مداد مغشوش
التقدم الحضاري الهائل الذي حققناه في عشرات السنين الأخيرة، قد لا يكون واضحًا أمام العين وضوحًا يتيح لها أن تراه بلمحة خاطفة، وليس في ذلك من بأس، بل إنه الخير كل الخير؛ لأن علامة من أقوى العلامات التي تدلت على أن الإضافة الحضارية قد رسخت جذورها، هي أن تنتقل تلك الإضافة عند الإنسان من حالة الوعي بها إلى حالة اللاوعي، أي يعيشها الإنسان وكأنها جزء من فطرته، ليتمكن من أن يمد أمله إلى إضافة أخرى.
لكن الذي يلفت النظر — نظري أنا على الأقل — هو أن تلك النقلة الحضارية الواسعة، لم يصحبها ما يتناسب معها من التغير في وجهات النظر إلى الدرجة التي تجعل الإنسان — فردًا أو أمة — متسقًا مع عصره، ولست أعني بهذا التغير تغيرًا فيما نعده من الأركان الأساسية في شخصيتنا القومية، فهذه الأركان الأساسية ثوابت لا تمس، وإنما أعني به تغيرًا فيما من شأنه أن يتطور مع الظروف المتغيرة في الحضارات المتعاقبة.
وسألت نفسي بالأمس قائلًا: ترى لو جئت بما كان يكتبه قادة الفكر منا منذ مائة عام، في سبيل الدعوة إلى مثل هذا التحول الحضاري، فهل أجده يختلف اختلافًا بعيدًا عما يكتبه الكاتبون اليوم في هذه الموضوعات نفسها؟ بعبارة أخرى: هل أفلحت الكتابة خلال قرن كامل في تغيير ما أردنا تغييره من طباع تعودناها ولا نريد لها أن تدوم؟
لم أكد أطرح السؤال على نفسي، حتى نهضت وأنزلت من المكتبة مجموعة المقالات الإصلاحية التي كتبها الإمام محمد عبده، لأرى — أولًا — ماذا كانت أوجه النقص الحضاري التي أثارت اهتمامه؟ ثم لأرى — ثانيًا — كم بقي منها إلى يومنا هذا وكم زال؟
وشاءت لي المصادفة أن أجد مقالاته الأولى منشورة في جريدة «الأهرام»، حين كانت «الأهرام» في عامها الأول — وهو عام ١٨٧٦م — ثم شاءت لي المصادفة مرة أخرى أن يكون بين ذلك التاريخ ويومي هذا مائة عام كاملة.
وجدت الإمام يخصص مقالته الثانية لموضوع «الكتابة والقلم»، وفيها يقول إن مثل الكاتب في صحيفة الأهرام «مثل خطيب قام على منبر العالم، وأمسك بيده صورًا (بوقًا) … فنفخة تحيي ونفخة تميت»، ثم أخذ يبين الأوجه الكثيرة التي يمكن لصاحب القلم أن يعالجها، فالإصلاح المطلوب إنما يتحقق ﺑ «مداد القلم».
أجريت بصري في لهفة خلال صفحات الكتاب، باحثًا عن الموضوعات المشتركة بين كاتب الأمس وكاتب اليوم، فكان ما أدهشني هو التشابه الشديد بين موقف الأمس وموقف اليوم، فالأمراض الاجتماعية واحدة، وأوجه القصور الحضاري واحدة، مما دعاني إلى التساؤل في عجب: ماذا؟ ألم يكن لأقلام الكاتبين في مائة عام كاملة من أثر يلحظه الرائي وهو يقارن بين العهدين؟ فإذا كان «مداد القلم» — كما قال الشيخ الإمام — هو وسيلة الإصلاح، أيكون المداد في أقلامنا مغشوشًا، على غرار ما نقول أحيانًا أن اللبن مغشوش وأن الدواء مغشوش؟
اقرأ للإمام مقالته التي جاءت تحت عنوان «ما أكثر القول وما أقل العمل»، وفيها يأسف أن يجد هذه الصفة سمة لأهالي بلادنا، وقد أضاف إلى أسفه هذا عبارة وضعها بين قوسين يقول فيها: إننا نخجل من تسجيل مثل ذلك في الجرائد، ولكن أي فائدة في إخفاء عيب فينا عرفه الغير عنا؟ وأحسب أن الأستاذ الإمام لم يكن يتجه بهذا الوصف إلى العاملين بسواعدهم في فلاحة الأرض أو في دكاكين الصناعة، الذين هم في الأغلب لا يجدون من وقتهم فراغًا لهذا الترف، بل كان يتجه بالوصف إلى الفئة الثرثارة من المثقفين المترفين، ممن كانوا — وما يزالون — يوهمون الناس بأنهم أصحاب رشادة وريادة.
