التقاء الثقافتين
عندما شرفني السيد الوزير الأستاذ الدكتور مصطفى كمال حلمي وزير التعليم، بالمشاركة في إعادة التفكير في مقررات الفلسفة بالمرحلة الثانوية أنبأني يومئذٍ بأن النية متجهة إلى أن يشترك طلاب العلوم وطلاب الآداب جميعًا في إحدى المواد الفلسفية، وهي المادة المتصلة بمنطق التفكير العلمي، كائنةً ما كانت المادة الدراسية التي ينصب عليها ذلك التفكير، وأن الله وحده ليعلم كم فرحت للنبأ الذي هو عندي نبأ عظيم، لو تحقق لظفرنا بركن واحد من بين أركان كثرة مطلوبة لتوحيد الثقافة القومية على الوجه المطلوب.
وعلى ضوء ذلك الأمل الذي لم يتحقق إلى اليوم، والذي ما زلنا نعلق الأمل على وزير قلما شهد التعليم وزيرًا مثله في بعد همته ووضوح رؤيته، أقول إنه على ضوء ذلك الأمل، كان الزملاء الذين شاركتهم في إعداد مقررات جديدة، قد اتفقوا على أن يجيء مقرر المنطق نخبة ممتازة من موضوعات تتكامل معًا في وضع أساس للتفكير العلمي، لا يصدم طالب العلوم بغرابته وإيغاله في المصطلح الفلسفي لهذه المادة، ولا يصعب على طالب الآداب السير فيه.
لكن ذلك الأمل في أن نقيم جسرًا — حتى ولو كان جسرًا هزيلًا ناقصًا — بين الثقافتين: العلمية والأدبية (كما يسمونها) لم يتحقق، ويظهر أننا سنظل حينًا — لا أعرف كم يطول — على هذه الازدواجية الثقافية العجيبة التي تخيل للناس ألا علاقة بين المجالين، وتصور لبعضهم أن من يدرسون الآداب — ومنها الجغرافيا والتاريخ واللغات والآثار والفلسفة وعلوم الاقتصاد والنفس والاجتماع والقانون والسياسة — تصور لبعضهم أن من يدرسون هذه الفروع «الأدبية» إنما «يغوصون» فيما هو شبيه بالأساطير، فلا يعلم هؤلاء الواهمون أن الدراسة العلمية ما دامت قائمة على منهج التفكير العلمي السليم، هي دراسة علمية في فروضها وترتيب أفكارها، وطريقة استدلالها، بغض النظر عن نوع المادة العلمية المدروسة.
والحقيقة هي أن ظاهرة الازدواج الثقافي مسألة يعاني منها العالم كله بدرجات تتفاوت ضيقًا واتساعًا، لكنها ظاهرة في حياتنا نحن الثقافية تبدو لي أفدح منها في أي مكان آخر من أقطار العالم المتحضر، فمنذ أن أصدر «سي. بي سنو» في إنجلترا سنة ١٩٥٩م كتابه المشهور الذي جعل عنوانه «الثقافتان»، والمشكلة مطروحة بين مفكري أوروبا وأمريكا بصورة جادة، أكثر جدًّا مما كانت عندهم قبل ذلك، ولقد قصد «سنو» بالثقافتين العلوم والآداب، لكنه حدد «العلوم» بالعلوم التجريبية الطبيعية، كما حدد «الآداب» تحديدًا واسعًا لتشمل كل العلوم الإنسانية والاجتماعية التي نضعها نحن فيما نسميه بالكليات النظرية.
وقبل أن تفوتني هذه اللحظة المناسبة، أريد أن أقول إن هذه في رأيي أعجب تسمية يمكن أن يتصورها إنسان في دنيا الفكر والثقافة، وأقوى دليل على مدى ما تختلط به الأمور في أذهاننا؛ لأن العلوم «النظرية» بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة هي المواد العلمية في تسميتنا، وأما المواد «الأدبية»، فأقرب جدًّا إلى حياة الناس كما يعيشونها كل يوم، من لغات إلى قانون واقتصاد ونفس واجتماع، ودور «النظرية» فيها أضعف جدًّا من دورها فيما نسميه نحن ﺑ «المواد العلمية».
