من زاوية منطقية
لم يألف المشتغلون بالأدب وبالنقد الأدبي أن تعالج موضوعاتهم على أساس منطقي نظري بالمعنى الذي يعرفه دارسو الفلسفة من هذه الصفة، وإنه لمن سوء الحظ — ولست أدري أي الجانبين هو صاحب الحظ السيئ في ذلك — أقول إنه لمن سوء الحظ أن تظل الفجوة قائمة بين مجال الفكر من ناحية، ومجال النشاط العلمي والأدبي من ناحية أخرى إلى الحد الذي يجعل دارس الفلسفة إذا أراد استغلال معرفته وخبرته الخاصة في إلقاء الأضواء على مشكلة في دنيا الخلق الأدبي، أو في دنيا البحث العلمي اضطر إلى أن يضيف إلى جرعة الدواء كثيرًا جدًّا من الماء لكي تستساغ عند الشراب، حتى ولو كان ذلك يفسد مفعول الدواء بعض الشيء، على أن الخسارة الحقيقية التي نتكبدها نتيجة لعملية التمويه هذه — أي عملية إضافة الماء إلى الشيء بتضييع معالمه — تجيء على إحدى صورتين إحداهما قد يجد المثقفون من غير دارسي الفلسفة أنه ما دامت المعاني الفلسفية بهذه البساطة التي يرونها على صفحات المجلات، وفي أعمدة الصحف اليومية، فلماذا لا يكون من حق كل مثقف أن يشارك بالرأي، حتى ولو لم يتلق من دروس الفلسفة في المعاهد والجامعات درسًا واحدًا، وما أكثر ما رأينا في حياتنا الثقافية في مصر رجالًا لم يكن لهم أدنى صلة بالمجال الفلسفي بمعناه الأكاديمي، ومع ذلك فقد زعموا لأنفسهم كامل الحق في التحدث عن مشكلات ذلك المجال وتياراته ومدارسه، بل قد زعم بعضهم لنفسه موضع القيادة فيه، وأما الصورة الأخرى للخسارة التي نعانيها من قيام الفجوة بين الفلسفة من جهة، والأدب والعلم من جهة أخرى، فهي أن أصحاب هذين المجالين يغلب عليهم الظن بأن الفلاسفة جماعة تقيم في أبراج مغلقة الأبواب والنوافذ، يكلم بعضهم بعضًا فيما لا دخل له في شئون الأدب والعلم، بل يكلم بعضهم بعضًا بما ليس له معنًى مفهوم.
ولا أريد أن أقصر التبعة في هذا التفكك الثقافي في حياتنا على رجال الأدب والعلم وحدهم، بل إن شيئًا من التبعة واقع بلا شك على عواتق أصحاب الدراسة الفلسفية عندنا، إذ إن شيطانًا خبيثًا قد أوهم طائفة منهم بأنهم لن يعدوا فلاسفة إلا إذا لووا العبارة، وأغمضوا المعنى، وكذلك لن يعدوا فلاسفة إلا إذا باعدوا بين دراستهم الأكاديمية وبين سائر فروع الحياة الفكرية التي يحياها المثقفون، حتى خيلوا للناس بأنهم يعيشون من فلسفتهم في عالم آخر.
وإنني لأعلم — مثلًا — أن الدارسين للفلسفة في جامعاتنا مختلفون في وجهة النظر التي يصطنعونها لأنفسهم، فبعضهم يأخذ مخلصًا بما يسمى بالنظرة «المثالية» في الفلسفة، وآخرون — وكاتب هذه السطور واحد من هؤلاء — يعتقدون مخلصين في نظرة أخرى يسمونها بالمذهب «التجريبي»، لكننا لا نجد انعكاسًا لاختلافهم ذاك في حياتنا الفكرية الخارجة عن مجال تخصصاتهم الجامعة، فهل أراد «المثاليون» و«التجريبيون» أن يقفوا من اختلافهم ذاك عند حدود المجال الفلسفي وحده؟ فإن كان الأمر كذلك، فالحق أنهم عندئذٍ يفقدون مكانهم من الحياة الثقافية العامة، ولا يكون لهم في هذه الحالة دور يؤدونه للناس.
