في دنيا العمل
بين العاملين بأيديهم، والمفكرين برءوسهم تعارض وهمي تصوره الأقدمون، ولبث الوهم قائمًا إلى أن جاء عصرنا هذا بنظرة جديدة، جعلت من الضدين المزعومين كيانًا واحدًا موصول الجانبين، فالأيدي تفكر وهي تعمل، والرءوس تستعين بالأيدي وهي تفكر، فلقد مضى زمن كان الفكر فيه — أعني الفكر بلا عمل — سمة لطائفة محدودة مترفعة، وكان العمل فيه متروكًا لطائفة أخرى مكدودة متواضعة، نعم لقد مضى زمن كانت «الرءوس» فيه حكرًا لطائفة، وكانت «الأيدي العاملة» مقصورة على طائفة أخرى، وكان بين الطائفتين — في أوهام الناس — تفاوت في المنزلة، يشبه التفاوت الذي يجعلونه بين العقل والبدن، فللعقل — عندهم — طبيعة روحانية رفيعة، وللبدن طبيعة مادية خسيسة، وإذا رأيت الصعوبة التي نعانيها اليوم في تحويل التيار التعليمي من الطريق «النظري» إلى الطريق «الفني»، فاعلم أن أصول هذه الصعوبة ممتدة إلى جذور تقليد قديم.
وجاء عصرنا ليُزيل الفواصل بين أضداد كثيرة منها هذا التضاد المزعوم بين المفكر والعامل، وإنني لأسمع المتحدثين عن المنهج الجدلي في حركة التاريخ، يسوقون أمثلة كثيرة توضح للناس كيف أن سير التاريخ يفسره الصراع بين الأضداد، صراعًا ينتهي بصهر الضدين في مركب واحد يؤلف بينها، لكني لا أذكر أني وقعت بين تلك الأمثلة على هذا المثل الذي أسوقه الآن، وهو المثل الذي يصور كيف انتهى التضاد بين الفكر والعمل إلى هذا المركب الجديد، الذي يدمج الفكر في العمل، أو قل إنه يدمج الفكر في التطبيق دمجًا يجعل المفكر عاملًا، والعامل مفكرًا، وهو مركب يعد من أبرز خصائص العصر؛ لأنه ذو صلة وثيقة بما نطلق عليه اسم «التكنولوجيا».
بل إن هذا الدمج الكامل بين الأفكار والأيدي لم ينتظر حتى جاءه عصر التكنولوجيا هذا ليظهره، كل ما في الأمر أن هذا العصر قد أبرز هذا الدمج الحتمي بوجه جديد، وإن شئت فانظر إلى العاملين بأيديهم في خان الخليلي، لترى كيف تتحد حركات الرأس مع حركات اليدين، لترى كيف يميل الرأس مع سير الأصابع، فتعلم عندئذٍ ألا أسبقية لفكر على عمل، كلا ولا أولوية لعمل على فكر، وإنما هما كطرفي العصا المغموسة في الماء، فطرف على قاع الإناء وطرف في الهواء، لكن ذلك لا يجعل أيًّا من الطرفين ممتازًا على الآخر.
ولماذا نقصر القول على صناع الزخرفة ولا نمده ليشمل الفنون الإبداعية نفسها؟ فانظر إلى المصور وفرشاة التصوير بين أصابعه، وإلى النحات ويداه تحركان الأزميل، بل وعازف الموسيقى وأطراف أنامله تجري خفيفة على الأوتار، انظر إلى هؤلاء جميعًا وقل لي أين يقع الخط الفاصل بين الرأس واليدين؟ اليدان في الإنسان كالعينين والشفتين تكشفان عن روح الإنسان وسره؛ لأنهما يكادان ينطقان.
