معادلات صعبة
التعبير ﺑ «المعادلة الصعبة» تعبير حديث، استخدموه أول ما استخدموه فيما أعتقد ليصوروا به إحدى مشكلات الموقف الاقتصادي الجديد، وبصفة خاصة في البلاد النامية، أو التي ظفرت بحريتها السياسية منذ قريب، أو البلاد التي دخلتها الصناعة الحديثة أخيرًا، وخلاصة هذه المشكلة — في أساسها — هي: لأي الجانبين تكون الأولوية على الجانب الآخر، أتكون لتنمية الإنتاج، أم تكون لسد الحاجات الملحة الكثيرة، التي يشعر المحرومون من أبناء الشعب أنها من حقهم الناجز السريع، كالتعليم، والصحة، والإسكان، ووقت الفراغ … إلخ، إلخ؟
وهذا السؤال يتضمن القول بأن أحد هذين الجانبين لا يمكن تحقيقه إلا على حساب الآخر؛ ذلك لأن تنمية الإنتاج تقتضي بالضرورة أن يستخدم الفائض المدخر في دفعها إلى الأمام، على حين أن الخدمات الاجتماعية — لو جعلنا لها الأولوية — تتطلب أن ينصب في بحرها كل مدخر فائض، فإذا نحن واجهنا حاجات الجمهور المحروم لنرتفع بمستواه، كان على الإنتاج أن يخصص جهده لتلك الخدمات الضرورية، وبالتالي ينسد أمامه طريق النمو.
ومن هنا ارتفعت الصيحة ﺑ «المعادلة الصعبة»، التي تعترف بالتضاد الكائن بين شطري الإنتاج والخدمات، أو قل إنه تضاد كائن بين إنتاج يزدهر في ناحية، وعدالة اجتماعية في ناحية أخرى، لكن صيحة «المعادلة الصعبة» برغم التضاد الكائن بين شطريها، تسأل: ألا يمكن البحث عن نقطة وسطى، نرتكز عليها، فيتم شيء من التوازن بين الشطرين المتضادين؟ فكم نأخذ من حصيلة الإنتاج لصالح الخدمات، وكم نبقي من تلك الحصيلة لصالح عملية الإنتاج نفسها؟
لم تكن مشكلة إيجاد التوازن هذه، قائمة في البلاد التي نشأت فيها الصناعة الحديثة منذ أول ظهورها — مثل إنجلترا — وذلك لأن رجال الصناعة في ذلك العهد لم يعرفوا للعاملين في مصانعهم حقوقًا، ودفعهم التنافس، على زيادة الربح، وعلى تنمية صناعتهم، إلى طحن عمالهم طحنًا بين شقي الرحى، دون أن يكون لهؤلاء العمال عندئذٍ صوت مرفوع ومسموع، ومن شاء فليقرأ قصص الأديب الإنجليزي، في القرن الماضي، تشارلز دكنز، ليرى البؤس بين جمهور العمال في مصانع إنجلترا، كيف كان وإلى أي حدٍّ بلغت بشاعته، فلما أن كرت الأيام طاوية في جوف التاريخ ذلك العهد المشئوم، وجاءت مرحلة جديدة في عصرنا هذا، عرف فيها الإنسان العمل حقوقه، وطالب بسد حاجاته، كانت الصناعة قد استقام عودها، وقويت جذورها، ولم يعد هنالك هذا التناقض الشاذ بين الإنتاج النامي والعدالة الاجتماعية.
