العدل عندما يبصر
يا رعانا الله من هذه الأسماء الضخمة المنتفخة بطونها بما تحويه، حتى إذا ما بقرت لها تلك البطون، ألفيت ما تخفيه عالمًا غريبًا من غوامض ومتناقضات، ولكننا قلما نبقر تلك البطون، ولماذا نفعل إذا كان من أيسر اليسر علينا أن نتداولها في حياتنا الجارية فلا تلقى منا ولا نلقى منها إلا كل الهيبة والوقار؟ ومن تلك الأسماء السمينة بدسمها والممتلئة بمحتواها، اسم العدل أو العدالة.
ولكنه اسم يكتنفه غموض كثيف الضباب، وهو غموض كثيرًا ما نضل فيه مما جعل عميد «مدرسة القانون» في جامعة هارفارد ذات المستوى الرفيع، وبهذه المناسبة لي ملاحظتان؛ الأُولى: هي أني لا أعرف لماذا نسميها «كلية الحقوق»، والأَولى أن تكون «كلية القانون»، والثانية: هي أنهم في أمريكا يسمونها «مدرسة» لا «كلية»، ويجعلونها في ترتيب الدراسة بعد فراغ الطالب من دراسته الجامعية التي تنتهي بالليسانس أو البكالوريوس، أي إن دراسة القانون هناك معدودة كلها من «الدراسات العليا»، أقول بعد هذا الاستطراد في الحديث إن كلمة العدل أو العدالة يحيط بها من غموض المعنى ما جعل ذلك العميد في تلك الجامعة يوصي طلاب مدرسته منذ البداية، بأن يكونوا على بينه تامة من طبيعة دراستهم، فيعلمون في وضوح أنهم إنما جاءوا إلى الجامعة ليدرسوا «القانون» لا ليدرسوا «العدالة»، إدراكًا منا بأن معرفة القوانين وسلامة تطبيقها على المتقاضين في المحاكم، هي مسألة علمية حِرفية (بكسر الحاء) لا تدخل في دنيا العدالة الواسعة الغامضة، إلا من باب ضيق محدود، يقتصر فيه الأمر على العدل القضائي، لكن الفرق بين هذا العدل القضائي الذي تعرفه المحاكم وبين العدل الذي نعنيه عندما نقول مثلًا: «عدل اجتماعي»، هو فرق بعيد بعد ما بين القطبين، ولذلك يحسن بدارس القانون — في رأي ذلك العميد — ألا يورط نفسه في تيه العدالة وغموضها.
وإذا شئت أن تعرف أي غموض يكتنف فكرة العدالة بمعناها الاجتماعي الواسع — لا بمعناها القضائي المحدود — فاقرأ الأجزاء الخمسة الأولى من محاورة أفلاطون «الجمهورية»، وهي المحاورة التي أراد بها أن يرسم صورة للدولة عندما تبلغ درجة الكمال، لكنه لكي يرسم هذه الصورة، كان لا بد له أولًا أن يحدد المعنى المراد ﺑ «العدالة»؛ لأنها هي محور البناء كله.
فما إن طرح السؤال على المتحاورين، حتى رأينا عجبًا من كثرة وجهات النظر في فهم هذه الكلمة السحرية العجيبة، فما هو هذا الذي نسميه عدالة اجتماعية، ونريد له أن يكون الركيزة الأولى في البناء؟ إننا في أيامنا هذه نخلط خلطًا غريبًا بين فكرتي «العدل» و«المساواة» كأنهما مترادفتان، لكن مثل هذا الخلط بالطبع لم يكن ليتورط فيه هؤلاء المتحاورون عند أفلاطون، فمن العدالة مثلًا — ولكنه ليس من المساواة — ألا نختار عن طريق القرعة العمياء فريق الكرة الذي نوكل إليه المباراة باسم مصر، بل إننا لنتعمد اختيار الأمهر، وهكذا قل في مناصب الدولة وفي مقاعد الدراسة بالجامعة وغير ذلك، فالعدل هو أن نختار لكل موضع أنسب الناس له، وواضح أن ليس في هذا الموقف العادل مساواة.
