الحوادث الجارية
قال: لماذا لا تكتب في الحوادث الجارية؟
قلت: إنني لا أكتب إلا في الحوادث الجارية، لكن هناك كتابة وكتابة.
قال: كيف؟
قلت: إن الحوادث الجارية هي الواقع الذي وقع بالفعل، فيتناولها الكتاب بما شاءت لهم ملكاتهم وميولهم أن يتناولوها، إنها كالخيوط الملونة في مصنع السجاد، يمكن أن يشكلها الصانع في ألف زخرف وزخرف، فالحوادث الجارية إذا أثبتها كاتب كما وقعت، أو إذا وصفها هذا الكاتب ليعلق عليها بالرأي، كانت هذه هي الكتابة الصحفية، التي يتفاوت فيها أصحابها في دقة الوصف، أو في سداد الرأي عند التعليق، لكن هذه الحوادث الجارية نفسها قد توحي للأديب بقصة أو مسرحية، أو هي قد توحي لأديب آخر بصور من نقد الأسس التي قامت عليها أوضاع الحياة، بحيث أفرزت تلك الحوادث الجارية.
ومضيت في حديثي مستطردًا، فلقت لصديقي: إنني سأضرب لك مثلًا يوضح ما أريد، سأذكر لك حادثة معينة وقعت بالفعل، لأبين لك بعد ذلك كيف جاء صداها في الأدب الروائي، وكيف كان يمكن لهذا الصدى أن يجيء عند كاتب للمقالة الأدبية:
لقد وقع في التاريخ الفعلي أن رجلًا من اسكتلندا — في الأعوام الأولى من القرن الثامن عشر — اسمه «اسكندر سيلكيرك»، دفعته نوازعه إلى مغامرات البحر، فالتحق بحارًا على سفينة القرصان، وحدث بينه وبين قائد السفينة شجار عنيف، أدى بالقائد العنيد أن يلقي بصاحبنا على شاطئ جزيرة بغير سكان، تسمى «يوان فرنانديز» (أمام شاطئ شيلي في أمريكا الجنوبية)، وما أن رأى «سيلكيرك» نفسه وحيدًا في تلك العزلة الموحشة، حتى اكتأبت نفسه مدة عام كامل، ثم لم يجد بعد ذلك مفرًّا من أن يشد من عزيمة نفسه ليواجه الواقع الذي لم يكن له حيلة فيه، ولبث على الجزيرة أربعة أعوام وأربعة أشهر.
وبعدئذٍ مرت سفينة قرصان بريطاني يقودها «وودز روجرز»، وكان ذلك في فبراير من سنة ١٧٠٩م، فأسرع سيلكيرك إلى لقائه، وكتب «روجرز» في سجل سفينته يقول: وجدت على الجزيرة رجلًا يكتسي بجلد الماعز، وجاء ليحدثني، فلم يكن بادئ الأمر يقوى على إخراج اللفظ، لكنه بعد محاولات منه، تحرك لسانه بإنجليزية صدئت من طول الصمت.
اصطحب روجرز رجل الجزيرة في عودته إلى بلاده، وأعطاه نصيبًا لا بأس به من غنيمة استولوا عليها في سفينة تجارية سلبوها، ونزل «سيلكيرك» على أرض بلاده، فبدأ طريقه بعاصمتها لندن، حيث اشترى لنفسه ثيابًا من نصيبه في الغنيمة، وسافر إلى أسكتلنده ليفاجئ أهله بعودة لم يتوقعوها.
وبعد هذه العودة بقليل، نشر «روجرز» مذكرات رحلته، فعرف الناس قصة إسكندر سيلكيرك، التي أصبحت حديثًا لا ينقطع بين الناس أينما كانوا، وأما سيلكيرك، فسرعان ما ضاقت نفسه بحياته الجديدة، حتى لقد كان يقضي الساعات الطويلة في شرود، يستعيد به ذكريات حياته المتوحدة فوق الجزيرة الخالية، إلا من حيوانها ونباتها، إنها قد أصبحت الآن في خياله جنة على الأرض، وانتهى به القلق الذي استبد به إلى أن أقام على جانب الصخر من شاطئ خليج فورث كوخًا كالذي كان قد ابتناه لنفسه في جزيرة فرنانديز، ثم ما هو إلا أن رحل إلى لندن ليلتحق بسلاح البحرية البريطانية، حيث أقلعت به سفينة ليصاب بالحمى ويموت بالقرب من الشاطئ الأفريقي عند غانا.