ومن أنفع ما ذكره الإمام في إحدى مقالاته، أن الأحاديث الشائعة في المجالس العامة والخاصة، دليل قوي على حقائق النفوس، ولذلك راح يتعقب تلك الأحاديث ليرى من أي نوع كانت، فإذا هي دالة على أن حضارة العصر في طريق، وهؤلاء المتحدثين في طريق آخر، وأوضح لنا ذلك بأن عقد شيئًا من المقارنة بين ما يشغلنا هنا، وما يشغل أبناء الأمم التي تقدمت، وفي يقيني أن ما قد وجده الإمام في يومه، يجد مثله المتعقب لأحاديث اليوم.
كتب الشيخ محمد عبده وكتب ثم كتب، في سلطان المظهرية في حياتنا، في فقر الرأي الذي هو أفظع من فقر المال، في صنوف العبث وسوء التناول، في البذخ المجنون، في الخرافة البشعة المسيطرة على عقول الناس … وفي هذا نفسه ما يزال يكتب الكاتبون، فماذا نحن صانعون ليتغير منا ما نريد أن نغيره؟
نعم ماذا نحن صانعون؟ لعل سؤالًا كهذا قد نشأ للأستاذ الإمام وهو يحاول الإصلاح ﺑ «مداد قلمه»، فلم يأخذه اليأس أول الأمر، بل اتجه باللائمة نحو أولئك الذين يريدون تغيير الشعب بين يوم وليلة، قائلًا لهم ما معناه أنهم ربما ظنوا أن إصلاح أمة بأسرها هو أمر سهل سهولة العبارات التي يلقونها على الناس ليفهموها أو سهولة الكتب التي بين أيديهم، جاءوا بها من البلاد المتقدمة، وظنوا أن قراءتها وعرض مادتها على الناس كافٍ وحده لاستحداث الإصلاح المنشود، إنهم — وهذه هي عبارة الإمام في ذلك — «يظنون أن أفكارهم العالية إذا برزت من عقولهم إلى حيز الكتب والدفاتر، ووضعت أصولًا وقواعد لسير الأمة بتمامها، ينقلب بها حال الأمة من أسفل درك في الشقاء إلى أعلى درج في السعادة.»
إنهم — في رأيه — لا بد أن يراعوا قابلية الأذهان لما يعرض عليها من أفكار، واستعدادات الطباع للانقياد إلى نصائحهم، وضرب الأستاذ الإمام مثلًا لهؤلاء الذين يحاولون الإصلاح بادئين بدرجة الكمال الحضاري، فقال: «هل يسهل على صاحب الفكر الرفيع أن يودع في عقل الطفل الرضيع، أو الصبي قبل رشده، وقبل أن يتعلم شيئًا من مبادئ العلوم، تلك الأفكار العالية؟» ثم مضى الأستاذ في الحديث ليؤكد لدعاة الإصلاح في زمنه، ممن يريدون القفز بالشعب إلى حضارة العصر في خطوة واحدة، ليؤكد لهم ضرورة التدرج بالناس نحو الهدف شيئًا فشيئًا، فيبدأون بتعليم الناس القراءة والكتابة، ثم مبادئ الفنون السهلة التحصيل، ثم يتدرجون بهم … إلخ، فالذي تمكن في عقول الناس أزمانًا — كما يقول — لا يفارقها إلا في أزمان، على أنه محال على الناس أن يغيروا ما بهم من تخلف، ليلحقوا بحضارة العصر ما لم يبدأ الأمر باقتناع حقيقي عندهم، إذ لا يكفي أن ننقل إليهم المظهر الخارجي للحضارة، دون أن يستند — في باطن نفوسهم — إلى المبادئ التي يرتكز عليها ذلك المظهر.
هكذا كان موقف الإمام محمد عبده قبل أن يأخذ منه اليأس (وهذا رأي خاص لكاتب هذه السطور)، ثم مضت أعوام، لعله أدرك بعدها أن «مداد القلم» الذي ظن أول الأمر أنه أداة كافية للتغيير، لن يجدي في حركة الإصلاح شيئًا، فكتب مقاله المشهور بعنوان «إنما ينهض بالشرق مستبد عادل» الله أكبر، مداد الأقلام في الكتب والصحف ليس هو وسيلة الارتفاع بالشعب إلى حيث نريد له أن يعلو، والحل الناجع عند الأستاذ الإمام هو أن يتولى الحكم «مستبد عادل»، إنه مقال قصير، يقع في صفحة وبضعة سطور، لكنه أحدث دويًّا في أجوائنا الثقافية وما يزال يحدث، ما الذي يستطيع المستبد أن يصنعه في رأي الإمام؟ يقول عنه إنه يستطيع إكراه المتناكرين على التعارف، وإرغام الأهل على التراحم، ويستطيع المستبد كذلك — في رأيه — أن يحمل الناس على الأخذ برأيه هو فيما يخص منافعهم لاجئًا في ذلك إلى الرهبة إن لم تكن لديهم الرغبة في إسعاد أنفسهم.
