الشكل وأهميته
كنت قد آليت على نفسي أن أزيل الأمية عن كل فتاة تلتحق بأسرتي لمساعدة الأسرة في أعمال البيت، وغالبًا ما تكون الفتاة التي نستعين بها أمية، فيأخذني العجب في كل حالة من تلك الحالات، كيف اتسعت عيون الغربال في المرحلة العامة الأولى من مراحل التعليم، بحيث أفلت منها كل هؤلاء الصغيرات؟ وعلى أية حال فقد كانت خطتي دائمًا ألا أترك واحدة على أميتها التي أتلقاها بها؛ لأنني عددته عارًا يلحق بأسرتي أن يجهل فرد من أفرادها القراءة والكتابة، اللهم إلا أن أحاول، فتستعصي وينال مني اليأس، فتذهب المحاولة هباءً.
وحدث مرة أن لمحت بريقًا عجيبًا في عيني الفتاة، عندما أدركت الصغيرة فجأة وجه الشبه بين حرف الباء كما خططته لها على الورق، وبينه وهو مكتوب جزءًا من عبارة ظهرت أمامها مصادفةً على شاشة التليفزيون، كان حرف الباء كما خططته لها مكتوبًا ﺑ «النسخ» التقليدي المستقيم، لكنه كان كما ظهر على شاشة التليفزيون مكتوبًا بخط مزخرف حديث، فضلًا عن أنه في هذه الحالة الثانية لم يكن شكلًا مستقلًا وحده قائمًا بذاته كما جاء على الورق، بل كان جزءًا من كلمة في عبارة، ومع ذلك فقد تبينت الفتاة الذكية اللماحة وجه الشبه بين الصورتين، فكان أن لمعت عيناها بذلك البريق العجيب الذي رأيته، وأشارت بأصبعها في فرحة الانفعال، قائلةً: هذه باء.
إن إدراك الشبه بين شيئين بينهما اختلاف في الصورة الخارجية، هو جوهر السر الذي وضعه الله في الإنسان، فكان إنسانًا بعقله وذكائه، مما جعل أفلاطون في إحدى محاوراته يقول: دلني على من يدرك الشبه بين الأشياء وأنا أتبعه كما اتبع الإله! فليس وصول العلماء إلى قانون من قوانين العلم إلا نتيجة إدراكهم للشبه الكامن في حالات قد تظنها العين السطحية العابرة من الاختلاف الظاهر، بحيث يبعد أن تنطوي كلها تحت قانون واحد، وإلا فهل تستطيع بعينك العابرة أن تدرك الشبه القائم بين سقوط التفاحة التي سقطت أمام نيوتن من فرعها إلى الأرض، وبين ارتفاع ماء البحر وانخفاضه في حركة المد والجزر، أو بينها وبين دوران القمر حول الأرض ودوران الأرض حول الشمس؟ إنها — كما ترى — حالات بعيدة الاختلاف فيما بينها، لكن عين العلم الثاقبة التي تدرك أوجه الشبه رغم خفائها، هي التي تخلص منها إلى قانون واحد ينتظمها جميعًا، هو قانون الجاذبية.
ثم ماذا يجعل المعادلة الرياضية معادلة متساوية الجانبين، على ما بين الرموز في كلٍّ من الجانبين من تباين؟ فالرموز في الجانب الأيمن من المعادلة ليست هي نفسها الرموز الواردة في الجانب الأيسر، لكن العين الرياضية النافذة هي التي ترى وحدانية «الصورة» في الجانبين، وكل ما في الأمر أن تلك الصورة الواحدة قد جاء التعبير عنها بلغتين مختلفتين، أو بمجموعتين مختلفتين من الرموز.
إدراك حقائق الأشياء وهي في صميمها وجوهرها، هو إدراك لأشكالها أو هياكلها، قبل أن يكون إدراك للمضمون الذي يملأ تلك الأشكال أو الهياكل، وتستطيع أنتقول هذا المعنى نفسه بعبارة أخرى فتقول: إن إدراك حقائق الأشياء هو إدراك للأسس الرياضية التي بنيت عليها؛ لأن «الرياضة» ليست أكثر ولا أقل من «أشكال» أو «هياكل» منزوعة من محتواها المادي، وهذه النقطة نفسها هي التي كثيرًا ما أثارت المجادلة بين أنصار «العقل» وأنصار «الوجدان»، أو إن شئت فقل إنها أثارت المجادلة بين العلماء من جهة والشعراء أو الصوفية من جهة أخرى، فالأولون يلتمسون من الحقائق أشكالها الرياضية الخالية من مضموناتها، والآخرون يريدون من الأشياء لبابها كما يقع لهم في وجدانهم، وما داموا قد أحسوا بغزارة تأثيرها في شعورهم، فلا يعنيهم في كثير ولا في قليل أن يعلموا شيئًا عن الصيغ الرياضية التي تصورها في طريقة بنيانها، ويحلو لي في هذا الموضع من الحديث، أن أقول عن نفسي أن مثلي الأعلى هو أن أكون من أنصار العقل في لحظة البحث العلمي، وأن أكون من أنصار الوجدان في لحظة «الشعور» بالأشياء، فليست حياة المرء — كما أراها — لحظة واحدة، بل هي هاتان اللحظتان معًا تتبادلان الوقوع.
