نريدها ثورة فكرية
لست أرى أن ثورتنا المباركة — بكل أبعادها البعيدة، وأعماقها العميقة — قد شملت حياتنا الفكرية، بالقدر الذي شملت به جوانب الحياة الأخرى: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، فلقد كانت حتى الآن ثلاث ثورات في حركة واحدة، ونريد لها أن تضيف إلى الثورات الثلاث ثورة رابعة هي التي أسميها ثورة فكرية.
نعم، لقد أحدثنا في حياتنا الفكرية تغيرات وتطورات بعيدة المدى عميقة الأغوار — ليس في ذلك شك — ويكفي أن تكون أفكار جديدة قد حلت محل أفكار قديمة، في تلك الجوانب نفسها التي تقول إن الثورة قد شملتها، وأعني أفكارنا الجديدة في السياسة والاقتصاد وبناء المجتمع، ومع ذلك فلم يكن ذلك وحده هو الذي حدث في مجال الفكر، بل أضيف إلى ذلك إضافات جبارة، لا تخطئها عين، في ميادين التعليم والثقافة: زادت المدارس والجامعات زيادة هائلة، انتقلت أدوات التثقيف إلى الريف بعد أن كانت مقصورة على المدن، وجهنا أنظارنا إلى ثقافة الطفل، ضاعفنا الجهود في بعث تراثنا من جهة، وفي إحياء الفن الشعبي من جهة أخرى، وسعنا مجال النظر ليشمل الجماهير العريضة بكل درجاتها، حتى لا يقتصر الأمر على قلة قليلة، تعهدنا بطبع الكتاب المفيد، بغض النظر عن الربح العائد، بذلنا جهودًا لا أكاد أعرف لها مثيلًا يناظرها في البلاد التي نتساوى معها في درجة التقدم الحضاري، وذلك في ميادين الفنون التعبيرية والتشكيلية على السواء، نشجِّع رجال الفن ورجال الأدب ورجال البحث العلمي بكل ما في وسعنا من وسائل: نشجعهم بالجوائز المالية، وبمشروعات كمشروع التفرغ، وغير ذلك من الجهود التي بُذلت وتُبذل، مما يستحق أن يُشاد به، وأن تُلقى عليه الأضواء.
لكنني أزعم أن ذلك النشاط كله شيء — وهو نشاط محمود ومشكور — وأما الثورة الفكرية كما أتصورها فهي شيء آخر، ولأبدأ بتشبيه يوضح الفكرة التي أريد عرضها، فأقول: إنه قد تكون لدينا أنوال قديمة لنسج القماش، فهل تحدث ثورة في صناعة النسيج إذا نحن أبقينا على الأنوال القديمة كما هي، ثم زدنا من كمية القماش المنسوج، وغيَّرنا من ألوانه وزخارفه، ومن طريقة توزيعه على الناس «كان القماش الناتج على تلك الأنوال القديمة يُوزَّع على المدن وحدها، فنشرناه في القرى، وكان يخص الأغنياء وحدهم، فجعلنا منه للفقراء نصيبًا مساويًا، وكان للكبار وحدهم فصنعنا شيئًا منه للأطفال، وهكذا.» أقول: أيجوز لنا في مثل هذه الحالة أن نقول إن ثورة حدثت في صناعة النسيج؟ أم أن الثورة في هذه الصناعة لا تحدث بهذه الأمور وحدها، وإنما تحدث بأن تتغير الأنوال نفسها بما هو أحدث، ليتغير نوع القماش الناتج تبعًا لذلك؟
هكذا الحال — كما أراها — في حياتنا الفكرية، فلقد زادت حصيلة الفكر، وتنوعت طرائق توزيعها على شرائح الشعب، لكن «أنوال» التفكير باقية معنا على عهدها القديم، ولذلك بقيت طبيعة الفكر على حالها، لم يغير منها أن تتسع دائرة الإنتاج ودائرة التوزيع، وأن نغيِّر من اتجاه السير، فنذهب بالأفكار من المدينة إلى الريف، أو نأتي بها من الريف إلى المدينة، ونعلو بها من أدنى إلى أعلى، أو نهبط بها من أعلى إلى أدنى، فما دامت «أنوال» النسج باقية على حالها، فقد تحدث تغيرات كثيرة على السطح، ولكنها تغيرات لن تبلغ أن تكون «ثورة» فكرية؛ لأن الثورة هي في أن تتغير الأنوال.
