إن لنا معيارًا في التأويل، وهو أن ما دل نظر العقل ودليله على بطلان ظاهره، علمنا ضرورةً أن المراد غير ذلك.»
هذا هو تراثنا إذا أردتم من التراث هاديًا، إن هؤلاء الأئمة لم يقولوا إلا ما تمليه البديهة، لكننا نعيد أقوالهم على أسماعنا، لعلنا نزيل عن أنفسنا شيئًا مما أخذ يكتنفها من ريبة في عقل الإنسان.
إن الارتياب في قدرة العقل حالة تميزت بها الثقافة الأوروبية والأمريكية منذ ما يقرب من قرن كامل، وإنها لمفارقة عجيبة حقًّا أن ينظر قادة الحضارة العصرية هذه النظرة المزدوجة، فبينما هي حضارة علمية إلى أقصى حدود العلم (والعلم عقل من أصله إلى فرعه) تراها في الوقت نفسه حضارة لا عقلية في المجالات الأخرى، كالفن والأدب، فكلنا يعلم قليلًا أو كثيرًا عن اتجاه الفن نحو الذاتية المفرطة، التي لا يعبأ معها الفنان بما هو واقع أمام أبصار الناس، بقدر ما يعبأ بما هو واقع في ذات نفسه هو، وكلنا كذلك يعلم قليلًا أو كثيرًا عن اتجاه جانب من أدب العصر إلى ما يسمونه باللامعقول أو العبث.
لقد قرأت في صحيفة إنجليزية من قريب، موضوعًا طرحته الصحيفة عدة أسابيع متوالية، بإشراف كاتب معروف، ويدور الموضوع حول ما يقع في حياة الناس من مصادفات عجيبة، مما قد لا يكفي العقل لتفسيرها، ولقد جاء هذا الكاتب المعروف بأمثلة من عنده، وطلب من القرَّاء أن يوافوه بما عساهم يعرفونه في هذا السبيل، وأراد بذلك أن يجمع أكثر ما يمكن جمعه من حوادث تعينه على التدليل بأن وراء الأحداث دافعًا غير منطق العقل، وسأذكر للقارئ هنا بعض الأمثلة التي أوردوها.
وها هي ذي النماذج التي اخترتها:
يروي راوية عن ابنة له رسبت في امتحان، ولم يكن معها في البيت سواه، فيقول إن ابنته قد غرقت في موجة من الحزن الشديد، ولم يكن هو ممن يحسنون أحاديث المواساة، فازداد بينهما الصمت، وازداد معه الحزن، ودخل الوالد مطبخ البيت؛ ليعد لابنته طعامًا أو شرابًا، فوردت إلى ذهنه إذ ذاك عبارة تصلح للتسرية عن نفس ابنته في كربها، ولم يعلم من أين جاءته هذه العبارة، لكنها جاءت، وهي عبارة تقول: «كما تغرب الشمس، فإنها كذلك تشرق.» فقالها لابنته إذ هو يقدم إليها ما أعده لها من طعام أو شراب … ومضت أعوام، وخُطبت ابنته، وأراد الوالد أن يقيم حفلًا لزواج ابنته، فاختار للحفل مكانًا لم يكن له به سابق عهد، ثم اختار من ذلك المكان شرفة مكشوفة، وبينما هو منهمك في إعداد الحفل، إذا ببصره يقع على كتابة منحوتة في عمود من أعمدة البناء عند أسفله، فاقترب ليقرأ، وكم كانت دهشته حين وجد أن الجملة المحفورة هناك، هي بعينها الجملة التي قالها لابنته في مواساتها أيام حزنها، وهي التي تقول: «كما تغرب الشمس، فإنها كذلك تشرق.»
يقدم قارئ هذه المقارنة العجيبة بين الرئيس لنكولن والرئيس كيندي، من رؤساء الولايات المتحدة: اختير الأول رئيسًا سنة ١٨٦٠م، واختير الثاني رئيسًا سنة ١٩٦٠م، كلاهما مات مقتولًا، الذي تولى الرئاسة بعد لنكولن اسمه جونسون، وكذلك كان جونسون اسم من تولى بعد كيندي، أولهما أندرو جونسون ولد سنة ١٨٠٨م، وثانيهما لندون جونسون ولد سنة ١٩٠٨م، قاتل لنكولن وُلد سنة ١٨٣٩م، وقاتل كيندي وُلد سنة ١٩٣٩م، كلا القاتلين اغتيل قبل محاكمته، حدث للرئيس لنكولن قبيل اغتياله أن نصحه سكرتيره الخاص — وكان اسمه كيندي — بألَّا يذهب تلك الليلة إلى المسرح، وكذلك حدث للرئيس كيندي قبيل اغتياله، أن نصحه سكرتيره الخاص — وكان اسمه لنكولن — بألَّا يذهب إلى مدينة دالاس (التي اغتيل فيها)، فر قاتل لنكولن من المسرح الذي اقترف فيه جريمته، واختبأ في متجر، وفر قاتل كيندي من المتجر الذي اقترف منه جريمته، واختبأ في مسرح …
وإزاء هذه الحوادث وغيرها فقد خرج الكاتب بنتيجة تقول إن الناس إزاء حوادث عجيبة من هذا النوع ينقسمون قسمين: أحدهما لا يجد فيها أكثر من مصادفات لا تعني شيئًا، فلا هي تزيد من يقين العلم شيئًا ولا تنقص شيئًا، وأما القسم الآخر من الناس فيردها إلى قوة خفية، ويبقى أن نعرف ما هي، وأما الكاتب نفسه فيقرر عن نفسه بأنه يحاول أن يجمع هذه المصادفات العجيبة كلها تحت مبدأ واحد يفسرها جميعًا، وهو ما يسميه «مبدأ اللاسببية»! فإذا كان مبدأ السببية يفسر المألوف، فمبدأ اللاسببية يفسر الغريب.
فهل يسعنا إلا أن نعجب لذلك الكاتب — وله مكانته العالية في عالم الفكر هناك — حين نراه يبحث ﺑ «العقل» عن مبدأ يفسر به مجموعة المصادفات، في نفس الوقت الذي يظن فيه أن العقل غير كافٍ للتفسير!
ومع ذلك فلنفترض أن ذلك الكاتب قد أصاب، حين زعم أن مبدأ السببية يفسر الظواهر المألوفة، ومبدأ اللاسببية يفسر الظواهر الغريبة عن المألوف، فماذا يفيدنا هذا الزعم في حياتنا العلمية وفي حياتنا العملية؟ ماذا يريدنا أن نفعل فيما إذا كان زعمه صادقًا؟! لا شيء!
وما كنت لأقف منه هذه الوقفة، لولا أن فينا من يسرع إلى التحلل من قيد العقل، كلما شذت حادثة عن مجرى الحوادث المألوف، إلا أن الإنسان بخير ما جعل للعقل مجاله، وللجوانب الأخرى مجالها، فينعم بالمجالين معًا، دون أن يطغى مجال منهما على مجال.