العلم مذهب رابع
اليمين واليسار والوسط، تقسيم هندسي يفرضه العقل فرضًا؛ لأنه تقسيم يعطيك الاحتمالات الممكنة كلها من الوجهة الرياضية فلا تستطيع أن تضيف إليها، ولا أن تنقص منها إذا التزمت هذا الخط الهندسي في التقسيم، وكل ما تستطيعه هو أن تشق أيًّا منها، أو أن تشق كلًّا منها، إلى فروع، فتقول إن اليمين يشتمل على كذا وكذا من الجماعات الفرعية، وإن اليسار يشتمل على كيت وكيت، وكذلك الوسط، وهو موقف شبيه إلى حدٍّ كبير بتقسيم الجهات الأصلية إلى أربع: شمال وجنوب وشرق وغرب، ثم لا يبطل هذا التقسيم أن تضع بين هذه الجهات الأصلية الأربع جهات فرعية، كأن تقول الجنوب الشرقي، والشمال الغربي، وكثيرة جدًّا في حياة الإنسان أمثال هذه التقسيمات العقلية، التي لا يأتيها الباطل لمجرد كونها مشتملة على جميع الاحتمالات الممكنة، فإذا أضيفت إليها حالات أخرى كانت حالات فرعية تنضوي تحتها ولا تلغيها، كتقسيم اليوم إلى ليل ونهار، حتى إن جاء بينهما غسق وفجر، وكتقسيم العام إلى فصول أربعة: صيف وخريف وشتاء وربيع، بغض النظر عن الهوامش الانتقالية بين فصل وفصل، وكتقسيم الكائنات الحية إلى نبات وحيوان وإنسان، لا ينفي ذلك أن يختلف الباحثون في حلقات وسطى بين النبات والحيوان، أو بين الحيوان والإنسان؛ لأن هذه الحلقات مصيرها إما أن تندرج مع القسم الأدنى أو مع القسم الأعلى.
اليمين واليسار والوسط — إذن — تقسيم رياضي يستحيل عليه البطلان؛ لاشتماله على جميع الممكنات الهندسية، وحتى غير الهندسية، إذ من حقنا أن نقول عن المذاهب السياسية — كما هي الحال عندنا اليوم — أنها إما إلى يمين وإما إلى يسار، وعندئذٍ يتحتم عقلًا أن يكون هنالك ما يتوسط بين الطرفين، لكنني — وهنا موضع العجب الذي دعاني إلى كتابة هذا المقال — لكنني حين أردت الانتماء إلى أحد هذه الأقسام الهندسية، بحيث لا أخون حقيقة نفسي، وجدتني في واقع الأمر لا أنتمي لأيٍّ منها؛ لأنني أنتمي إليها جميعًا بوجه من الوجوه! كيف؟ هذا هو السؤال.
عقيدتي التي انتهيت إليها بعد شيء من التفكير، وهي عقيدة ربما جاءت مخالفة لما هو شائع في الأحاديث الجارية، عقيدتي هي أنه إذا كان من حق الأحزاب السياسية أن تختلف في الأهداف، وأن تختلف في المبادئ، فلست أظن أن من حقها الاختلاف حول الوسائل الموصلة، من هذه المبادئ إلى تلك الأهداف؛ لأن هذا الحق متروك — أو يجب أن يكون متروكًا — لأصحاب البحث العلمي، وعلى سبيل التشبيه أقول إن المسافر من حقه أن يحدد الجهة التي يريد السفر إليها، كأن يقول — مثلًا — وهو في القاهرة: أريد السفر إلى أسوان صادرًا ذلك عن رغبة معينة يعرفها هو، فهو وحده الذي يقرر لنفسه لماذا أراد السفر، وإلى أي هدف يريد أن ينتهي به ذلك السفر، ثم ما عليه بعد ذلك إلا أن يختار إحدى الوسائل المعروضة أمامه، والتي يستطيع بها أن يحقق ما أراد، وهي وسائل لم يكن هو الذي أعدها أو صنعها، بل أعدها وصنعها الخبراء والعلماء، إنه لم يكن هو الذي صنع القاطرة إذا كان القطار هو وسيلة سفره، ولا هو الذي أعد القضبان والعربات، لم يكن هو الذي صنع السيارة إذا كانت السيارة هي وسيلته المختارة للسفر، لا ولا كان هو الذي مهد الطريق بالأسفلت وهكذا ترى أن الرغبة في السفر كانت رغبته (والرغبة هنا هي ما يقابل «المبدأ») كما ترى أن الهدف من السفر كان من اختياره (والهدف هنا هو انتقاله إلى أسوان)، وأما الوسائل التي تنقله من الرغبة إلى تحقيقها، فقد اضطلع بها أصحاب المعرفة العلمية والمهارة التطبيقية، كلٌّ في مجاله الخاص.