لا، بل إنه حتى في بريطانيا، لم يزل شيء من التناقض بين الطرفين قائمًا، بدليل المشكلة الحادة التي أثارتها نقابات العمال في سبيل رفع أجورهم، بغض النظر عن حصيلة الإنتاج الفعلية، وهل تكفي لتلك الزيادة أو لا تكفي، وكان من بين ما قرأناه في هذا الموضوع، مقال بارع بقلم «آرنولد توينبي» المؤرخ المعروف وفيلسوف التاريخ — وكان ذلك قبيل وفاته — رد فيه الأمر إلى أصوله التاريخية عندهم، قائلًا إن بذور المأساة كانت تكمن في أن رواد الإنتاج الصناعي الأولين، حين أبدوا قدراتهم الفائقة في استثمار المال، واستغلال الطبيعة ومواردها، لم يقفوا عند هذا الحد، بل تجاوزوه إلى العامل البشري نفسه فاستغلوه واستثمروه، لا في المستعمرات وحدها، بل في قلب الوطن البريطاني نفسه.
فكانت نتيجة هذا الاستغلال الظالم للإنسان العامل، أن كون العمال نقابات تحميهم، وما زالت في نفوسهم إلى اليوم (يقول توينبي) بقية باقية من موقف التحدي القديم، حتى وإن تكن قد اختفت دواعيه، فتراهم يطالبون بزيادة أجورهم، وليذهب الإنتاج إلى الجحيم، فكأنهم بمثابة من يطالبون بلادهم بأن تنفق أكثر مما تنتج، وهو موقف — يقول توينبي — يستحيل بحكم طبائع الأمور نفسها ألا ينتهي إلى إفلاس.
والموقف في البلاد النامية مختلف من وجوهٍ كثيرة، لكن صعوبة إيجاد التوازن بين جانبي الإنتاج والإنفاق على خدمات الجمهور، قائمة تتطلب بذل الجهود لحلها، وهو الموقف الذي تشير إليه العبارة الحديثة الاستعمال: «المعادلة الصعبة».
غير أن صعوبة التعادل أو التوازن أو الاتفاق بين طرفين متضادين، كانت له صور كثيرة أخرى، ليس بينها وبين المشكلة الاقتصادية الجديدة شبه إلا في رغبة الناس في أن يجدوا نقطة التلاقي بين الضدين، عندما يكون الضدان كلاهما مطلوبًا.
خذ مشكلة من أعوص مشكلاتنا الفكرية، تناولها المسلمون الأولون، وهي ما تزال إلى يومنا هذا قائمة تتحدانا؛ لأنها لم تجد بعد الحل المقنع المريح، الذي يذيب التضاد بين الطرفين المتقابلين، وأعني بها مشكلة إرادة الإنسان الحرة أو المقيدة، وما يترتب على حريتها أو قيدها من حجم المسئولية الأخلاقية، وأما الطرفان اللذان يبدوان متضادين، واللذان يطلبهما الإنسان معًا وفي وقتٍ واحد، ومِن ثَم جاءت رغبته الحارة العميقة في أن يجد المفكرون لهما حلًّا يزيل التضاد، فهما: هنالك من جهة مسئولية الإنسان عما يفعل، مسئوليته أمام نفسه وأمام الناس وأمام الله، وهي مسئولية لا تستقيم إلا إذا كان الإنسان حرًّا فيما يختار فعله، ولكن من جهة أخرى هنالك مشيئة الله تعالى لما يفعله الإنسان وما لا يفعله، فكيف يكون التوفيق بين الطرفين؟
إنني لا أنوي أن أدخل فيما بذله المفكرون المسلمون السابقون واللاحقون في سبيل إزالة التضاد، لكني أريد أن أقول إنه مثل قديم لمعادلة صعبة أراد الإنسان وما يزال يريد أن يجد لها الحل المقبول الذي لا يضحي بأيٍّ من الشطرين.
