نحن نصنع الماضي
كان حوارًا طريفًا ومفيدًا، ذلك الذي دار بين اثنين من شبابنا المتفتح الطموح، عرفتهما منذ كانا طالبين يدرسان الفلسفة، لكنهما كانا يجاوزان حدود الدراسة الرسمية بهامش عريض من الثقافة، فكنت أراهما يشاركان مشاركة جادة واعية، في مناقشة القضايا الفكرية التي تشغل الجماعة المثقفة في الأمة العربية، وكنت ألحظ منذ البداية شيئًا من اختلاف النظر بينهما، لا أدري إن كان مرده إلى كونهما فردين مختلفي المزاج، أو كان مرده إلى كونهما ينتميان إلى قطرين مختلفين من أقطار الوطن العربي، ولكم أسعدني أن كان هذان الشابان يحتكمان إليَّ في بعض ما كان ينشأ بينهما من خلاف.
ومضت أعوام لم أسمع عنهما ولم أسمع منهما، حتى شاءت المصادفة أن نجتمع نحن الثلاثة، أما هما فقد أخذت تتشعب بهما سبل الحياة يسرًا وعسرًا، وأما أنا فقد هدأت معي «حمى الحياة» — إذا استعرت من سقراط معنًى رمز إليه قبيل نهايته — ولم نكد نجتمع حتى عادت إلينا طبائعنا التي كنا نألفها في أنفسنا منذ أعوام، فما هو إلا أن أثيرت قضية فكرية من بين هموم الأمة العربية، اختلف حولها الزميلان، وطال بهما الاختلاف، وجلست أصغي، وأعد نفسي لموقف محتوم، وهو أن ينتهي أمرهما بالاحتكام إليَّ كما كانا دائمًا يفعلان.
ثارت بينهما قضية «الماضي» أو قضية «التراث»، وكما توقعت من أحدهما، راح يستخدم كل ألفاظ التعجب وعباراته، ويسأل: ما شأننا بماضٍ ذهب وذهبت علائقه؟ لماذا لا ننصرف بكل جهودنا نحو الحاضر ومشكلاته والمستقبل وما يؤدي إليه؟ ماذا ترانا صانعين بتراثٍ مركوم في صفحات الكتب الجاثمة هناك على رفوف المكتبات، وكأنها جزء من الجبل أو جانب من البحر، قد أتخذ منه مكانًا للتنزه، لكني لا أجعل منه طعامي وشرابي؟
ولم يبطئ زميله في رده، وذهب بدوره يتعجب بما أسعفته اللغة من أساليب العجب: إن هذا الماضي يا أخي هو في دمائنا، هو في اللغة التي نتكلمها ونكتبها، هو في الشريعة التي نسلك على هداها، هو في العرف الذي ينظم الروابط بين الناس، هو في الذوق الفني الذي أستملح فيه نوعًا من الشعر والموسيقى ولا أستطيب نوعًا آخر، هو في المواسم الدينية وغيرها وما يلحق بها من تقاليد من شأنها أن تضفي على الحياة الاجتماعية لونًا خاصًّا مميزًا.
هكذا تنازع الطرفان تنازعًا أوقفهما على طرفي نقيض، فكأنما كانا بموقفهما هذا بمثابة «الموضوع» و«نقيض الموضوع» في الحركة الجدلية، وكان لا بد للنقيضين أن يتولد عنهما ما يؤلف بينهما، وذلك هو ما كان دوري المرتقب.
قلت: إنكما تتكلمان عن الماضي، وكأنه قطعة من الحجر الصوان، إما قبلتها كما هي وإما رفضتها كما هي، أو كأن ذلك الماضي كتاب اكتملت صفحاته، لم تعد تزيد صفحة ولا تنقص صفحة، وعلى القارئ أن يتلوه من فاتحته إلى ختامه، أو أن يكف عنه من غلافه إلى غلافه.
ولكن أمر الماضي ليس كذلك، فأولًا: إنه ليس باختيارنا أن نأخذ ماضينا أو نتركه؛ لأن هذا الماضي إنما هو ماضٍ لحاضر، ولو بترنا العلاقة بينهما لما جاز لنا بعد ذلك أن نسمي الماضي ماضيًا، بل يصبح مجموعة من أحداث عائمة على تيار الزمن، دون أن تربطها الروابط بهذه الأمة أو بتلك، لكن ماضينا هو ماضينا نحن، موصول الحلقات بالحاضر الذي نعيشه نحن، ولكل شعب آخر ماضيه وحاضره، وذلك يشبه أن تكون طفولتي هي طفولتي أنا دون أي إنسان آخر، موصولة الروابط بشبابي وكهولتي، وليست هي مجرد طفولة سابحة في الهواء، إنه إذا كانت حياتنا كتابًا من عدة أجزاء، فالحاضر هو الجزء الأخير من تلك السلسلة، يتلوه بعد ذلك أجزاء جديدة تظهر على التوالي، على أن آخر الأجزاء لا يُفهم إلا على ضوء سوابقه.