الشائع بين الناس هو أن «الفكرة» هي التي سبقت، ثم جاءت الخليقة تنفيذًا لها وجلاءً لسرها، وهذا صحيح بالنسبة للكون في عمومه، لكن هل يا ترى هو صحيح كذلك بالنسبة للإنسان؟ أو أن البدء في حياة النوع الإنساني كله، وفي حياة كل فرد من ذلك النوع، إنما كان لليدين تعملان؟ هل كان إنسان العصر الحجري وهو يقد سكينًا من الحجر ليستعين بها على تقطيع الصيد، أقول هل كان ذلك الإنسان الأول قد جلس بادئ ذي بدء «يفكر» ويرسم الخطط، ثم أخذ بعد ذلك يقد السكين بناءً على ما فكر وخطط؟ أو كان العمل والفكر يجريان معًا في مسيرة واحدة، كل منهما يصحح الآخر ويقوم له طريق السير؟ انظر إلى نفسك وأنت تحاول إصلاح جهاز تلفت أجزاؤه، أو تحاول فك عقدة في خيط تداخل بعضه في بعض، تجد فكرك ويديك في تعاون عجيب، كل منهما يستجيب للآخر كأنهما الشعبتان في مقص.
ومن الأضداد التي يكررها الناس لأنفسهم بغير معنًى واضح، قولهم الإنسان والبيئة، أو الإنسان والطبيعة، أو الإنسان والعالم، كأنما البيئة أو الطبيعة أو العالم يكون لها من الدلالة شيء أكثر مما يصنعه الإنسان بها أو مما يدركه منها، إن تاريخ الإنسان كله، بل إن حياته نفسها هي تفاعل بينه وبين ما يحيط به، مما نسميه بيئة أو طبيعة أو عالمًا، والذي يهمني هنا من هذا التفاعل هو أن الجانب العقلي من الإنسان لم ينشأ في فراغ وعزلة، بل نشأ ونما مع الجانب الآخر الذي تنصب عليه فاعليته، فلو لم يكن هناك عمل للإنسان يعمله في مادة الطبيعة الخامة لما نشأ له دماغ يفكر، وكلما تطورت فاعلية العمل بين الإنسان وبيئته الطبيعية، تطور معها هذا الدماغ وقدرته على التفكير إلى الدرجة التي نستطيع معها أن نقول: إنه بمقدار ما يطوع الإنسان مواد الطبيعة بعمله، يكون مقدار ما عنده من ذكاء العقل.
لم تكن اليدان في المراحل الأولى من التطور مستقلتين في الحركة عن الساقين، ولذلك لم تكن لهما عندئذٍ مهارات خاصة بهما، فلما نشأت في البيئة ظروف تستدعي أن تتحرك اليدان وحدهما دون الساقين، استقلتا، وبذلك نشأت لهما قدرة خاصة على العمل، ومعنى ذلك أن اليدين اللتين هما الآن أداة العمل، قد كانتا فيما مضى نتيجة خلقها العمل خلقًا، ومع نشأة اليد العاملة نشأت سيطرة الإنسان على الطبيعة، أي إنه مع نشأة اليد العاملة نشأ الإنسان بالمعنى الذي نعرفه.
إنني لا أظن أن تاريخ الحياة الإنسانية منذ أول ظهورها، قد شهد يومًا واحدًا كان الإنسان فيه مفكرًا وناطقًا باللغة التي تحمل فكره، قبل أن يكون صانعًا بيديه، فهو مفكر صانع، أو صانع مفكر في اللحظة عينها، ولو كان لأحد الشقين أولوية نظرية على الآخر، فالأولوية للإنسان الصانع على الإنسان المفكر؛ لأنه بصناعته يوفر لنفسه ضرورات الحياة الحيوانية الأولية التي سبقت كونه إنسانًا.
