جلسة في مزرعة
كان ذلك منذ زمن بعيد، حين جلست وحدي في مزرعة قريبة لأحد الأصدقاء، وحدث أن وقع البصر على نبتة صغيرة أمامي، في شكلها ولونها شيء من غرابة هو الذي استوقف نظري لحظة، ثم ما لبثت تلك النظرة الأولى أن تحولت إلى سلسلة طويلة من خواطر أخذ بعضها يتلو بعضًا في غير تدخل مني ولا تدبير، إذ لم يكن لي هدف أنشده، إلا أن أسترخي لأستريح، ويا ليت عالمًا من علماء النفس كان بصحبتي حينئذٍ، لعله ينكت بوسائله العلمية ذلك «التداعي الحر للخواطر» — كما يسمونه — فيطلعني على سريرة نفسي.
وعلى قدر ما تسعفني الذاكرة الآن، أقول: إن نظرتي المتعجبة إلى تلك النبتة الصغيرة، أثار في نفسي أول ما أثار سؤالًا: تُرى كم ألفًا من ملايين السنين قد انقضت على عالم الأحياء من نبات وحيوان، دون أن يصاب ذلك العالم العجيب بضعف الإنتاج؟ صور لنفسك عالم الطبيعة هذا، من نبات وحيوان وكأنه مصنع ضخم أديرت مكناته لتنتج كل عام ألوف الملايين من أطنان الكربون، والأوكسجين، ومن المعادن كالحديد والبوتاسيوم والمغنسيوم، ومن البترول والماس واللؤلؤ وغيرها من صنوف المادة الخام، ومن الأحجار — كريمة وغير كريمة — فضلًا عما تنتجه من ألوف الملايين من أطنان الطعام، أليس هو أعجب العجب أن يظل هذا المصنع الضخم قويًّا منتجًا لآلاف الملايين من السنين، بلا عجز ولا نقص ولا تشويه؟ بلا احتياج ولا صراخ ولا إضراب؟ لقد كان جابر بن حيان — رائد الكيمياء في تاريخ العلوم — يحاول أن يحقق بعلمه أحلام عصره، وهو أن يستخرج الذهب من المعادن الخسيسة بفعل التجارب الكيماوية، قائلًا في ذلك أنه إنما يحاول أن يصنع ما تصنعه الطبيعة ذاتها، وكل ما في الأمر أنه أراد أن يختصر الوقت المطلوب، فإذا كانت الطبيعة تستغرق في صنع المعدن المعين آلاف الملايين من السنين، فلماذا لا نستعين بتجارب العلم لنحقق النتيجة عينها في أسابيع أو في أيام؟
وعاد البصر فتعلق بتلك النبتة الصغيرة أمامي، لتتحول نظرتي مسرعةً إلى تصور فيه الدهشة كلها والعجب كله، وهو تصوري للتعاون الهائل الدقيق المترامي بأطرافه، حتى يشمل العالم العضوي كله بجميع حيوانه ونباته، في اللحظة الواحدة، وفي الزمن الطويل تتعاقب عصوره عصرًا بعد عصر، حتى يبلغ المدى آلاف الملايين من السنين! فهذا النبات يعطي ذلك الحيوان ليحيا، وهذا الحيوان يرد إلى ذلك النبات لينمو ويثمر! وماذا لو قالت نبتة لنفسها «وأنا مالي» أو قال حيوان لنفسه لن أعطي لأحد مما عندي شيئا؟! أليس من أوجب الواجبات علينا أن نقف لحظة نسأل: ترى ما هي المبادئ الأساسية التي تنظم العمل في هذا المصنع الرهيب، الذي لا ينال منه الزمن بشيخوخة، ولا تصيبه اللامبالاة دقيقة واحدة، بل هو جاد أبدًا، منتج أبدًا؟ لعلنا بتلك المبادئ الأساسية نهتدي في حياتنا البشرية التي تتخبط بين جدٍّ وهزل، فإذا أعطت إنتاجها يومًا تعطلت أيامًا لتسخط وتغضب وتحتج، نعم ما هي المبادئ الأساسية التي تتحكم في دنيا الأحياء من نبات وحيوان، فتكسبها هذا الرشاد كله، وهذا التعاون وهذا التوزان، وهذه اليقظة الواعية؟
يقول العارفون بعلوم النبات والحيوان إن أهم تلك المبادئ في نشاط الكائن الحي، هو التنظيم الذاتي الذي يصحح بنفسه أخطاء نفسه، فإذا انحرف هنا جاءته العوامل التي ترده إلى صوابه، وإذا أسرف هناك عاجلته الضوابط التي تعيد إليه الرشاد، فهذه العملية الدائرية التي تنشط بإنتاجها، ثم ترتد إلى نفسها مصححة مسارها إذا حاد أو انحرف، هو أهم المبادئ جميعًا في مصنع الأحياء، وإنه لمبدأ كان وحده كفيلًا أن تظل مكنات المصنع دائرة في انتظام، تنتج ما تنتجه من أعاجيب، آلاف الملايين من السنين، ويا لعجائب الأيام! من ذا يصدق أن علم السبرناطيقا، الذي هو أحدث العلم، والذي مؤداه إيجاد مثل هذا التحكم، ومثل هذا التصحيح الذاتي الذي فطر في النبات والحيوان، إيجاده في الأجهزة العلمية التي يصنعها الإنسان، فكان ما كان من عقول إلكترونية حاسبة وغير حاسبة.