وثانيًا: إن ماضينا كالسجادة المزخرفة بالصور المتشابكة، ويدخل في نسيجها عدد ضخم من خيوط اللحمة وخيوط السدى، تقاطع بعضها مع بعض، وإذن فلا بد للرائي أن يختار لنفسه من هذا الكل المركب، خطًّا واحدًا لتعقبه، كأن يختار خط النباتات المصورة على الرقعة، أو خط الحيوان، أو خط الأشكال الهندسية، وما شابه ذلك.
إنه قد يتبادر إلى أذهاننا أن الماضي شيء مفروض علينا، لا قبل لنا بعملية اختيارية نتحكم بها فيما نأخذه منه وما نتركه، وأن هذه الحرية في التركيب والبناء مقصورة على تصورنا للمستقبل لا على تصورنا للماضي، لكن أمعن النظر قليلًا تجد ألا فرق في حرية الصنع والبناء بين ماضٍ ومستقبل، كلاهما هو ما نصنعه نحن باختيارنا، كل ما في الأمر من اختلاف بين الحالتين، هو أننا بإزاء الماضي أمام أكوام مركومة من مواد البناء، فنتقدم منها ونأخذ منها ما يحلو لنا أن نأخذه، ثم نقيمه في البناء الذي يحلو لنا أن نقيمه لأنفسنا، على حين أننا بإزاء المستقبل نحفر القنوات التي يتسرب فيها الحاضر على نحو ما نريد له أن يتسرب، لتتكون الصورة التي نحب لها أن تكون.
والماضي والمستقبل كلاهما من صنعنا، وإن هذا الصنع ليجيء نتيجة لاهتماماتنا نحن في الآونة الحاضرة، فنحن اليوم — مثلًا — نهتم بالاشتراكية فهمًا وتطبيقًا، ولذلك قد يعن لأحدنا أن يقرأ الماضي على أنه تعبير عن روح اشتراكية أصيلة فيه، وهو إذ يختار هذه القراءة الخاصة لماضينا، تراه ينتقي من الحوادث ومن المواقف ما يمكن أن يُقرَأ على هذا النحو.
لقد مررت بخبرة شخصية من هذا القبيل، وهو أني حين أردت أن أتعقب طريق «العقل» في تراثنا الفكري، أخذت أختار هذا وأترك ذاك من بين ما خلَّفه لنا الآباء، إلى أن اكتمل أمامي طريق متصل يدل على مسار العقل في حياة أسلافنا، ولما فرغت من رسم هذا الطريق العقلي، عدت من جديد أتعقب طريق الوجدان، فأخذت هذه المرة أختار ما يناسب الطريق الجديد، وأترك ما لا يناسبه، إلى أن اكتمل أمامي أيضًا طريق متصل يدل على مسار الوجدان، وهكذا تكون الحال مهما تنوع موضوع البحث في ماضينا، فقد تريد أن تصور النشاط اللغوي، أو أن تصور تطور الشعر، أو نظام الحكم، أو معارك القتال، أو ما أردت أن تراه، وفي كل حالةٍ من هذه الحالات، أنت تختار مادة البناء، وتختار صورته كما تتبدى لخاطرك، ولولا ذلك لما اضطررنا أن نعيد كتابة التاريخ حينًا بعد حين، لنكتبه في كل مرةٍ من زاوية الرؤية الجديدة.
الثقافة العصرية بما تحتوي عليه من مبادئ وتصورات، لا بد أن تنعكس في الصورة التي نرسمها لماضينا، والأمر في ذلك شبيه بمن أراد أن يبحث في التاريخ الذي تسلسلت حلقاته على طبقات الأرض، فهل يمكن لعلماء الجيولوجيا في هذه الحالة ألَّا يتأثروا فيما يقولونه عن ذلك بما قد استحدث في عصرهم من علوم الفيزياء والكيمياء؟ ولو جد جديد في هذه العلوم، فسوف يقرأ الجيولوجيون تاريخ طبقات الأرض قراءة جديدة.