كانت ثورتنا بحق ثورة سياسية، وثورة اقتصادية، وثورة اجتماعية في آنٍ معًا؛ لأنها في كل هذه الميادين الثلاثة لم تقصر أمرها على السطح دون الأساس، فهي ثورة سياسية؛ لأن نمط الحكم قد تغير من أساسه، فأصبح حكمًا جمهوريًّا يتولاه الشعب، بعد أن كان ملكيًّا تتولاه أسرة حاكمة بالوراثة، وهي كذلك ثورة اقتصادية؛ لأن نمط الإنتاج والتوزيع والملكية قد تغيَّر من أساسه، فأصبح الجانب المهم من ذلك كله في يد الدولة توجهه إلى جمهرة الشعب العامل، بعد أن كان في أيدي أفراد يوجهونه إلى القلة القليلة، وهي ثورة اجتماعية؛ لأن هيكل البناء الاجتماعي قد تغيَّر من أساسه، فأصبح الزمام في أيدي قوى الشعب العامل، بعد أن كان الزمام في أيدي من يملكون ولا يعملون.
لو كنا اكتفينا في الجانب السياسي بأن بدلنا حكومة بحكومة، لكان ذلك انقلابًا ولم يكن ثورة، ولو كنا اكتفينا في الجانب الاقتصادي بأن زدنا أجور العاملين، أو عملنا على تنشيط التجارة والصناعة وملكية وسائل الإنتاج والتوزيع كما هي، لكان ذلك انتعاشًا اقتصاديًّا ولم يكن ثورة.
الثورة هي أن يتغير الأساس، أن يتغير النمط أو المنوال، تغيرًا يتبعه بالطبع أن يتغير المحصول الناتج، وأن تتغير الأوضاع والقوانين، بما يتناسب مع الأساس الجديد، أو النمط الجديد، والمنوال الجديد.
والذي أزعمه هنا، هو أن منوالنا الفكري لم يتغير، وأن النمط الذي نسوق نشاطنا الفكري في إطاره ما زال كما كان منذ قرون، فمنوال النسج في هذا المجال باقٍ على حاله، برغم ما غيرناه من ألوان الخيط المنسوج وزخارف القماش ومقدار ما ينتج منه وطريقة توزيعه على الناس.
والمنوال الفكري القديم الذي أعنيه قوامه عناصر كثيرة، لعل أهمها جميعًا هو الركون إلى «سلطة» فكرية نستمد منها الأسانيد، ومثل هذه السلطة الفكرية تتمثل عادةً في نصوصٍ بعينها محفوظة في الكتب، وإن تكن تتمثل أحيانًا كذلك في أقوال يتبادلها الناس، وهي التي تسمى بالعرف أو بالتقاليد، وبناءً على هذا الموقف تكون الفكرة التي يقدمها رجل الفكر صوابًا إذا هي اتسقت مع ما أقرته السلطة الفكرية في الكتب المحفوظة، أو في الأقوال المأثورة، كما تكون الفكرة خطأ إذا جاءت مخالفة لما أقرته تلك السلطة، ومن هنا اشتد سلطان الماضي على الحاضر، وأصبح البرهان الذي لا يرد هو أن نسوق «الشواهد» من سجل الأقدمين، وانحصرت قوة الإبداع الفكري في القدرة على إيجاد السند من القول الموروث.
إن المعيار الذي نميز به بين درجات العلماء يوشك أن يكون: كم حفظ الرجل؟ وكم في وسعه أن يأخذ من المحفوظ لكل سياقٍ ما يناسبه؟ ولقد تعلو قيمة النصوص المحفوظة وقد تنخفض، لكنها نصوص قائمة على كل حال، نتخذها سقفًا لا نجاوزه برءوسنا، مهما أجزنا لأنفسنا بعد ذلك من حرية الحركة تحت ذلك السقف الحاجز.