ولست أريد أن أترك الحديث عن العدالة كما أجراه أفلاطون بين المتحاورين، دون أن أشير إلى رأي بارز أدلى به «تراسيماكوس» عندما قال إن العدالة ليست إلا ما يخدم الأقوى! ولو أخذنا بظاهر هذا القول متسرعين، لرفضناه بلا تردد، كما رفضه المتحاورون في «الجمهورية»، ولكن بعد نقاش طويل أقول إنه رأي جدير بالعناية؛ لأن ما يعد عدلًا في بلد قد لا يعد كذلك في بلد آخر، فمن العدل في البلاد الرأسمالية — مثلًا — أن يكون لصاحب الثروة أن يتصرف في ماله كما يشاء، ولكن ذلك نفسه ليس عدلًا في البلاد الاشتراكية، فمن الذي يقرر هناك أنه عدل، ومن الذي يقرر هنا أنه ليس كذلك، الذي يقرر ذلك هو «الأقوى» في كلتا الحالتين، وقد يكون هذا الأقوى حاكمًا فردًا، وقد يكون مجلسًا نيابيًّا، لكن ليكن ما يكون، فهذا الأقوى هو صاحب القرار، الذي يحدد ما يكون عدلًا وما لا يكون.
وعلى أية حال، فالمحاورة الأفلاطونية تنتهي إلى نتيجة، هي أن العدالة الاجتماعية معناها أن يوضع الناس في البناء الاجتماعي بحسب قدراتهم، وما دامت هذه القدرات — بالطبع — ليست متساوية، فلا يجوز أن تتدخل فكرة المساواة لتفسد معنى العدالة، ونحن إذ نقول في أيامنا هذه «الرجل المناسب في المكان المناسب» لا نقول إلا شيئًا مما أراده ذلك الفيلسوف القديم بفكرة العدالة.
وماذا يقول الإسلام عن فكرة العدل؟ رجعت إلى الإمام الغزالي لأرى ما يقوله في «العدل» عندما يكون هذا الاسم اسمًا من أسماء الله الحسنى، فوجدت فيما يقوله أولًا أن العدل فعل، فإذا أردنا معرفة العدل حين يوصف به الخالق، كان علينا أن نعرف فعله، وثانيًا إذا نحن أحطنا بأفعال الله «من أعلى ملكوت السموات إلى منتهى الثرى» — بألفاظ الغزالي — كان لا بد أن نلحظ ما بين أجزاء الكون من ترتيب خاص، ومن هنا يخلص الغزالي إلى أن العدل مرتبط بهذا الترتيب، وإذن فهو في صميم معناه وضع الشيء في موضعه الملائم.
فهل كان يمكن أن أقرأ ذلك للغزالي في «العدل» المطلق، الذي هو الله سبحانه، دون أن أرى الأساس المشترك بينه وبين العدل الذي تصوره أفلاطون في المجتمع الأمثل، وهو أن يوضع أفراد الناس في مواضعهم التي تلائمهم؟
وإذا قلنا أن العدالة الاجتماعية كما تصورها أفلاطون، قائمة على أساس «الجدارة»، بمعنى أن يأخذ الشيء من هو أجدر به، فليس هذا هو الأساس الوحيد الذي شهده تاريخ الثقافات في العصور المختلفة وبين الشعوب المختلفة، بما في ذلك عصرنا هذا وأهله، وأريد لك قبل المضي في حديثي أن تتذكر بأنني قد عرضت أمامك حتى الآن معنيين للعدالة: كان أولهما هو المعنى الضيق الذي نفهمه في ساحات المحاكم، وهو معنى يكاد يقتصر على رد الحقوق المغتصبة إلى أصحابها (أما لماذا تكون هذه الحقوق حقوقًا لأصحابها؟ فذلك أمرٌ آخر)، وأما المعنى الثاني فهو أوسع شمولًا؛ لأنه يتسع ليشمل البناء الاجتماعي كله، وكيف يجب أن يقام على أساس الجدارة.