وهناك أمثلة أخرى من حياتنا الثقافية المعاصرة: مشكلة الكم والكيف في التعليم، فمن جهة هنالك ملايين الأبناء الذين يريد لهم ذووهم، ويريد لهم الوطن كله أن يظفروا بحقهم في التعليم كاملًا، لكن من جهة أخرى هنالك القدرات المالية والفنية المحدودة، التي لا تستطيع الوفاء بهذا الحق للجميع، فأين نجد نقطة التلاقي بين ما هو مطلوب وما هو مستطاع؟ وإن المشكلة لتزداد حدة عندما نطلب من أنفسنا أن نؤدي الخدمة التعليمية على أكمل وجوهها، فهل تتحقق لنا خدمة هذا الكم الضخم من الراغبين في التعليم، بذلك الكيف الجيد الذي نطمع في بلوغه؟
هي معادلة صعبة، بل من أصعب المعادلات المطروحة علينا؛ لأن التوافق بين شطريها متعذر إن لم يكن ضربًا من المحال، ولذلك رأينا من قادة التربية في بلادنا من آثر مقابلة أحد الشطرين على حساب الآخر، فمنهم من قال إن الأفضلية تكون للكيف الجيد، حتى ولو كان ذلك على حساب خدمة الجميع، ومنهم من قال عكس ذلك، إذ قال إن الأفضلية إنما هي لخدمة الجميع بمثل ما تقدم لهم الطبيعة ما يحتاجون إليه من ماء وهواء، حتى لو كان ذلك على حساب الكيف الجيد الذي كنا نتمناه، ما زلنا أمام هذه المعادلة الصعبة في شدٍّ وجذب، تتتابع محاولاتنا، من هنا مرة، ومن هناك مرة، لكن المعادلة الصعبة ما زالت بغير حل أخير.
ومعادلة صعبة أخرى في حيانا الحضارية الراهنة، لعلها من أعسرها جميعًا، إن لم تكن أعسرها على الإطلاق، وهي التوفيق بين أصالة حضارية نحافظ بها على جذورنا، ومعاصرة نقبل بها حضارة العصر بكل ما يميزه، وليس أسهل عند بعضنا من القول: نأخذ من حضارة العصر ما يصلح لنا، ومن حضارتنا الأصيلة ما يمكن أن يحيا في ظروف العالم الراهنة، نعم هو قول سهل، حتى إذا ما بدأت تدخل في تفصيلات ما تأخذه وما تتركه، وجدت الأمر عسيرًا كل العسر.
ﻓ «العصر» ليس كلمة تقال، وإنما هو خيوط متشابكة لا حصر لها من نظم وأوضاع وعلوم وفنون وفلسفات ومذاهب، هو — مثلًا — نظم اقتصادية، فهل تظن أن الأمر هين علينا في أي نظام اقتصادي نختار؟ إنه ما يزال بيننا من يبدأ من ألف باء النظام الاقتصادي، فيتساءل عن البنوك وشركات التأمين وغيرها هل يجوز أخذها أو لا يجوز، والعصر كذلك أوضاع اجتماعية تناولت نظام الأسرة فيما تناولته، فهل تظن أن الأمر هين علينا في تحوير نظامنا الأسري ليلتقي بالتيارات الحديثة في علاقة الزوج والزوجة، وعلاقة الآباء والأبناء؟ والعصر أيضًا علوم، ومنا مَن لا يزال يتشكك في قدرة العقل البشري على أن يعلم، والعصر فنون تتميز بخصائص معينة، ومنا مَن يغمض عينيه ويغلق قلبه دون الفنون المعاصرة، وهكذا … وهكذا.
فإذا استدرت إلى حضارتنا الماضية لترى ماذا تبقى منها، وجدت منا مَن يريد بقاءها بحذافيرها، ومنا مَن يريد التنكر لها بكل ما فيها، ومنا من يحاول أن ينتقي ويختار، وإذن فهما شطران يتعارضان في كثير جدًّا من الأحوال والفروع، ومع ذلك فنحن نريدهما معًا، وعلينا أن نبحث عن صيغة الحل.
معادلات صعبة كثيرة تكتنف حياتنا، ومحاولات حلها هي التي ينبغي أن تكون المدار الرئيسي فيما يصح تسميته بالفكر العربي المعاصر.