والأحزاب السياسية في مبادئها وفي أهدافها لا تختلف عن هذا، أو كان ينبغي لها ألا تختلف، فإذا اتفقنا على أن وسائل تحقيق المبادئ والأهداف أمور متروكة للخبراء والعلماء، تبين لنا كيف أن اليمين واليسار والوسط، تلتقي كلها عند وسائل التنفيذ، أعني أنها جميعًا تنتهي — أو لا بد لها — عند أداة مشتركة، هي أداة العلم، بحثًا وتطبيقًا.
إن العلم يزحف بوسائله زحفًا سريعًا على جوانب الحياة التي كانت متروكة قبل ذلك ﻟ «الرأي»، وأينما تصح السيادة للعلم وما يقرره، لا يكون من حقنا أن نجعله نهبًا للمناقشة واختلاف الآراء، فإذا كان العلم قد خطا خطواته الفسيحة في حل كثير من مشكلات البرد والظلام والجوع والأوبئة والمسافات، فكيف لا نستمع إلى قراراته التي يقضي بها في كل علاقة اجتماعية من تربية إلى سياسة واقتصاد؟ لماذا نترك هذه الجوانب الحيوية الخطيرة رهينة «آراء» تدور بها موائد اللجان، ثم يكون الحكم الحاسم فيها لعدد الأصوات؟ هل تؤخذ الأصوات بعد المناقشات حول معادلات رياضية وتفاعلات كيماوية؟ هل تؤخذ الأصوات بعد مناقشات في الطرق التي يتم بها نقاء ماء الشرب والتطعيم ضد الأمراض؟ إنما تكون الأصوات ضرورة ديمقراطية عند تحديد الرغبات وتعيين الأهداف، أما كيف تتحقق الرغبة والوصول إلى الهدف، فأمر ذلك للباحثين والعلماء.
ها هنا يكمن مفتاح الرؤية الواضحة، وأعني به التفرقة بين «الرغبة العامة» من جهة، و«سلطة العلم» في تحقيق تلك الرغبة من جهة أخرى، فقد تكون الأحزاب السياسية الثلاثة مختلفة في «رغباتها» — في مبادئها وأهدافها — لكنها محال أن تختلف على أن يكون للعلم سلطة التنفيذ، فإذا ما وجدنا هذا الجانب التنفيذي موضع نقاش ورأي، أدركنا أن الميزان قد اختلت كِفَّتاه، بحيث رجحت إحداهما بغير حق، وشالت الأخرى بلا مبرر.
افرض — مثلًا — أن المسألة المطروحة للنظر هي: التعليم الجامعي، لمن يكون وكيف يكون؟ فهنا قد تختلف الأحزاب في «رغباتها»، فيكون «الرأي» عند أحد الأحزاب أن التعليم الجامعي مفتوح للجميع، لكنه عند حزب آخر أن ذلك التعليم الجامعي لا يكون إلا لنسبة معينة، إلى هنا يكون الأمر أمر «رأي»، أي إنه مرهون بمبدأ معين أو هدف معين، وكذلك يكون الأمر في هذه الحالة متوقفًا على التصويت بين ممثلي الشعب، لنرى ماذا يريد الجمهور على ألسنة نوابه، وإلى هنا أيضًا تنتهي مهمة الأحزاب السياسية، ليوكل الشأن إلى خبراء التنفيذ بالأسلوب العلمي، وواضح أن هؤلاء الخبراء أثناء استخدامهم لأساليبهم الفنية والعلمية، لا هم ينتمون إلى يمين ولا إلى يسار ولا إلى وسط، إذ لا معنى للحزبية عند التطبيق.
لكن هذه القسمة بين ما هو «سياسي» وما هو «تنفيذ على أساس علمي» — أقول إن هذه القسمة على وضوحها الشديد فيما أرى — يختلط حابلها بنابلها لا أقول عندنا فقد، بل في كثير من أقطار العالم، ويتفاوت الأمر في هذا بتفاوت البعد أو القرب من العقلية العلمية، فهم كثيرون جدًّا أولئك الذين لا يطيقون أن توكل شئون حياتهم إلى أسلوب العلم في البحث والتنفيذ، ويفضلون في تلك الشئون أسلوب السحر في قضاء الحاجات، وما أسلوب السحر؟ هو أن تلتمس الأشياء بغير أسبابها الطبيعية، فإذا كان صميم التعليم الجامعي — مثلًا — مكتبات للبحوث ومعامل للتجارب، جعلوه هم مجالس ومذكرات.