تلك كانت حياة واقعية لرجل حقيقي، فتناولها يومئذٍ الكاتب الإنجليزي «دانيال ديفو» (١٦٦١–١٧٣١م)، وأقام عليها قصته الذائعة الصيت: «روبنسن كروسو» (هذا هو نطقها الصحيح، وليس «كروزو» كما هو شائع بين قراء العربية)، وأن ديفو ليعد بهذه القصة البادئ الحقيقي للأدب القصصي في إنجلترا، ولا أظن أن قارئًا واحدًا من قرائنا يجهل هذه القصة وأهم أحداثها.
نشر ديفو «روبنسن كروسو» قبيل وفاة اسكندر سيلكيرك، ولم يكن هنالك أدنى شك بأنه بنى قصته على مغامرة سيلكيرك التي تناقلها الناس في أحاديثهم، ولقد سئل ديفو إن كان قد التقى مع الرجل، فأجاب بأنه لم يره، ولكنه بالطبع قد سمع أخباره وأقام عليها قصته، ومع هذا التشابه الشديد بين الواقع الذي حدث من جهة، ووقائع روبنسن كروسو من جهة أخرى، فإن نقاد الأدب لم يتفهم أن الأديب إنما صور نفسه هو مجسدًا في بطل قصته، من حيث تدفق نشاطه وصلابة أخلاقه التي لم تذعن قط لعقبات الحياة، ومن حيث إيمانه بالله إيمانًا عميقًا وصادقًا، ولو كان لقصة روبنسن كروسو من هدف، لكان هدفها هو الدعوة إلى الصبر الجميل تجاه الشدائد، ألم يحاول كروسو في وحدته أن يصنع لنفسه كل شيء، وأن يعتمد على نفسه في كل شيء؟ إنه أقام بيته، وأشعل ناره، وخبز خبزه، وأنضج طعامه.
كانت تلك هي وقفة الأديب الروائي تجاه الحوادث الجارية، وإنه ليحق لنا في هذا الموضع أن نقارن بين «الحوادث الجارية» والأدب الذي يقام عليها، لنرى في وضوح كيف أن الحوادث تسرع إلى زوال النسان، بينما يخلد الأدب الذي يقام عليها، فكم من الناس اليوم قد سمع بإسكندر سيلكيرك، وكم منهم قد عرف روبنسن كروسو؟ فبينما سيلكيرك لم يسمع عنه إلا قلة نادرة، ترى روبنسون كروسو حيًّا مع الأحياء جميعًا، إن سيلكيرك هو رمز «الحوادث الجارية»، وأما كروسو فهو ما يستخلص من تلك الحوادث ليخلد على قلم الأديب.
ونفرض الآن أن كاتبًا في أدب المقالة قد عاش بين القوم أيام اسكندر سيلكيرك في مغامراته ودانيال ديفو في تصويره القصصي، فماذا كان أديب المقالة ليكتب وقد علم أن الرجل — سيلكيرك — بعد أن أزاح الله عنه كروبه وأعاده إلى وطنه وأهله، لم يلبث أن ضاقت نفسه بحياته وراح يحلم بالجنة الأرضي التي كان ينعم فيها وحيدًا؟ إن أهم ما كان ليلفت نظره — فيما أظن — هو أن جوهر الإنسان كامن في قدرته على الابتكار والإبداع، فإذا تهيأت ظروف الحياة طابت الحياة لأصحابها، وإن لم تتهيأ الظروف شقي الناس بحياتهم مهما وجدوا فيها من يسر ورخاء، وعلى هذا المحور الجوهري كان كاتب المقالة الأدبية ليكتب مقالته، مستخدمًا لها الشكل الذي تهديه إليه فطرته.
فهذا هو صاحبنا سيلكيرك، بعد أن قذفوا به في الجزيرة الموحشة، لم يلبق أن أفاق من غمته، ليجد أمامه مجال الإبداع واسعًا، ومع الإبداع تكون الحرية بأصدق معنى من معانيها، والإنسان هو الحرية — كما يقول الوجوديون — إنه يريد لنفسه بنفسه، ولا يريد له أحد سواه، إنه في كل لحظة يخلق لنفسه الجديد، وفي كل لحظة يصطدم بمشكلة تريد حلًّا سريعًا أو بطيئًا، فابتكار الحلول في حياته مسألة وجود أو عدم، كان سيلكيرك في الجزيرة «فردًا» متكامل الكيان كما أراد له خالقه أن يكون، إنه لم يكن حرفًا في كلمة أو جملة في كتاب، بل كان هو الكلمة كلها بكل معناها، وهو الكتاب كله بسائر فصوله، كان مسئولًا عما يفعل، مسئولًا أمام الوجود الحي لا أمام رجل الشرطة في أقسام البوليس، كان القانون الذي يحكمه قانونًا من شريعته هو، لا يمليه عليه إلا نوع الحياة التي أرادها، فكانت حياته في الجزيرة أقرب شيء إلى عمل الفنان، فمن ذا الذي يلزم المصور الفنان أن يزيد من اللون الأصفر هنا، وأن ينقص من اللون الأزرق هناك، إلا ضرورة التكامل في إبداعه الفني؟ وهكذا كان سيلكيرك في جزيرة فرنانديز يوزع الألوان على لوحة حياته مهتديًا بالفطرة، لا صادعًا بأوامر الآمرين.