للشكل أهمية كبرى في الدلالة على حقائق الأشياء، فافرض — مثلًا — أنني أردت تلخيص المسار الذي سارت عليه الحضارة الإسلامية العربية فقلت: إنها لبثت تبدع الجديد مدى أربعة قرون أو خمسة، ثم ظلت بعد ذلك ثلاثة قرون في عملية تجميع وتسجيل لما سبق لها أن أبدعته، ثم ركدت ثلاثة قرون أو أربعة لا تعرف إلا محاكاة الماضي وتكراره، وأخيرًا هي تحاول في القرنين الأخيرين أن تلائم بين نفسها وبين حضارة العلم كما عرفها ويعرفها العصر القائم … فماذا تقول في مثل هذا التصوير الموجز؟ ألا تراه مبرزًا للمراحل الرئيسية مع بيان الملامح المميزة لكل مرحلة؟ لكنه — كما ترى — تصوير قدم «الشكل»، ولم يذكر حرفًا عن «مضمون» الحضارة الإسلامية العربية ماذا كان على تتابع تلك المراحل.
وهكذا تكون الحال عند المقارنات التحليلية المفيدة، فهبني زعمت لك أن التفكير الأوروبي في عصوره القديمة والوسطى، كان قائمًا على استخراج النتائج استخراجًا نظريًّا من مقدمات مفروضة جدلًا، ولذلك فقد جاء تفكيرًا قليل القدرة على تغيير العالم، وأما التفكير الأوروبي في عصره الحديث، فهو تجريبي في المقام الأول، ولذلك فهو ذو صلة قريبة وشديدة بدنيا الواقع، ومن ثم فهو قادر على تغييرها، أقول: هبني زعمت لك ذلك، ثم أردت لك — أو أردت أنت لنفسك — أن تعيش مع أهل هذا العصر في حضارتهم، أفلست تجد فيما قدمته لك مفتاحًا لما ينبغي فعله؟ لكنني لم أقدم لك إلا «شكلًا»، ولم أتناول فيما قلته مضمون حضارة العصر بكلمة واحدة.
إن التطور الحضاري — بل التطور البيولوجي نفسه — هو في الأساس تطور في «الشكل»، وعلى الشكل الجديد يتغير المضمون، فيكون لنا بذلك طور جديد، فالزواحف والطيور والحيوان وسائر الكائنات الحية متحدة في كثير جدًّا من مضمون الحياة، فهي تتغذى، وهي تتنفس، وهي تتناسل، وهكذا، لكن الشكل أو الهيكل مختلف بينها، فتبع هذا الاختلاف اختلاف في طرائق الحياة، والطور الجديد هو دائمًا شكل جديد، أنظر إلى الفن وتاريخه الطويل الذي امتد مع الإنسان منذ عصر الكهوف، تجده فنًّا في كل مراحله، لكنه يغير من الشكل آنًا بعد آن، فيكون له في تاريخه طور جديد كلما بدل شكلًا بشكل آخر.
ولماذا أقول هذا كله عن الشكل وأهميته، وهو حديث قد لا يشوق عددًا كبيرًا من القراء؟ أقوله لأخلص بهم إلى نتيجة أريد لها أن تتضح في الأذهان، ولو قلتها بغير هذا التمهيد الشارح، لما كان لها من الوضوح ما أردته لها، وهي أن ثقافة الناس لا بد لها أن تتغير بتغير شكل الوسيلة التي يستخدمونها في التبادل والتعامل، وتستطيع أن تقول في إيجاز مفيد، أن تلك الوسيلة قد غيرت من شكلها مرتين على مدى التاريخ الحضاري الطويل.
كانت في بداية أمرها «لفظًا» يصوغه المتحدثون في عبارات تنقل الأفكار والمشاعر بين الأفراد، ثم غيرت من نفسها بأن أضافت إلى اللفظ «كتابة» (بما في ذلك مرحلة الطباعة)، ثم غيَّرت من نفسها مرةً ثانية في عصرنا الراهن بأن أضافت إلى المشافهة باللفظ، والكتابة بالقلم أو بالمطبعة، أجهزة من أهمها جهاز التليفزيون الذي زاوج بين السينما والراديو، ولكنها أجهزة من بنات العصر القائم.