إنه على الرغم من الفرق الواسع في وجهات النظر، أعني في المبادئ والأهداف، أو بكلمة أوضح، في الرغبات بين القوتين العظميين في عصرنا، فكلاهما يلجأ إلى العلم الصارم والتقنية (التكنولوجيا) المتطورة في التنفيذ، فقد تكون الأهداف مختلفة في غزو الفضاء، لكن الوسائل لا تترك في أيدي أصحاب الأهداف، بل توكل إلى رجال العلم، وفي هؤلاء الرجال لا تكاد تدرك فارقًا بين شرق وغرب، ومن هنا نشأت فكرة تراها متواترة على أقلام المفكرين بأن تكون العمليات التنفيذية كلها، وفي شتى الميادين — وهذا معناه «الحكومة» — في أيدي علماء فنيين؛ لأنه لا دخل للسياسة في ذلك، هذا على فرض أن الفكر السياسي نفسه لا يزال يتعلق بالرأي والرغبة، ولم يتحول بعد إلى بحوث علمية فيها كل الدقة التي يتطلبها منهج التفكير العلمي، وليس تحويل أداة الحكم إلى جامعة العلماء الفنيين (التكنوقراط) بالفكرة الجديدة، بل تراها هي المحور الذي أقام عليه فرانسس بيكون (في القرن السادس عشر) مدينته الفضلى التي أسماها «أطلنطس الجديدة»، بل ولماذا لا نرد جذور الفكرة إلى أفلاطون، حين أراد أن يكون الحكم للفلاسفة؟
لقد كان يقال عن النظام الاشتراكي في الحكم إنه مذهبية بغير تقنيات (تكنولوجيا)، وعن النظام الرأسمالي إنه تقنيات بغير مذهبية، لكن هذا القول، حتى إن صدق في فترة مضت، فهو لا يصدق الآن؛ لأن النظامين معًا قد التقيا اليوم على إطلاق العلوم والتقنيات تفعل فعلها في كل الميادين بقدر المستطاع، فإذا اختلفا بعد ذلك في شيء، فهو أن أحدهما مذهبي النظر، والآخر مطلق من قيود المذاهب، بل إن آخر ما قيل في هذا الباب هو أن مذهبية هذا العصر هي نفسها العلوم وتقنياتها، وإني لأومن بصدق هذا النظر.
ماذا عند الأحزاب السياسية ما تقوله إلا أن يكون ذلك ما يستطيعه العلم في شتى الميادين؟ إنها لو قالت أقل من ذلك قصرت، وإذا قالت أكثر من ذلك شطحت في أحلام، فلئن كانت الأحزاب من يمين ويسار ووسط تريد أن يكون لها مبادئها الخاصة وأهدافها الخاصة، على أن تركن إلى العلم وتقنياته في التنفيذ، فإني أوثر أن يضاف إلى المذاهب الثلاثة مذهب رابع، يجعل العلم وتقنياته مبدأً وهدفًا ووسيلة؛ لأن كل ما يبقى بعد أن تستنفد قدراتك في مجال العلوم والتقنية، كلام إذا صيغ في لغة الناس الدارجة كان دردشة، وإذا أحكمت صياغته كان أدبًا، وفي كلتا الحالتين لا تنقص السياسة ولا تزيد.
ولو انقلبت السياسة، فأصبحت نشاطًا علميًّا خالصًا بكل منهجية العلم ودقته، لتغيرت أفكار كثيرة، فما قد كان يسمى بصراع الطبقات، يختفي ليحل محله تفاوت بين جوانب الحياة، فمنها ما تقدم في طريق العلم، ومنها ما تخلف، قارن مثلًا بين التقدم العلمي في أجهزة الجيش ومعداته، وفي مصانع الحديد والصلب والكيماويات وغير ذلك، قارنه بالتخلف العلمي في مجالات النقل والصحة والتعليم، فلا صراع بين الطبقات في هذا التفاوت بين تقدم جانب وتخلف جانب آخر، إنما هو علم هناك وقلة علم هنا، ومن الأفكار التي تتغير أيضًا إذا ما وجدنا المذهب السياسي والتقدم العلمي، فكرة العمل «الكادح»، وما قد يترتب عليها من القول باستغلال الكادحين؛ لأن ذلك لا يكون إلا والعمل يدوي بدائي، أما إذا أمسكت التقنيات العلمية بالزمام فلا كدح هناك ولا استغلال، إذ يصبح «فائض القيمة» نتيجة للتقدم العلمي لا نتيجة لكدح العاملين.
على أن ذلك استطراد قد يدخلني فيما لم أقصد إلى الدخول فيه، فما أردت أن أقوله هو أن المذاهب السياسية في عصرنا قد أخرجت جانب التخطيط والتنفيذ من مجال السياسة ليتولاه الفنيون والباحثون، مما يدعوني إلى القول متسائلًا: ترى أتكون المذاهب السياسية شيئًا غير العلم وتقنياته؟ فإذا كانت شيئًا أكثر من ذلك، فلا أقل من أن نجعل العلم وتقنياته مذهبًا رابعًا.