وعاد سلكيرك إلى وطنه وأهله، فشعر لأول مرة بما لم يكن قبل ذلك قد شعر به؛ لأنه كان تعوَّد أن يراه، إن أنف المزكوم لا يشم الرائحة الكريهة من حوله، وكان أنفه — قبل خبرة الحياة الحرة على الجزيرة — كالمزكوم، وها هو ذا قد عاد ليتبين أن أعنة أموره في حياته لم تكن في يديه، مع أنها أموره هو في حياته هو، بل كانت تلك الأعنة في أيدٍ تحركها، وهو لا يراها، كأنها أيدٍ مسحورة لم تخلق لتراها الأبصار، لا بد أن يكون صاحبنا بعد عودته قد شعر بالضواغط التي تكتم الأنفاس تأتيه من كل جوانبه، تأتيه من تقاليد الأسرة، ومن أعراف المجتمع، ومن سلطة القانون أنه قبل ذلك لم يكن قد شعر بكل هذا؛ لأنه كان يألفه فلا يراه.
لا بد أن يكون صاحبنا قد ضاق صدره بعد عودته حين تبين أنه لم يعد أمامه مجال يبدع فيه ويبتكر، إنه يأكل ما يباع له في الأسواق، لا الذي يصيده هو من سمك وطير وحيوان، إنه ينام حين تدق له ساعة، ويستيقظ حين تدق له ساعة، وكان قبل ذلك يستيقظ وينام مع كائنات الطبيعة من حوله: الشمس والقمر والمطر والريح.
لم يكن سيلكيرك في الجزيرة مدفوعًا بالدوافع نفسها التي تحمل المتصوف على اعتزال الحياة في صومعة نائية، في الصحراء أو في الجبل، لكن هنالك رباطًا يربط الرجلين، هو ألا يكون بينه وبين ضميره دخيل، وألا يقف بينه وبين ربه وسيط، فلئن أحس صاحبنا بالرغبة في أن يعود إلى جزيرته وحيدًا، فلأنه شعر بما يشعر به المتصوف وهو يهم بترك المدينة، فكلاهما يرى في حياة الناس نقصًا وتشويهًا، لكنه لا يملك شيئًا من وسائل الإصلاح، إن عودة سيلكيرك إلى جزيرته هي كهجران المتصوف، كلاهما يقلق أصحاب السلطان؛ لأنه في عزلته الصامتة عنوان صارخ يصيح بأعلى صوت أن الحياة قد امتلأت جورًا وظلمًا، ولم يعد بد من تغيير وإصلاح.
إن كاتب المقالة الأدبية لو عاش مع دانيال ديفو أديب القصة، وسمع بأخبار اسكندر سيلكيرك، لما كان به حاجة بعد ذلك إلى إحصاءات بأرقام التجارة الصادرة والتجارة الواردة، ولا إلى مقدار المحاصيل الزراعية من قطن وبصل وقمح وشعير، ولا إلى الدخل القومي كم بلغ خلال العام، لا إنه ما كان ليحتاج إلى شيء من هذا كله ليعلم حقيقة الحياة التي يعيشها الناس، بل كان يكفيه أن يعلم بأن سيلكيرك بعد أن عاد إلى أهله ووطنه، ورأى ما رأى، وشعر بما شعر. قد أخذه الحنين إلى عودة أخرى إلى الجزيرة المعزولة؛ لأن ذلك الحنين كاف وحده للدلالة على أن شروخًا عميقة وخطيرة لا بد أن تكون قد أصابت بناء المجتمع.
والآن يا صديقي، لقد حان دوري لأسألك وعليك أنت الجواب: أئذا كنت أنت في بريطانيا أيام الأنباء التي شاعت عن مغامرة اسكندر سيلكيرك، ثم قرأت قصة روبنسن كروسو التي كتبها يومئذٍ دانيال ديفو، وقرأت معها مقالة أدبية كتبها كاتب بمعانٍ كالتي ذكرتها لك الآن، أكنت تسأل أيًّا منهما قائلًا: لماذا لا تكتب في الحياة الجارية ألست ترى معي أن ما نكتبه هو في صميم الحياة الجارية، وكل ما في الأمر أن هناك كتابة وكتابة.