وقد لا يخطر لك عمق الرابطة بين الوسيلة المستخدمة من جهة، ونوع المجتمع المستخدم لها من جهة أخرى، ففي المرحلة الكلامية الأولى، كان لا بد لنوع المجتمع أن يساير «الصوت» وطبيعته، فمن طبيعته ألا يبلغ صوت المتكلم إلى أبعد من مسافة معينة قصيرة، فعلى الرغم من أن للأفراد كامل الحرية في أن يتحركوا حيث شاءوا، إلا أنهم — بطبيعة الحال — مشدودون إلى المركز الذي ينبعث منه كلام المتكلم ليسمعوه، ولما كان الكلام الذي يهمهم أكثر من سواه، هو كلام رئيسهم، انتهى بهم الأمر إلى ضرورة الالتفاف حوله (والالتفاف هنا مقصود بمعناه الحرفي)، ومِن ثَم كان المجتمع بحكم الضرورة نفسها مجتمعًا صغيرًا مركزًا حول محور.
لكن تاريخ هذا المجتمع الصغير المركز، ليس مرهونًا بمكانه المحدود في لحظة بعينها، بل هو ممتد على الأيام في أجياله القادمة، ولذلك كان حتمًا على من يسمعون صوت المتكلم (وأعني حين يكون المتكلم ذا أهمية خاصة في حياتهم) أن يعوه جيدًا ليحفظوه، ثم ينقلون المحفوظ إلى أبنائهم، وهكذا غير أن ذاكرة الناقلين في كل مرحلة، لو فرضنا فيها الخلل عشر معشار شعرة رقيقة، لتضخم الخلل على مر الأيام بصورة غريبة (لا مكان هنا للدخول في تفصيلات الدرجة التي يقاس بها مقدار الخلل على أساس نظرية الاحتمالات المعروفة في أيامنا هذه)، ومعنى ذلك أن مثل ذلك المجتمع الذي يعيش على الكلام كما يتذكره الحاضرون عن السابقين، إنما يخلق لنفسه صورة وهمية يعيش في ظلالها، مدعيًا أنها صورة الحياة عند السالفين.
وجاءت مرحلة الكتابة فغيرت من صورة المجتمع تغييرًا يلائم الشكل الجديد، إن الفرد هنا ليس مضطرًّا إلى التمركز حول شيخ الجماعة ليسمع، بل يستطيع الانتقال إلى أبعد الآفاق، مطمئنًا إلى أنه سوف «يقرأ» ما قيل كلما أراد، وهذا بدوره أزال عن اللحظة الحاضرة كثيرًا جدًّا من تقديسها للحظة الماضية، ذلك التقديس الذي عرفه الناس في مرحلتهم الشفوية الأولى، إذ لم يعد حتمًا أن أنصت وأحفظ؛ لأن الكتابة قد أغنت عن هذا الإنصات والحفظ.
ونترك مرحلة الكتابة مسرعين إلى عصر، إحدى الوسائل المهمة فيه هي الجهاز الآلي الذي يتولى نقل الصوت أو الصورة أو الصوت والصورة مجتمعين، فكان لا بد للثقافة أن تشكل من نفسها لتلائم الجهاز الذي هو وسيلة نقلها، إن المستمع إلى من يحدثه محتاج إلى حاسة السمع وحدها، ولذلك كانت المرحلة الأولى حريصة على أن يكون للفظ جرس موسيقي في الأذن، والقارئ لمادة مكتوبة محتاج إلى حاسة البصر وحدها، ولذلك كانت المرحلة الثانية حريصة على «نسخ» المخطوطات (أو طبعها في زمن الطباعة) بأوضح حرف ممكن وأجمله، حتى لقد أصبح الخط فنًّا من أهم الفنون في الحضارة الإسلامية العربية، وأما الجالس أمام جهاز التليفزيون في المرحلة الأخيرة، فلأول مرة يستخدم السمع والبصر معًا وفي آنٍ واحد.
فإذا أرادت الثقافة أن تستغل وسيلتها الحديثة استغلالًا كاملًا، وجب أن تستخدم هذا «الشكل» الجديد بما يقتضيه، فتجعل مادتها الأساسية مما تستقبله الأذن والعين معًا استقبالًا مفيدًا، وعلى هذا الأساس يجوز لنا أن نسأل: هل «الأحاديث» بكل أنواعها وعلى اختلاف مادة الحديث فيها، مما يحسن نقله بالتليفزيون؟ إن المعول هنا على السمع وحده؛ لأن البصر لن ينقل إلا صورة المتحدث، ولا أظن صور الوجوه مما يزيد المتلقي ثقافة! وحتى إذا تعذر علينا أن نجعل الثقافة المنقولة بهذا الجهاز كلها مما يساير خصائصه الفريدة، فلا أقل من أن تكون تلك الخصائص هي الأساس.
ومع التليفزيون والراديو معًا تتسع الرقعة، حتى تصبح الكلمة نفسها وكأنها وسيلة جديدة، في كليهما تتعدد القنوات، فتتعدد المصادر، فلا يكون الرأي لواحد وفيهما معًا تختلف المستويات وتتفاوت الأذواق، فلا يكون الاحتكار الثقافي لفئة، ولكن الأداتين معًا قد تقعان في قبضة واحدة، وتوجيه واحد، فيكون الحكم المستبد، وهكذا تغير شكل الوسائل الثقافية، فتغيرت الحضارة.