عند جبل الملح
وقفنا يومًا في مدينة هالشتات بالنمسا، وهي قريبة من سالزبورج، والاسمان كلاهما معناه «مدينة الملح»، وكانت وقفتنا عند جبل يقال إنه أقدم منجم للملح عرفه الإنسان والجبل الضخم رابضٌ في سكونه العميق عند بحيرة هادئة، وهنالك بين الجبل الساكن والبحيرة الهادئة جلسنا، وبضعة المنازل التي تكون مدينة هالشتات نائمة في حضن الجبل وعلى حافة البحيرة، كأنها جماعة من الحملان الوادعة أكلت فشبعت وشربت حتى ارتوت، ولم يعد لها إلا أن ترقد مسترخية في حراسة الجبل وحمى البحيرة.
السكون شامل يلف كل شيء، حتى لتسمع الهمسة الخافتة على مبعدة، ولو جلس جلستنا الشاعر العربي القديم الذي قال إنه قد بلغ الثمانين، وضعف عنده السمع ضعفًا احتاج منه أن يصاحبه ترجمان لينقل إليه ما يقال من حوله، أقول إن ذلك الشاعر لو جلس جلستنا، لأسمعته أذناه الواهنتان كل همسة تنبس بها شفتان.
لكن الله لم يرد لهذا السكون العميق الشامل من حولي، أن يتحول داخل النفس إلى سكينة، فكان التضاد حادًّا بين الباطن والظاهر، بل لعل هذا التضاد الحاد نفسه قد جاء بسبب عمق السكون وشموله؛ لأنني — كأي مصري خارج وطنه — لا يكاد يقع منه البصر أو السمع على شيء، حتى يسرع إلى ذكر مصر، مقارنًا ومفاضلًا، فهو حينًا يحلو في عينه ما يرى، وفي أذنه ما يسمع، فيتمنى لمصر أن تنهض لتبلغ مثل هذا الذي حلا في العين أو الأذن، وهو حينًا آخر يستقبح ما يراه وما يسمعه، فيتمنى لمصر ألا يسوء بها الأمر، حتى تنحدر هذا المنحدر، إنها دائمًا مصر مشغلة المصري أينما حل أو ارتحل.
وكانت النقلة عندي هذه المرة من الحسن إلى القبيح، من الحسن الذي يشتملني في جلستي تلك بمدينة هالشتات على الحافة بين جبل الملح من ورائي والبحيرة الهادئة من أمامي، إلى القبيح الذي استحضرته إلى ذهني المقارنة والمفاضلة، فكما يذكرك البياض بالسواد، ذكرني هذا السكون العجيب ما تركته ورائي من جلبة وصراع، وهو صراع رأيته عندئذٍ ماثلًا أمامي على مستويات ثلاثة: رأيته ماثلًا فيما يمزق الوطن العربي الكبير من عراك، ورأيته كذلك ماثلًا فيما يدب بين الناس في الوطن المصري من خصومة وخلاف، ثم رأيته ماثلًا أمامي فيما بيني وبين نفسي من تباين بعيد بين المحقق والمأمول.
كانت ضراوة القتال في لبنان هي أول ما ورد من خواطر، أهذه يا ربي هي نفسها أرض لبنان التي رأيتها منذ نحو عشر سنوات، فرأيت في بعض أرجائها مثل هذا السكون الجميل الذي أحسه الآن من حولي في مدينة هالشتات؟ هل أمكن لتلك الجبال المخضرة اليانعة أن تحرك في نفوس أهلها كل تلك البغضاء الدامية؟ لكني — وأقول الحق — كنت يوم رأيت لبنان قد أحسست في نفوس أبنائه شيئًا شاذًّا لم أستطع تحديده يومئذٍ، وكأني أراه الآن واضحًا وهو أن بناء الحياة هناك كان قائمًا على أرض هشة، فهو بناء كانت تراه العين فيبهرها ارتفاعه، لكنه في حقيقة الأمر مقام على شفا جرف، لو دفعه دافع بإصبع واحدة، اهتز وانهار.