وإنني لممن يحاولون أن يجاوزوا ميدان التخصص النظري إلى مجال التطبيق العملي، فأنا «تجريبي» من حيث الانتماء المذهبي في الفلسفة، لكنني لا أوصد على تلك النظرة التجريبية الأبواب، بل أخرج بها إلى المشكلات العملية المطروحة على الملأ، ومن أحدث هذه المشكلات، مشكلة نشأت منذ قريب عن الأدب العربي المعاصر، أهو عالمي أم هو محلي محدود بحدودنا الجغرافية؟ ولقد طالعت في الصحف ما قاله أنصار الدفاع، وتاه القراء في متاهة القول من هنا ونقيضه من هناك، فالقائلون بعالمية الأدب العربي يستمدون الحجة من قيمة رفيعة يرونها في إنتاجنا القصصي والمسرحي، كما يستمدونها كذلك من ترجمات لهذا الإنتاج إلى لغات كثيرة في أقطار العالم، وأما المنكرون على الأدب العربي عالميته، فيقولون — أولًا — إن أدبنا العربي يفقد القيمة الأساسية التي تجعل الأدب عالميًّا، وهي أن يعنى بالإنسان من حيث هو إنسان لا يحدده مكان ولا زمان، حتى ولو لجأ لبلوغ هذه الغاية بوسائل محلية، على شرط أن يكون لهذه الوسائل المحلية دلالاتها التي تجاوز حدودها إلى ما هو أوسع وأشمل، وثانيًا أن الحجة القائلة بأنه لو لم يكن أدبنا العربي عالميًّا، لما رأيناه مترجمًا إلى اللغات الأخرى، يفوت أصحابها أن الذين تصدوا لهذه الترجمات إنما أرادوا بها الحصول على شيء يتسم بالغرابة، لا على شيء يتميز بالجودة.
قرأت ذلك كله، فوجدتني أنظر إلى الأمر من زاوية منطقية مؤسسة على المذهب التجريبي الذي أنتمي إليه، وإذا بالموقف يبدو أمام عيني أوضح جدًّا مما ظن به المتجادلون، وهذا الوضوح قد أظهر لي بأن أدبنا الذي يدور حوله النزاع ليس له من العالمية إلا درجة ضئيلة لا تستحق أن يذكرها الذاكرون.
إن مكمن الخطأ عند المتجادلين جميعًا — كما رأيته من الزاوية المنطقية التي نظرت منها — هو ظنهم بأن «العالمية» أو «المحلية» صفة تلصق بالشيء كما يلتصق اللون الأصفر — مثلًا — بالأشياء الصفراء، أو كما تلتصق صفة الحلاوة بالعسل، ومن هنا أخذ أحد الفريقين المتجادلين يتذوق بلسانه إنتاجنا الأدبي، فيقول عنه أن به مرارة لا تقبلها أذواق الناس في أقطار العالم الأخرى، وأخذ الفريق الثاني يتذوق بدوره إنتاجنا الأدبي ليقول معترضًا: بل إن به حلاوة، أين منها حلاوة العسل، لولا تعصب قد أعمى عيون الناس خارج بلادنا، فلم يبصروا الشهد في منابعه.
نعم، إن مكمن الخطأ عند الفريقين هو بحثهم عن صفة المحلية أو العالمية في المكونات الداخلية من إنتاجنا الأدبي ليحكموا له أو عليه، كأنما السؤال المطروح هو: ما مدى جودة الأدب العربي المعاصر؟ مع أن السؤال الذي طرحوه أمام أنفسهم بادئ الأمر هو: أيكون هذا الأدب عالميًّا أم لا يكون؟ وليس هذان السؤالان شيئًا واحدًا قيل بعبارتين مختلفتين، بل هما شيئان يختلف أحدهما عن الآخر، فأحدهما يسأل عن «الجودة» الفنية، والآخر يسأل عن «الشيوع» في أرجاء العالم.