وبعد هذه المقدمة المخيفة، خفف الأستاذ وقعها بأن اشترط على هذا المستبد الذي يدعو إليه أن يكون «عادلًا» بمعنى أن تكون نظرته الأولى إلى شعبه الذي يحكمه، وبعد ذلك تجيء النظرة الثانية لمصلحة نفسه إذا كانت له مصلحة خاصة.
ومثل هذا المستبد العادل في نظره يكفيه خمس عشرة سنة فقط، ليحقق للشعب غاياته التي لا يكون له بعدها سقوط ولا تخلف، وماذا عساه أن يصنع في خمس عشرة سنة هذا المستبد المأمول؟ يجيب الأستاذ الإمام إجابة ذات شقين: أما «الكبار» من الناس فيلوي أعناقهم قسرًا إلى ما فيه خيرهم وخير أعقابهم، وأما «الصغار» فيأخذهم بالتثقيف، «يتعهدهم كما يتعهد الفارس شجرة بضم أعواد مستقيمة إلى سوقها لتنمو على الاستقامة» معالجة المستبد العادل ﻟ «الكبار» تكون شبيهة بمعالجة الجراح للجسم العليل، فمنها «البتر» و«الكي» إذا اقتضت الحال (وهذا كلام الأستاذ الإمام في ذلك) وعلاج «الصغار» يكون بالتعليم والتثقيف.
وبعد هذا البطش بالكبار والملاينة للصغار، يكمل الإمام مقاله بأسطر قلائل يقول فيها إنه بعد أن يستقيم الأمر للحاكم المستبد على هذا النحو وبهذه الوسائل، يبيح للناس «من غذاء الحرية ما يستطيع ضعيف السن قضمه، والناقة من المرض هضمه» أي إن الحرية في نظره يجب أن ترجأ إلى آخر المطاف، وأية حرية بعد هذا المطاف الطويل الذي يتطلب في حسابه خمسة عشر عامًا، تشهد ما تشهده من ثني الأعناق بالعنف، ومن «بتر» و«كي»؟ أية حرية بعد هذا كله؟ إنها الحرية التي يُسقاها (بضم الياء) الناس بملعقة الشاي الصغيرة، يسقونها قطرة قطرة، حتى لا تؤذي ضعيف السن ولا الناقة من المرض، والأستاذ الإمام يحدد لهذه الحرية الممنوحة للناس بالقطارة، يحدد لها ثلاث مراحل: ففي المرحلة الأولى يكتفي بتشكيل المجالس البلدية، وفي المرحلة الثانية «بعد سنين» — كما يقول — تجيء مجالس الإدارة، لتكون مصادر للآراء والأفكار، وفي المرحلة الثالثة تنشأ المجالس النيابية، ويلفت الإمام نظر قارئه بعد ذلك إلى أن الخمس عشرة سنة التي قال إنها كافية للمستبد العادل أن يصلح فيها حال الشعب، ليست لهذه المراحل الثلاث جميعًا، بل هي للخطوة الأولى وحدها، والله وحده بعد ذلك أعلم بعدد السنين التي لا بد أن تنقضي لتتم المرحلتان المؤديتان إلى المجالس النيابية، وحق للأستاذ أن يتحوط فيقول: «ربما لا يتيسر لرجل واحد أن يشهد هذا الأمر من بدايته إلى نهايته».
وحتى هذا المستبد العادل قد لا يجود به الشرق كما يقول في ختام مقاله، إذ يختم المقال بهذين السطرين: «هل يعدم الشرق كله مستبدًا من أهله، عادلًا في قومه، يتمكن به العدل أن يصنع في خمس عشرة سنة ما لا يصنع العقل وحده في خمسة عشر قرنًا!»
ولم يلبث الشيخ محمد عبده أن اشتد به اليأس، فكتب في مقال آخر بعنوان «الرجل الكبير في الشرق» ما معناه أن الرجل الكبير لا يستطيع شيئًا إلا إذا كان ما بالأمة هو نعاس فقط، ويحتاج إلى من يوقظه، وأما ما فوق ذلك فهو لا يحيي الموتى ولا يسمع من في القبور، ثم يأخذ في المقارنة بين كبار الرجال في الغرب وكبار الرجال عندنا، ليقول إنهم هناك يفلحون؛ لأن لهم شعوبًا تسمع وتعي، وأما هنا فالطريق بين الطرفين مسدود.
كلا وألف مرة كلا يا فضيلة الإمام، سنواصل ما بدأته لنا من حملة الإصلاح ﺑ «مداد القلم» محاولين أن يكون المداد جيدًا وشافيًا، ولكننا لن نخطو معك خطوة واحدة في الدعوة إلى حاكم مستبد، حتى ولو كان ذلك المستبد عادلًا.