كان قد أخذ جماعة المثقفين في لبنان كثير من غرور، واشتد عندهم ذلك الغرور بعد أن قال طه حسين قولته المشهورة بأن الثقافة انتقلت من القاهرة إلى بيروت — أو كما قال — ولقد حدث لي عندما ذهبت إلى بيروت سنة ١٩٦٤م معارًا لجامعة بيروت العربية لبضعة أشهر، أن زارني في منزلي هناك فريق من الشباب المثقف، كانوا أربعة أو خمسة، كلهم مشتغل بالأدب أو بالصحافة، والحق أني لم أكن أتخيل أنني معروف لأحد، برغم كثرة ما كتبت لأن شيئًا في نفسي يوهمني دائمًا بأنني إنما أكتب لغير قارئ، لكن ذلك الفريق من الشباب المثقف، الذي فاجأني بالزيارة ذات مساء، كشف لي عن حقيقة، وهي أن الكاتب لا يدري أين تنبت كلمات زرعها.
بدأ هؤلاء الشبان حديثهم معي بأن أرادوا مني تعليلًا لانتقال الثقافة من القاهرة إلى بيروت، كأن الأمر حقيقة مقطوع بصوابها، وكل ما ينقسها هو التعليل، فأخذتهم مأخذ سقراط من محاوريه، إذ ادعيت الجهل وطلبت منهم المعرفة، غير أني حللت لهم الثقافة إلى جوانبها الكثيرة: فمن الثقافة ما يضطلع به العلماء الأكاديميون من تجارب وأبحاث، ومن الثقافة ما ينتجه رجال الفنون تعبيرية وتشكيلية، ومن الثقافة ما يكتبه الأدباء وما ينظمه الشعراء، إلى آخر هذه الجوانب الكثيرة، ورجوتهم أن نتحدث في كل جانب على حدة، وألا نأخذ «الثقافة» جملة واحدة، وكأنها كيان بسيط يمكن النظر إلى جميعه بنظرة سريعة، ثم طلبت منهم أن يذكروا لي في كل جانب واحد ما نتج منه في لبنان بالمقارنة إلى ما نتج منه في مصر، فإذا المسألة أمامهم محلولة وواضحة، ففي معظم هذه الجوانب توشك ألا تجد مما نتج في لبنان ما يمكن أن يقارن بما نتج في مصر، وإذن فلم يكن قد انتقل من قيادة الثقافة شيء من القاهرة إلى بيروت على خلاف ما قرر طه حسين.
ووقع الشبان في حيرة، ظنوا أن المخرج منها هو باب «الحرية»، فقالوا: إن الناتج الثقافي في مصر أغزر، ولكننا ننعم بحرية لا ينعم بها المثقف المصري، ومرة أخرى أخذتهم مأخذ سقراط من محاوريه، وإذا هو قليل جدًّا من التحليل يبين أن قيودهم هناك أفدح من قيودنا وأثقل، وإن اختلفت في معادنها، فقيودهم طائفية يصعب جدًّا أن تزول إلا بعد جهد جهيد، وأما قيودنا فمن الطراز العابر، الذي يأتي به حاكم فيرفعه الحاكم الذي يليه … فليس غريبًا أن تشتد الفتنة في لبنان اليوم، وتلك هي قيودهم، وذلك هو غرورهم، بل الغريب أن يقام البناء الاجتماعي والثقافي على شفا جرف هارٍ، ثم لا ينهار.
وانتقلت بي الخواطر من الصراع في لبنان، إلى صراعات مكتومة حينًا معلنة حينًا آخر بين الناس في مصر، فلقد يخدعك الظاهر الهادئ هنا أو هناك، حتى إذا ما أزلت القشرة الخارجية الرقيقة، وجدت نارًا تستعر من الغيرة والحسد والضرب في الخفاء، ويكفيني هنا وقفة قصيرة عند جماعة كان المنتظر أن تكون مضرب المثل بين سائر الجماعات بسبب ما ظفرت به من تربية طويلة وتحصيل علمي وفير، ألا وهي جماعة العلماء في جامعاتنا، ولن أبيح لنفسي هنا، أو في أي مكان آخر، أن أذكر للقارئ تفصيلات لو ذكرتها لاقشعر منه البدن، لا، لن أبيح لنفسي هذا؛ لأنني واحد من تلك الجماعة، فأفرادها أقرب إليَّ من أهلي، فيعيبني ما يعيبهم، لكنني أقول هنا ما يقتضيه سياق الحديث، وأكتفي به، وهو أن بعضهم يحارب بعضهم، حتى لا يرتفع لأحد رأس فوق الآخرين، ليست القاعدة بين أساتذتنا الأجلاء هي أن يتعاونوا على علم، بل القاعدة هي أن يتنافروا على حساب العلم، وأخف الأسلحة التي يتقاتلون بها وأرحمها هو سلاح التجاهل، وغض النظر، وإقامة السدود على الطريق أمام السائرين.