أقول: إن المادة المحفوظة، التي نجعلها في حياتنا الفكرية بدايةً ونهاية، قد تعلو قيمتها وقد تهبط، فقد تعلو بحيث تكون جزءًا من تراثنا الثقافي الذي أكسبه طول الزمن جلالًا على جلاله، وقد تهبط بحيث تكون مذكرات يمليها الأساتذة على طلابهم، ولكن جوهر الموقف الفكري في كلتا الحالتين واحد، وهو أن يكون العالِم عالِمًا بما حفظ.
النمط الفكري الذي نحيا به، من أعلم علمائنا إلى أصغر تلاميذنا، هو أن يكون بين أيدينا مادة بعينها في الكتب أو في الكراسات، نحفظها حفظًا، أو نجعلها في متناول الأيدي؛ لنستمد منها العلم كلما أردنا علمًا، وأما أن نركن إلى خبراتنا الحية فيما نريد أن نعلمه، فذلك أمر ما يزال بعيدًا عنا كما كان بعيدًا عن أسلافنا مدى القرون العجاف في تاريخنا الفكري، فإذا قلت إن الثورة لم تشمل حياتنا الفكرية، فإنما أردت أن أقول إن هذا النمط الفكري كان قائمًا قبل الثورة، وظل قائمًا بعدها، إنه المنوال القديم نفسه، نسج عليه الآباء في عصور ضعفهم، وما زلنا ننسج.
إن طريق الثورة في الحياة الفكرية هو نفسه طريق الثورة في أي مجال آخر: في السياسة، أو الاقتصاد، أو بناء المجتمع، وليست الحياة الفكرية شذوذًا وحدها، تحتاج إلى طريق ثوري مختلف في طبيعته عما تحتاج إليه الحياة السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، فطريق الثورة في كل هذه الميادين على حدٍّ سواء، هو أن يضيق النمط القائم عن مواجهة ما استُحدث من مشكلات، فتتأزم صدور الناس، ويشتد التأزُّم بها كلما اتسعت الهوة بين المعايير القائمة من جهة، وما يُراد إخضاعه لتلك المعايير من جهةٍ أخرى، فلا يجد الناس عندئذٍ سبيلًا إلى الخروج من أزمتهم تلك إلا بالبحث عن نمطٍ جديدٍ، يمدهم بمعايير جديدة، تتكافأ مع المشكلات التي استحدثتها حياتهم الجديدة.
ذلك هو طريق الثورة في كل ميادين الحياة: إحلال نمط جديد محل نمط قديم، فإذا كان نمطنا الفكري القديم — كما أسلفنا — هو في جوهره الرجوع إلى المحفوظ لنلتمس الحلول لمشكلاتنا، بحيث تقتصر جهودنا على عملية الشرح وتخريج المعاني، فلن تكون لنا ثورة فكرية، إلا إذا أحللنا نمطًا جديدًا محل هذا النمط القديم، فيكون معيارنا هو: ما هي النتائج العملية المستقبلية التي تترتب في حياتنا الفعلية، على هذه الفكرة، أو تلك مما يقدمه لنا رجال الفكر، بعد أن كان المعيار هو: ما هي الشواهد من نصوص الكتب الموروثة التي تؤيد أو تفند الفكرة التي نقدمها.
لقد طالعت مقالًا في مجلة عربية واسعة الانتشار — وكان ذلك منذ ثلاثة أعوام — يبحث فيها كاتبها عن زراعة الأرض، أتجوز للمسلم أم لا تجوز؟! ولقد حاول الكاتب بكل علمه الواسع في النصوص القديمة أن يجد لنا «الشواهد» التي تدل على أن المسلم يجوز له شرعًا أن يزرع الأرض! فإذا كانت زراعة الأرض تتطلب من رجل الفكر فينا أن يقلب في مراجعه ليستخرج منها الأدلة على جوازها أو عدم جوازها، فماذا بقي لدفعة الحياة وضروراتها أن تفعل؟ بل إن منا من يقلب في النصوص، ويقدح ذهنه في شرحها، ليقول لنا آخر الأمر إنه واجب علينا أن نستعد للحرب بالسلاح من دبابات وطيارات، كأن هؤلاء السادة إذا عجزوا عن إيجاد الشواهد المؤيدة، كففنا عن زراعة الأرض، وأمسكنا عن الاستعداد للقتال بأسلحة القتال.