ما يقوله أبناء اليوم عن ماضيهم، كالذي يقولونه عن مستقبلهم، كلاهما يدل إلى حدٍّ كبير على اهتماماتهم ووجهات نظرهم، ولو تغيرت الاهتمامات ووجهات النظر، لتغير به حتمًا صورة الماضي التي نقدمها، وصورة المستقبل التي نعمل على إيجادها، لقد قال هيرودوت تبريرًا لكتابته عن الماضي — ماضيه في عهده — قال: «إننا نكتب عن الماضي حتى لا ينسى الناس على مر الزمن ما قد صنعه أسلافهم مما لا يجوز نسيانه.» ونحن نسأل: من الذي حدد لهيرودوت ما يجوز نسيانه من حوادث الماضي وما لا يجوز؟ حدد ذلك بالطبع ميوله الخاصة من جهة، والقيم التي كانت تسود شعب أثينا عندئذٍ من جهةٍ أخرى، فلكل عصر موازينه التي يفرق بها بين المهم وغير المهم، وبالتالي فهي موازين لما لا يحق للناس أن ينسوه وما يجوز لهم أن يهملوه.
ليس الماضي جثة ميتة موضوعة في تابوت، وعلينا نحن أبناء الحاضر أن نحافظ على هذا التابوت في المتحف، بل هو أقرب إلى الرافعة التي نزحزح بها الأثقال الراسخة لتتحرك، ولهذا فنحن إذ نصنع ماضينا من بين المادة الخامة القريرة التي خلَّفها لنا الآباء، فإننا لا نحسن هذا الصنع إلا إذا اخترنا الروافع التي تثبت الحياة في الحاضر، وفي الإعداد للمستقبل على حدٍّ سواء، وإلا انقلب تاريخ الماضي بين أيدينا صخورًا جوامد تعرقل التيار دون الانسياب الدافق إلى الهدف.
إن من أهم ما تميز به الشيخ محمد عبده وأتباعه فيما يسمى بمدرسة المنار هو أنهم فرقوا في تاريخ الإسلام بين ما هو ثابت وما هو متغير، والثابت هو العقيدة وما يتبعها من شعائر العبادة، وكذلك القيم الأخلاقية التي يُطالَب المسلمون بمراعاتها في سلوكهم، وأما جوانب الحياة الأخرى من معاملات وعلاقات اجتماعية، فمتغيرات مع تغير الظروف، وهذا الجانب المتغير هو الذي يتيح لنا أن نقرأ تاريخنا قراءة تعبر عما يراه عصرنا في أموره.
كان أمام أوروبا أيام نهضتها ماضٍ ذو مراحل مختلفة الأجواء، فأخذت من ذلك الماضي مرحلته الكلاسيكية، لما وجدت أن تلك الشريحة من الماضي تعينها على قيام النزعة التي تعلي من شأن الإنسان، وهي نزعة استهدفتها أوروبا في ذلك الحين، ثم انظر إلى الفن الأوروبي المعاصر حين أراد أن يستلهم الماضي، فأي ماضٍ وقع عليه؟ لقد اختار أصول الفن الإفريقي لتكون من الأصول التي يرتد إليها، وانقل نظرك إلى فن النحت عند الفنان المصري العظيم مختار، انظر إلى تمثاله «نهضة مصر» لترى كيف غاص إلى ماضٍ بعيد، هو الفن الفرعوني ليستلهم أصوله.
هكذا يفتح الماضي الواسع العريض العميق صفحاته أمامنا، لنصنع نحن من السطور التي نختارها، قصة نراها مضيئة وهادية في معالجتنا لمشكلاتنا الحاضرة، إنه الحاضر والحاضر وحده هو الذي يسيطر، وينبغي له أن يسيطر فهو الذي يوحي بالطريقة التي أصنع بها الماضي ليصبح ماضينا حافزًا على مزيدٍ من حيويةٍ ونشاط، وهو الذي يشير كذلك إلى الطريقة التي أخط بها الطريق إلى مستقبل أتصوره على أساس مشكلاتنا الحاضرة أيضًا، مما يحتاج حله إلى فترة قد تطول.
لقد اختلفتما — هكذا وجهت خطابي إلى الشابين المتحاورين — اختلفتما حول الماضي، أي حول التراث: أنتمسك به أم نهمله؟ ولعلكما تريان الآن أن الوقفة الصحيحة هي أن نعيد قراءته لنصنعه من جديد صنعًا يتطلبه العصر، فلا نحن تمسكنا به في جمود، ولا نحن أهملناه، وإن شئت فقل إننا قد تمسكنا به وأهملناه بضربةٍ واحدة.