وإنما ضربت لك المثل بمجموعة يظن أنها من سكان القمم، وإنه ليطول بي الحديث لو سرت مع خواطري التي تقاطرت إلى ذهني وأنا جالس في قلب الهدوء الذي يكتنفني في مدينة هالشتات؛ لأنها خواطر قد أخذت تنقلني من أسرة هنا إلى أسرة هناك، الخصومة بين أفرادها تأكل قلوبهم أكلًا، وتنهش عظامهم نهشًا، كما أخذت خواطري تلك تقدم لي مشاهد الخديعة والغش والإيقاع بالأبرياء، ما قامت بين اثنين علاقة: مالك ومستأجر، رئيس ومرءوس، تاجر وزبون، دائن ومدين، عامل وصاحب مصلحة …
إن شعبنا الطيب لم يكن أبدًا بهذه الضراوة، فما الذي أصابنا؟ أنقول إنه الفقر أصابنا؟ ولكن من الأثرياء من هم أشد افتراسًا وغيلة! وإذن فلا بد أن تكون هناك عوامل أخرى تحتاج منَّا إلى الدرس والتحليل.
وانتهى المطاف بخواطري إلى دخيلة نفسي! إنها نفس لم تعرف في حياتها الطمأنينة، وحتى لو حاولت أن تصطنع الطمأنينة، فإنما تفعل ذلك يأسًا من بلوغ الأمل، إنها نفس طالما أرادت وطالما حطمت الظروف إرادتها، وكأن شاعر النيل حافظ إبراهيم كان يعنيها حين قال لسامعه ألا يوجه إليه اللوم إذا رأى كفه قد اهتز فيها السيف وقت الضراب؛ لأنه قد صح منه العزم، لكن الدهر أبى على عزمه ذاك أن ينفذ إلى أهدافه.
ومن هذا البعد البعيد بين ما صح به العزم وبين ما سمح به الدهر، كان هذا القلق المضطرب الذي يهد في تلك النفس كيانها، إنها تخاف الهزيمة أمام الملأ، فتنطوي داخل جدرانها.
هكذا تتابعت في رأسي الخواطر، وتلاحقت المشاعر في وجداني، وأنا ها هنا جالس عند جبل الملح الصامت، وأمام البحيرة التي تحيط بها سلاسل الجبال الخضراء من كل أقطارها، وكان المنتظر هو أن يمتد السكون الخارجي إلى سكينة داخلية، لكن الذي حدث هو أن استدعى السكون الخارجي نقمة داخلية تغلي في جنبات صدري، سخطًا على ما ابتلينا به من ضروب الصراع أشكالًا وألوانًا.
لم يكن من عادتي أن أكتب وأنا في طريق السفر؛ لأن للكتابة عندي شروطًا لا تتوافر في التنقل من مكان إلى مكان، وكان ظني دائمًا هو أن الكتابة في طريق السفر هي كأكل الساندوتش، يأكله الطاعم وهو واقف أو سائر، وقد يعطيه الزاد ساعة أو بعض ساعة، وأما إذا أراد الأكل في ظروف تصون للطعام كرامته، فلا بد له من جلسة خاصة في مكان خاص، وهكذا الكتابة لمن كان ينشد جلال الفكرة وجمال الكلمة، إذ لا بد له من جلسة يحيط بها شيء من قداسة العبادة؛ لأنه لا يكتب لينثر مدادًا على الورق، ولا ينطق ليتحول اللفظ إلى هواء، أقول إنه لم يكن من عادتي أن أكتب وأنا في طريق السفر، لكنني عند جبل الملح في مدينة هالشتات، بكل ما في الجبل من رزانة ورصانة وسكون، وأمام البحيرة المسترخية الراضية، وجدت في نفسي حسرة، فأخرجت الورق والقلم لأثبت حسرتي التي لم يطفئها كل هذا الجمال الوديع الهادئ في مدينة الملح، فكأن هالشتات قد أعطتني مرارة ملحها، وسلبتني هدوء البحيرة وسكون الجبل.