وأريد الآن أن أذكر لك أساسًا ثالثًا، هو ما يشيع في الفكر السياسي والاجتماعي اليوم، في كثير من بقاع الأرض، ونحن منهم، وهو أن تكون العدالة الاجتماعية قائمة على أساس حاجات الناس، لا على أساس «الحقوق» المزعومة لأصحابها، ولا على أساس «الجدارة» المطلقة، فنحن حين نكفل للعامل حدًّا أدنى من الأجر، نريد أن نقول بهذا، أنه مهما يكن من أمر الحقوق، وكائنةً ما كانت جدارة العامل في عمله، فمن العدالة أن يعيش بحد أدنى من الأجر هو كذا، ثم له بعد ذلك أن يزيد، وحين نكفل للساكن في ملك غيره ألا يكون من حق المالك أن يطرد الساكن من مسكنه، نريد بهذا أن نقول: إن الأمر ليس أمر حق وامتلاك، بل هو قبل ذلك ضرورة حياة، فمن العدالة أن نترك لهذا الساكن ما يُئْويه، وهكذا وهكذا.
وهنا تكون التفرقة بين العدل حين يجعلونه معصوب العينين، حتى لا يبصر، والعدل حين يفتح عينيه ليرى ماذا هو صانع بالناس، الحالة الأولى في حالة العدل القضائي الذي نعهده في المحاكم، والذي مداره هو «الحقوق»، فهذا حقي وهذا حقك، ولا يجوز لأينا أن يعتدي على حق أخيه، فإذا اعتدى منا معتدٍ بغير حق، نصب له العدل القضائي ميزانه، عاصبًا عينيه، حتى لا يرى أين يقع عقابه؛ وذلك لأنه إذا نظر ورأى فيجوز أن يجد من يقف أمامه صاحب سلطان ممن يخشى بأسهم، فيخاف العواقب، فيجفل، فلا ينزل عقابه حيث ينبغي أن ينزله.
وأما إذا جاء دور العدل الاجتماعي بمعناه الأوسع، ليجعل محوره ضرورات العيش وحاجاته، وأخذ على نفسه أن يحقق للناس ما لا بد من أن يتحقق لهم من أسباب الحياة ليعيشوا، فها هنا يتحتم أن يفتح عينيه ليفرق بين من يملك ومن لا يملك، وليعلم على وجه التحديد ممَّن يأخذ وإلى مَن يعطي.
تلك إذن هي أسس ثلاثة، ومعانٍ ثلاثة للعدل كيف يكون، قد لا تتحقق كلها معًا في عصر واحد، ولا في شعب واحد، بل إن بينها في حقيقة الأمر تناقضًا يتعذر معه أن تتحقق كلها معًا في المجال الواحد، فمثلًا إذا جعلنا الأولوية في إقامة العدل لحاجات الناس وضرورات العيش، لا للجدارة والقدرة، فلمن من العلماء والأدباء نعطي جوائز الدولة؟ إننا في هذه الحالة نعطيها لأفقر العلماء والأدباء، وأشدهم حاجة للمال، لكننا لا نفعل هذا، ولا يجوز لنا أن نفعله؛ لأن العدل في مجال كهذا يقتضي أن يكون المدار هو الجدارة لا الحاجة، ومعنى ذلك أن هذين الأساسين من أسس العدالة ينقض أحدهما الآخر في هذا المجال المعين.