وارتد البصر إلى النبتة الصغيرة التي أمامي، وكأنما هممت بالتحدث إليها ما دامت منطوية على تلك الحكمة كلها، والدقة كلها، والجدية كلها، وعلى ذلك التعاون مع سواها، تفنى لتطعم سواها، أو تتمثل الضوء لتصنع لنا الأوكسجين الذي يتيح لنا نحن البشر أن نتنفس، نعم كأنما هممت بالتحدث إليها بما تسلسل في رأسي من خواطر مبطنة بالأسى، فلقد ورد إلى ذهني ما لم أكن أتوقع وروده: كنا ذات يوم نحو سبعة رجال أو ثمانية، نعمل معًا في قسم دراسي واحد، لكل منَّا جهوده، لكن هل انطوت صدورنا على مثل ما انطوت عليه هذه النبتة الصغيرة من رشاد؟ كنا كمجموعة جزر في أرخبيل، ليس بين الجزيرة منها والجزيرة صلات من يابس، أو كنا كتلك الوحدات التي قال عنها ليبنتز إن كل وحدة منها مغلقة على نفسها، وليس فيها النوافذ التي تطل منها على الأخريات، وكل ما كان يجمعنا في شبه أسرة هو التجاور أثناء العمل في مكان واحد.
لكن لا، فلقد ترفقت في التشبيه، فأخفيت ركنًا مهمًّا من حقيقة واقعنا، فجزر الأرخبيل أو الوحدات التي تحدث عنها ليبنتز، لا تتراشق بالسهام المسمومة، ولا يسخر بعضها من بعض، كما كنا نفعل نحن الآدميين العقلاء في تلك المجموعة الصغيرة من العلماء! كنت ترى الواحد منا يضمر لزميله الغيظ والحقد، حتى إذا ما حانت له اللحظة المناسبة أخرج من صدره ما يشبه الصديد، لم يكن الواحد منَّا يقرأ للآخر لينتقده النقد النزيه، كلا، ولماذا يقرأ وفي القراءة شيء من اعتراف له بوجوده، وأما أن ينتقده ليهدمه دون أن يقرأ له، فذلك من أيسر اليسر في حياتنا العلمية! ولا عجب أن مضت على مجموعتنا عشرات الأعوام، كان لكلٍّ منا فيها جهوده، لكنها جهود جاءت متضاربة متعارضة، فلم تحدث لنا حياة فكرية مشتركة تدوم ولو بعض حين، كهذا الذي تفعلينه يا أيتها النبتة الصغيرة النشيطة الجادة المنزهة عن الهوى.
وبهذه العبارة الأخيرة عاد انتباهي إلى النبتة الصغيرة فوجهت إليها الحديث؛ لأنه قد استقر عندي ساعتها أنها أجدر بالتحدث إليها من الآدميين حتى، وأن يكونوا من العلماء! سألتها: كم تبددين من نشاطك ومن جهودك يا عزيزتي في نقد تلك الشجرة العملاقة التي ارتفعت بجوارك ارتفاعًا كاد يحجب عنك ضوء الشمس، وكأني سمعتها تقول إنها لا تطاول العمالقة، ولا ينبغي لها، فهي مشغولة بأداء دورها الذي خلقت من أجله على أكمل وجه مستطاع، وكل ميسر لما خلق له، إن الكائن الذي يتمرد على فطرته مصيره محتوم، وهو مصير — كما ينبئنا علماء الأحياء — منحصر بين اثنين: فأما فناء عاجل، وأما جمود يحول دون النماء والازدهار، فمن فطرة الكائن الحي — نباتًا كان أو حيوانًا — أن يستخدم الطاقات المتاحة استخدامًا يستقطرها كل ما فيها؟ فهو لا يقف لحظة ليقول — كما نقول نحن الآدميين أحيانًا — ليس أمامي ولا ورائي العنصر الفلاني اللازم، وليس لدي العملة الصعبة التي أستورده بها، ولذلك سأكف عن العمل، حتى تمطره لي السماء، أو تنشق عنه الأرض.