ونعود إلى ما بدأنا به من حديث عن الوحدة الاندماجية التي اشتدت ظهورًا في عصرنا هذا بين جانبي الفكر والعمل، فنقول إن هذه الوحدة تصاحبها عوامل لا هي من طبيعة العقل النظري، ولا هي من طبيعة الأيدي العاملة، فهي عوامل تنبثق من ينبوع آخر، هو نفسه ينبوع العقائد على اختلاف ضروبها.
ومن أهم تلك العوامل المصاحبة مجموعة القيم التي نسير على هداها والأهداف التي نوجه السير نحوها، فإذا كان الفكر والأيدي كافيين وحدهما لإنجاز عمل معين، فإنه يبقى أن نعلم، لماذا هذا العمل المعين دون سواه؟ وإلى أي هدف هو؟ ومثل هذه الأسئلة لا تجد الجواب إلا في تلك العوامل المصاحبة التي أشرنا إليها، فهي وحدها التي تجعل للحياة العاملة معنًى، وبغيرها يصبح العقل المفكر من صفات الشياطين كما يصبح العمل لعنة من الله على البشر، لكن لا العقل المفكر من صفات الشياطين كما هو مصور في فاوست، ولا العمل لعنة من الله على البشر كما هو مصور في قصة آدم؛ وذلك لأن العقل والعمل كليهما توجهه قيم إنسانية من أجل أهداف حضارية.
إن هذا الينبوع الآخر الذي تنبثق منه العوامل المصاحبة لدنيا العمل، هو شرط أساسي لكي يكون العمل دعامة ثقافية حضارية معًا، إنه هو «الإيمان» الذي بغيره يسود السأم ويسود القلق في نفوس العاملين؛ لأن الحياة العاملة عندئذٍ تفقد معناها لفقدانها ما يبررها، وقد تسأل: إيمان بماذا؟ فيكون لجواب: إيمانًا بالقيم والأهداف التي تفرزها الفترة المعينة في الحضارة المعينة فيكفي — مثلًا — أن يؤمن العاملون بأنهم إنما يعملون لا لكسب العيش وحده، بل يعملون ليقيموا للوطن مجده، أو لينشروا رسالة دينية، أو ليهيئوا لأبنائهم حياة أفضل، أو ما شاء لهم موقعهم الحضاري أن يعملوا من أجله، أقول إنه ليكفي أن يبث في النفوس إيمان كهذا، ليجد العاملون ما يبرر عناء العمل.
وإنها لمفارقة عجيبة حقًّا أن نرى بعض الشعوب التي هي اليوم في المقدمة من دنيا العلم والصناعة، قد فقدت ذلك الينبوع الذي أشرت إليه، فلم يعد أمام العاملين أهداف يؤمنون بها، فشاع في نفوسهم الملل من الحياة، وازدادت بينهم الأمراض النفسية، كما زاد التمرد والعنف والجريمة، برغم التقدم العلمي الصناعي الهائل وما صحبه من ثراء، أقول هذا بمناسبة كتاب حديث، عنوانه «دنيا العمل» — والمقصود بالكتاب هو دنيا العمل في أمريكا — والكتاب غريب وطريف معًا؛ لأنه لا كالكتب في طريقة التأليف، بل انفرد صاحبه بطريقة فريدة، وهي أن يطوف بين ألوف العمال ومعه جهاز للتسجيل الصوتي، وراح يتحدث إلى هؤلاء الألوف من العاملين في مواقع العمل، ليلتقط من أفواههم تعبيرهم المباشر عما يشعرون به إزاء ما يؤدونه من أعمال، ثم أثبت ذلك كله في كتابه، وبهذا فقد وضع قارئ الكتاب في معترك العمل ليسمع بنفسه ما يقال هناك، وإذا بالخلاصة التي انتهى إليها من تسجيلات بلغت مئات الصفحات، هي أن ميادين العمل أقرب إلى ساحات القتال بما يولده القتال في النفوس من ضيق، وفي الأبدان من مرض.