وخذ مثلًا آخر، إننا حين أردنا أن نحقق الإصلاح الزراعي، كانت الأرض يملكها فريقٌ من الناس، ويُحرَم منها فريق آخر، فلو كان العدل عندئذٍ معناه المحافظة على «الحقوق»، لتركنا لمَن يملك ملكه، ومَن لا يملك صفر اليدين، لكننا أقمنا للعدل عندئذٍ محورًا آخر، هو محور «الحاجة»، وبناءً على هذا الأساس الجديد، اقتضى العدل بمعناه الجديد أن نأخذ ممن يملك لنعطي من لا يملك، ومعنى هذا أيضًا أن هذين الأساسين من أسس العدل: أساس «الحقوق»، وأساس «الحاجة» ينقض أحدهما الآخر، فإما هذا وإما ذاك، لكنهما لا يجتمعان.
ليس هذا الذي نقوله تفكيرًا نظريًّا مجردًا، وإنما هو ما قد حدث في التاريخ بالفعل، إذ كانت الأنماط المختلفة من صور المجتمع، تتطلب أسسًا مختلفة كذلك للعدالة، فالأساس الذي كان صالحًا لمجتمع في بيئة معينة وعصر معين لم يعد صالحًا في بيئة أخرى وعصر آخر، فمثلًا كان الناس في العصور الوسطى كلها — شرقًا وغربًا على السواء — وهي نفسها عصور الإقطاع، أقول إن الناس في تلك العصور كانوا يقيمون فكرة العدل على أساس «الحقوق»، فإذا كانت الحقوق عندئذٍ هي أن يملك الإقطاعي رقعة الأرض كلها، وألا يملك سائر الناس من الأرض شيئًا، فلا حيلة لأحد، فلما تطور المجتمع الأوروبي — بصفة خاصة — من زراعة إقطاعية إلى تجارة في المقام الأول، ونشأ ما يسمونه بالطبقة البورجوازية، فها هنا تحولت فكرة العدالة بعض الشيء، من الحقوق الطبيعية للأفراد، إلى الجدارة والمهارة، وبذلك انفسح ميدان التنافس على أوسع مداه، ولم يكن في ميدان التنافس رحمة بالعاجز، فها هو ذا مجال التجارة مفتوح أمام الجميع، والكسب للسابقين القادرين، ولم يكن يومئذٍ من العدل أن تقول للمتنافس الناجح: قف هنا ليعيش سواك، ثم تطور المجتمع مرةً أخرى إلى العصر الذي نعيشه اليوم، وتحتم أن يتغير محور العدل ليلائم الظروف، فكان أن جعل العدل محوره هذه المرة حاجات الناس لكي يعيشوا، فأصبح هذا العدل الجديد يقتضي أن نسوي الأرض بعض التسوية، فننزل بعاليها، ونرتفع بواطئها حتى يقترب المستويان، ولو إلى حدٍّ معين.
لكننا برغم ذلك ننظر اليوم لواقع حياتنا، فنرى أن هذا الواقع ليس كله سواء، إذ ليست مجالات الحياة كلها من جنس واحد، مما ينتج عنه وجوب أن يكون لكل مجال أساسه الصالح له من أسس العدالة، فهنالك مجال «الحقوق» التي يحددها القانون لأصحابها، وإذن فلهذا المجال أساس خاص لإقامة العدل، هو الذي تضطلع به المحاكم، وهنالك مجال الجدارة الذي يقتضي أساسًا للعدالة آخر، كما يحدث مثلًا حين نعطي مقاعد الدراسة في الجامعات للأجدر فالأجدر، ثم هنالك ثالثًا مجال ثالث يحتم علينا أن يكون أساس العدل فيه حياة الناس ومتطلباتها الضرورية.
وأصلح الحكم هو ما يكون حسَّاسًا للفوارق التي تميز هذه المجالات الثلاثة بعضها من بعض، ليقيم لكل ميدان ميزانه الملائم، على أنه إذا كان العدل في المجالين الأول والثاني أعمى كما ينبغي له أن يكون، حتى لا يفرق بين الأشخاص إلا على أساس «الحقوق» في المجال الأول، وإلا على أساس «الجدارة» في المجال الثاني، فإنه لا بد للعدل في المجال الثالث أن يكون مبصرًا ليرى في وضوح مَن الذي يؤخذ منه، ومَن الذي يُعطى ويُعان.