وأعود بعد هذا الاستطراد إلى ما كنت بصدد الحديث فيه، وهو مشكلة «الثقافتين» كما عرضها السير تشارلز سنو في كتابه، ولما كان هو نفسه رجلًا من رجال العلم، ورجلًا من رجال الأدب في وقت واحد — يشبه عالمنا الأديب الدكتور محمد كامل حسين — أو الدكتور حسين فوزي، فقد كان في كتابه ذاك بصيرًا بحقيقة ما يكتب عنه، لكنه انتهى إلى نتيجة أفزعت كثيرين من المشتغلين بالاتجاه «الأدبي»، وهي أن المعول الأساسي في تقدم الإنسان هو للعلوم وحدها، وأما الآداب وما يدور في فلكها، فهي على أحسن الفروض أمور تملأ بها ساعات الفراغ.
وهنا تصدى له كثيرون، وكان من أهمهم أولدس هكسلي في دراسة مسهبة عنوانها «الأدب والعلم»، وأخذ هكسلي بعمقه المعهود واتساع أفقه الرهيب، يضع أصابعه على الفوارق الدقيقة التي تفصل بين هذين النوعين من فاعلية الإنسان ونشاطه الذهني: العلم من ناحية، والأدب من ناحية أخرى، وبعد أن فرغ من تفصيل القول في الفارق الأساسي بينهما، وهو فارق يدور حول موضوعية العلم وذاتية الأدب أخذ يبين كيف أن العلم قوامه تجريدات لا يحياها الناس، إذ الناس لا يأكلون معادلات رياضية، ولا يمرحون أو يحزنون لدقائق الذرة في كهاربها الموجهة أو السالبة؛ لأنهم يسمعون عنها ولا يرونها، وأما دنيا الأدب فهي التي يولد فيها الناس ويعيشون، ثم يموتون، وهي التي يحبون فيها ويكرهون.
إن دنيا الأدب هي عالم الدوافع والحوافز والغرائز والعقائد والمشاعر، ثم هي العالم الذي يتبادل فيه الناس لغاتهم كما لقنها لهم آباؤهم، بكل ما في تلك اللغات من إيحاءات وتلميحات وغموض، وأما رموز الكيمياء والفيزياء والرياضة، فهي أشياء يدرسونها في قاعات المعاهد والجامعات، لكنها لا تنفع في بيع أو شراء أو غزل أو هجاء، واختصارًا، فإن دنيا الأدب هي التي تقع في خبراتنا وقوعًا مباشرًا، على عكس العلوم التي تقيم لنفسها عالمًا تستدله من الخبرة المباشرة استدلالًا، وتصوغه صياغات رياضية تحدد الكم بعد أن يفوتها تلوينات الكيف.
على أن هذه التفرقة بين علم وأدب لم تكن هي الهدف الأساسي الذي قصد إليه هكسلي من مقاله، إذ كان هدفه هو أن يعترف لكل من الثقافتين بوجوده وأهميته، ليسأل بعد ذلك: كيف نعمل على أن تلتقي الثقافتان معًا في الإنسان عقلًا ووجدانًا؟ ثم يجيب بأن هذا الالتقاء لا يتحقق إلا إذا ظهر فينا الفنان العملاق الذي يدمج في عمله الفني لغة الناس كما يتكلمونها ويفهمونها، بما فيها من غموض ومن إيحاء، ولغة العلم بكل ما عرفت به من دقة صارمة، وعندئذٍ فقط يجد الإنسان حقيقة نفسه ماثلة أمامه بشطريها متحدين: الشطر الذاتي الخاص، والشطر الموضوعي العام.
وإذا سمحت لنفسي بأن أشير إلى مواضع الخطأ في موقف أولدس هكسلي في هذا الموضوع، قلت إنه — في رأيي المتواضع أمام هذا الأديب المفكر النابغ — قد أخطأ خطأين: أحدهما حين جعل المقابلة — في رده على «سي. بي سنو» — بين العلم من جهة والأدب الخالص من جهة أخرى، على حين أن «سنو» لم يقصد في كتابه إلى الأدب الخالص، بل أراد المقابلة بين العلم والأدب بمعنى الدراسات الإنسانية كما تعرفها الجامعات، هذا واحد. وأما الخطأ الآخر الأخطر والأهم، فهو أنه إذا تساءل عن طريقة التقاء الثقافتين ظن أن ذلك يتحقق إذا عرف الأديب كيف يجري في أدبه شيئًا من لغة العلم، بحيث لا يكون ذلك سببًا في تفكك القطعة الأدبية، أي إنه تصور اللقاء بين الثقافتين لقاءً مباشرًا، مع أن مثل هذا اللقاء المباشر لا يجدي إلا قليلًا.