وكان من أهم ما أدى بهم إلى هذا كله، شعورهم بفقدان المبرر الذي يبرر هذا العناء المضني، أنهم لا يرون أهداف ما يعملونه سوى أنه كسب للعيش، ولذلك فالعامل لا يعمل إلا بمقدار ما يحفظ له مكانه في دنيا العمل، وأما أن يوحد بين ذاته وبين عمله الذي يؤديه، بحيث يشعر إزاءه شعور الفنان، وهو يصور أو يعزف، فذلك أبعد ما يكون عن واقعه، حتى ليثير فيه الضحك ولو ذكرته له، ومن هنا فقدت أخلاقيات العمل سلطانها على العاملين هناك، واشتد بهم الضجر، وكثر الغياب، وساد التراخي، وكما يقول صاحب الكتاب المذكور: إن ثمانية وتسعين من كل مائة عامل ممن استمع إليهم، يقضون ثلثي أعمارهم في عمل لا يرغبون في أدائه إلا مرغمين، ولهذا فقد جعل شعار الكتاب الذي وضعه على غلافه الخارجي، عبارة قالتها له عاملة تليفون ردًّا على سؤاله إياها كيف تشعر إزاء عملها؟ فقالت: وكيف تريدني أن أشعر إذا رأيت نفسي أعمل هذا العمل الذي يستطيع أداءه قرد لو أجلسوه مكاني؟
دنيا العمل في الأمة هي ترجمانها، فقل لي ماذا يسودها من مشاعر في صدور العاملين أقل لك ما حقيقة تلك الأمة في مرحلتها الراهنة، إنك إذا فحصت دنيا العمل وما يدور في أرجائها كنت كمن يتطلع إلى صميم آلامه من ثقب المفتاح، أو كمن يسترق السمع من وراء الجدران، وأسوأ الحالات هي أن يفقد العامل اهتمامه بالعمل لشعوره بأن قيمته لم تعد تزيد عن ترس في آلة، وأما أفضل الحالات فهي أن يشعر العامل وكأنه يعمل لنفسه.
كان من أصدق الملاحظات التي أثبتها ابن تيمية قوله إن أهم ما يشد أفراد الأمة بعضهم إلى بعض في أمة واحدة متماسكة هو المشاركة في الفعل، فقد يشترك الأفراد في لغة واحدة، بل قد يشتركون في عقيدة واحدة، ويجمعهم تاريخ واحد، ولكنهم يتبعثرون في «الفعل»، بحيث لا يستهدفون جميعًا هدفًا واحدًا، وبهذا يفقدون أهم مقومات الأمة، ولقد أصاب ابن تيمية كل الصواب في ذلك، فوحدانية الهدف وما يتبعها من وحدانية القيم بين أبناء الشعب الواحد هي أقوى ما يجعلهم شعبًا واحدًا.
ولقد سألت نفسي بعد أن قرأت عن كتاب «دنيا العمل»، وبعد أن علمت منه ما علمته عن ساحة العمل في بلد هو رائد الحضارة العصرية، وما يسود تلك الساحة اليوم — على حد تعبير صاحب الكتاب — من قرح في المعدات، وحوادث ومشاجرات وانهيارات عصبية وظواهر عنف وقلق وضيق، أقول إني سألت نفسي: هل كانت هذه حالة العمل وهم يبنون الأهرامات في مصر القديمة؟ أو وهم يبنون سور الصين العظيم؟ هل كانت هذه هي حالتهم وهم يقيمون أروع المساجد وأعظم الكاتدرائيات؟ هل هذه هي حالتهم في معظم البلاد التي يسمونها بالبلاد النامية، حيث يشتد الوعي الوطني بأهداف العمل القومية؟
إنه إذا كان الجواب عن هذه الأسئلة هو بالنفي، بقي أن نسأل: ما الذي حضر هنا فامتنع الشقاء بالعمل، وغاب هناك فشاع الشقاء به؟ إنه الإيمان بقيم وأهداف.