إنه مناخ فكري نعيشه، وإنه لمن حسن حظنا أننا في كثيرٍ من ميادين نشاطنا الفعلي، نمضي على الطريق مهتدين بالخبرة العملية في توجيه السير وفي تصحيح المسار، لكننا كذلك في بعض الميادين الأخرى قد يسوء بنا الحظ، فيكون لهؤلاء السادة تأثير يعرقل السير، ويكفي أن نسوق مثلًا لذلك حياة المرأة الجديدة، وما تزال ترسف فيه من أغلالٍ وقيود — بحكم القوانين إن لم يكن بفعل الواقع وحيويته — وإلا فهل يعقل أن تبلغ المرأة ما بلغته من مقاعد الوزارة وأستاذية الجامعة، ومن مناصب التوجيه والتأثير في ميادين البحث العلمي والطب والهندسة والزراعة والقانون والاقتصاد، حتى إذا ما طالبت بتغيير بعض القوانين لتتناسب مع وضعها الجديد، كانت الإجابة أن تراجع النصوص التي عاشت في ظلها أمهاتها وجداتها منذ قرون؟ ولو كانت النصوص حاسمة في قضائها لقلنا نعم ونعام عين، لكنها في معظم الحالات «حمالة أوجه».
انظر إلى الثورة الفكرية التي ثارت بها أوروبا على قديمها لتحل محله جديدًا يناسب حياتها الجديدة، وكان ذلك في العصر الذي يطلق عليه عصر النهضة، فماذا صنعت أوروبا حينئذٍ؟ إنها تناولت البناء العقلي الذي كان سائدًا قبل ذلك، تناولته من أساسه، فاستحدثت لنفسها منطقًا جديدًا، أهم معالمه أن تكون الخبرة المباشرة (عقلية كانت أو حسية) هي نقطة الابتداء، ولا تكون نقطة الابتداء أقوالًا حملتها إليهم موجات الزمن.
الأفكار المؤثرة الدافعة، هي في حقيقتها حياة عملية تحولت عند أصحابها — من خلال المكابدة والمعاناة — إلى حقائق نظرية صيغت في عبارات، وأما إذا جاءتنا الأفكار عن غير طريق الممارسة والعمل، أعني إذا جاءتنا جاهزة من عند أصحابها، فإنها تجيء ميتة باردة.
إن عبقرية الإنسان هي في مواجهته للحياة بالجديد المبتكر، ولقد أراد الله لهذا الإنسان أن ينظر إلى أمام، ومِن ثَم كانت أبصارنا في جباهنا، ولم تكن في مؤخرات رءوسنا.
لقد كانت لنا بعض المحاولات في تغيير النمط الفكري القديم، ليكون لنا بالنمط الجديد حياة جديدة، ومن أمثلة هذه المحاولات ما حاوله طه حسين في أن يدرس الأدب القديم نفسه غير متأثر بأحكام القدماء، وما حاوله العقاد وكثيرون آخرون من شعرائنا في أن يصدروا عن خبراتهم الفردية الخاصة والمباشرة، ولعلك تلحظ في هاتين المحاولتين — على اختلافهما — أساسًا مشتركًا، وهو ألا يكون النهج القديم ملزمًا لنا، لكنها كانت محاولات مبعثرة، لم تفلح آخر الأمر في أن تحقق لنا الثورة الفكرية الشاملة.
شيء ما في مناخنا الفكري يردنا عن إحداث هذه الثورة، فما زالت الكلمة المسموعة هي لغير الراغبين في ثورة فكرية كالتي نصورها، ولا حرج عليهم أن يعلنوا عن رأيهم في صراحةٍ وعلانية، وأما الراغبون في مثل هذه الثورة الفكرية، فعليهم أن يراوغوا في التعبير عما يريدون، اجتنابًا منهم لوجع الدماغ، تاركين لقرائهم أن ينزعوا المعاني من بين السطور.
تراثنا عظيم مجيد، لكن أقصى حدوده هو أن نقرأه ليوحي إلينا بما يوحي، لا لنستمد منه القواعد والقوانين، إننا نريدها ثورة فكرية تلوي أعناقنا، لتشد أبصارنا إلى المستقبل بعد أن كانت مشدودة إلى الماضي، نريد أنوالًا جديدة لننسج عليها القماش الجديد.