وأما الطريقة المجدية حقًّا، فهي أن يجيء هذا اللقاء بين الثقافتين بطريق غير مباشر، بمعنى أن تدخل التطبيقات العلمية والأسلوب العلمي في شرايين الحياة الاجتماعية دخولًا يجعل تلك الحياة علمًا مجسدًا — إذا صح هذا التعبير — وبعدئذٍ يجيء الأديب لينفعل بالحياة المحيطة به كما يصنع الآن، فإذا بانفعاله هذا متأثر إلى أبعد مدى بحياة علمية الأصلاب، علمية اللحم والعظم والدم، الحكومة فيها جهاز علمي تقوم عليه جماعة العلماء، والتربية فيها عملية بكل ما تعنيه العلوم من دقة منهج وتحديد موضوع وأهداف، وقل هذا في الجانب الاقتصادي من الحياة، وفي جانب التشريع، بل وفي جوانب الترفيه.
وأعود فأتجه بحديثي إلى السيد الأستاذ الدكتور مصطفى كمال حلمي وزير التعليم، قائلًا إنه إذا كانت الفجوة بين الثقافتين قد أحدثت قلقًا عند رجال الفكر في أوروبا وأمريكا، فهي خليقة أن تحدث فينا مثل هذا القلق مضاعفًا، لماذا؟ لأننا بعد أن نشطر الدارسين شطرين، أحدهما للعلوم بأنواعها، والآخر للآداب بأنواعها، نفاجأ بعد ذلك بأن نجد مناخنا الثقافي الذي نعيشه، يعمل من تلقاء نفسه على خلق فجوة أخرى داخل كل فريق من هذين الفريقين، ليصبح الفريق الأول جامعًا بين دراسة العلوم ومعها اعتقاد في الخرافة، وليصبح الفريق الثاني كذلك دارسًا للآداب ومعها اعتقاد في الخرافة! نعم، يا سيادة الوزير، إننا في حياتنا الثقافية العامة نغوص إلى آذاننا في بحر من الخرافة متلاطم الموج، يحتاج منا إلى شكل عاجل فعَّال بمنهج التفكير العلمي نلقنه للفريقين من الدارسين معًا وعلى السواء، لعلنا نخرج جيلًا خيرًا من جيلنا في حساسيته نحو ما يجوز قبوله عند العقل وما لا يجوز.
لقد شهدت بعيني كيف تبادل الكبار من مثقفينا — علميين وأدبيين على السواء — الأحاديث فيما بينهم عن أشباح تصعد إلى السماء، وأشباح تهبط إلى الأرض، وعن خوارق ينجزها من أصابه عته أو بلاهة، فمثل هذه الخوارق في ثقافتنا العامة لا تتحقق على أيدي أصحاب علم أو ذكاء، فهؤلاء الكبار من مثقفينا — ودع عنك صغارهم، ثم لا تسأل عن من لا ثقافة له — هؤلاء الكبار من مثقفينا يقصرون تفكيرهم العلمي على حجرات المعامل وقاعات الدرس، حتى إذا ما انطلقوا أحرارًا من تلك الحجرات والقاعات، جاز لهم أن يقبلوا المستحيل، وهل هو القليل النادر في حياتنا الفكرية أن نقرأ لبعض حملة الأقلام عندنا، حكايات تروي عن عجائب من تلك الخوارق أشكالًا وألوانًا؟
فهل يعقل — وهذه هي نظرتنا العامة، عند المتعلمين وغير المتعلمين (فلا فرق بين أولئك وهؤلاء خارج نطاق الدروس المحفوظة) — هل يعقل أن نكون جادين من الأعماق حين نتحدث عن دولة العلم، والتصنيع، ودولة تريد أن تكون الإدارة فيها محكومة بالأهداف؟ أليس أضعف الإيمان هنا هو أن نجمع الدارسين جميعًا في أية مرحلة من مراحل الدراسة المشتركة، على زاد ولو قليل نزودهم به من أسلوب التفكير العلمي كيف يكون؟
التقاء الثقافتين هو اليوم هم من هموم المفكرين في أرجاء العالم المتحضر، فينبغي أن يكون من أهم همومنا نحن؛ لأن البلاء عندنا ذو شقين، فإذا كانت الفجوة عندهم كائنة بين علوم وآداب، فهي عندنا تضيف إلى ذلك فجوة أخرى أبشع وأعمق بين جانب العلوم من حياتنا وجانب الخرافة.