وأمعن نظري من جديد إلى النبتة الصغيرة، وأرهف سمعي: سبحانك ربي خالق الكون بكل من فيه وما فيه! من الذي علم هذه النبتة الصغيرة ألا تجحف بسواها «فتنهب» منه ما ليست هي بحاجة إليه؟ إنه لا تبذير في حياتها، تأخذ من عناصر الأرض ما يكفيها لا تضيف إليه ذرة واحدة، قائلةً لنفسها: لأخزن هذه الذخيرة في جيوبي قبل أن «يلهفها» الآخرون! إلا أن من بلغ مثل هذه الحياة الرشيدة المتزنة المقتصدة العفيفة من الآدميين، ليتوقع منا أن نسجل ذكره في صحائف التاريخ، وأنت أيتها النبتة الحكيمة لا تأبهين! هل تعلمين أننا — نحن البشر — ننهض مواردنا نهشًا بغير حساب، نستهلك منه القليل، ثم نقذف بالفضلات في صفائح القمامة؟! ماذا تقولين؟ أتقولين أن الطبيعة لا تعرف شيئًا اسمه «فضلات»، فكله عندها مادة خامة تصنع في خلايا النبات وفي أبدان الحيوان، لتخرج إلى الطبيعة من جديد كائنًا جديدًا.
إن تلك النبتة الصغيرة الحكيمة لم تغلق الكون على نفسها لتقول في زهو فارغ: الكون هو أنا! بل جعلت دستور نمائها وأدائها أن تتفتح على العالم البيولوجي كله لتأخذ وتعطي، حتى لقد صيغت في علم الأحياء لفظة لاتينية معناها «تكافل الأجسام العضوية»، وذلك حين وجد علماء ذلك المجال بين جميع الكائنات الحية ضربًا من التعايش والتعاون تثير دقته الذهول، على أنهم لم يغفلوا عن مجموعة من الأحياء تأخذ ولا تعطي، فأطلقوا عليها اسم الحيوان الطفيلي الذي لا ينفع.
لو كان لتلك النبتة الصغيرة حياة ثقافية، لما طرأ ببالها لحظة أن توصد دون ثقافتها النوافذ والأبواب، ثم تتحذلق في جوف نفسها متعالية بما عندها؛ لأنها كانت ستعلم بفطرتها أن ذلك ينتهي بما حتمًا إلى ذبول وزوال.
إن هذه النبتة الصغيرة وحدها كفيلة بأن تقدم لنا نموذجًا، إذا أردنا أن نلتمس طريق البقاء، إنها أبدًا لا تأتيها من تكوينها الداخلي مفاجآت لم تحسب لها حسابها، كما تأتينا نحن من كياننا الداخلي المفاجآت، نعم إننا وإنها لمتشابهان في أن العوامل الخارجية قد تدهمنا فتنال منَّا، فذلك أمر قد لا يكون لنا أو لها حيلة فيه، أما أن تدهمنا من داخلنا عوامل الهدم، فذلك أمر نعرفه نحن ولا تعرف منه النبتة الصغيرة شيئًا، نقول نحن بغتة: لقد تكاثر السكان وليس لهم لدينا طعام ولا مأوى، أما النبتة الصغيرة فمحال عليها أن تفاجأ بتكاثر في خلاياها وأجزائها، ثم تشكو لما حولها قلة الحيلة، فهي تغتدي بحساب وتنمو بحساب وتثمر بحساب، حتى إذا ما قضت أوكلت بقاءها إلى أخوات لها.
لقد كانت سألتني إحدى ذوات قرباي يومًا: متى تقول عن البناء — أي بناء — أنه قد اكتمل في فنه وفي أدائه؟ وأذكر أني أجبتها على الفور كأنما هي إجابة جاهزة معدة للتصدير السريع: أقول عن أي بناء إنه اكتمل في فنه وفي أدائه، إذا ما توافرت له العناصر التي توافرت في هذه الشجرة التي أمامنا، فهي موحدة برغم تعدد أجزائها، وهي جادة لا تعبث من حياتها لحظة، وهي تعتمل بعناصرها الداخلية اعتمالًا لتثمر ما أريد لها أن تثمره، وهي لا تقذف جيرانها بالحجارة لتوقفهم عن النمو إذا رأتهم في طريق النمو، ورأت نفسها مقصرة، وهي تنفتح بخلاياها جميعًا نحو الهواء والشمس، لا تقول عن هواء إنه فاسد؛ لأنه آتٍ من الشمال والجنوب، ولا عن شعاع الضوء إنه مميت؛ لأنه بغير مذهب يلونه.
ومن يدري، لعلي أسرعت بهذا الجواب؛ لأني كنت أخزن في حافظتي الواعية ذلك الدرس العجيب الذي تلقيته من النبتة الصغيرة في ذلك الزمن البعيد.