عالمية الأدب العربي المعاصر، إنما يبحث عنها على أرض الواقع الفعلي، ولا يبحث عنها في ثنايا المجادلات، فالكتاب المعين يكون عالميًّا إذا كان معروضًا في مكتبات العالم المختلفة، ومباعًا ومقروءًا، ثم ما هو أهم من ذلك إذا كان موضوعًا لاهتمام النقاد فرباعيات الخيام، وحكايات ألف ليلة وليلة «من الأدب العربي القديم» عالمية؛ لأنها معروضة ومباعة ومقروءة في أرجاء العالم، ثم لأنها اجتذبت اهتمام النقاد في دنيا الفن الأدبي، وأدب جبران خليل جبران «من الأدب العربي الحديث» عالمي؛ لأنه معروض ومباع ومقروء، وكذلك لأنه مما يتناوله نقاد الأدب بالتقدير أو بعدم التقدير، فذلك ليس هو المهم؛ لأن التقدير وعدم التقدير كليهما يحملان مغزًى واحدًا، وهو أن الأدب المعين قد دخل في دائرة النقد، أي إنه قد دخل في مجال الاهتمام العام.
فالأمر الواقع الذي لا جدال فيه، هو أن النقد الأدبي في اللغات الكبرى — الإنجليزية والفرنسية والألمانية والأسبانية — (ومعيار «الكبر» هنا هو اتساع الرقعة التي تكون فيها اللغة متداولة ومدروسة ومفهومة) أقول إن النقد الأدبي في اللغات الكبرى لا يكاد يلقي نظرة على إنتاجنا الأدبي، إلا بمقدار محدود لا يستحق الذكر، نعم إن كثيرًا من أعمال أدبائنا قد وجد من يترجمه إلى لغات أخرى، ولكن ذلك قد حدث — في حالات كثيرة — لا ليكون مادة مقروءة تطرح في الأسواق العامة للقارئين كافة، بل ليكون مادة للدراسة في الأقسام الجامعية أو غير الجامعية المتخصصة، ولقد أتيح لي أن أرى عددًا لا بأس به من الكتب المترجمة في صورتها التي نقلت إليها، وإذا بها مطبوعة على نحو يدل دلالة قوية على أنها موجهة إلى رفوف المكتبات بالجامعات لتكون تحت أبصار الدارسين.
فأمر العالمية بالنسبة إلى أدبنا مقطوع فيه بالنفي، وذلك على أساس عملي تجريبي صرف، ولا دخل لقيمة ذلك الأدب أو عدم قيمته في الموضوع، فلو كان كتاب معين رديئًا غاية الرداءة في رأينا نحن، ثم وجدناه مترجمًا ومعروضًا وشائعًا وموضوعًا لاهتمام النقاد هناك، لقلنا عنه أنه «عالمي» برغم رداءته، والعكس صحيح أيضًا، أي إنه لو كان ثمة كتاب أنتجناه، وأجمع رأينا على جودته البالغة في فنه الأدبي، لكنه — لأمر ما — لا هو مترجم ولا مباع ولا مقروء ولا منقود، لقلنا عنه أنه «محلي» لم يظفر بالعالمية برغم جودته، وهكذا ترى أن العالمية والجودة صفتان لا تتلازمان دائمًا، فمن العالمي ما هو رديء، ومن الجيد ما هو محروم من العالمية وشيوعها، ومن هنا كان حكمي الذي أسلفته، وهو أن كلا الفريقين المتجادلين عندنا عن إنتاجنا الأدبي: أهو عالمي أم محلي؟ قد أخطأ السبيل؛ لأن نظرة الفريقين مركزة على المقومات الداخلية في ذلك الإنتاج، وهل هي مما «يستحق» أو لا يستحق، على حين أن «الاستحقاق» خارج عن الموضوع.
ولا بأس هنا من العودة بالقارئ إلى الاتجاهين المتعارضين في مجال الدراسة الفلسفية، وهما اتجاه «المثالية»، واتجاه «التجريبية» اللذان أشرت إليهما فيما سبق، ليرى القارئ كيف استندت على ما قدمته في عالمية أدبنا أو عدم عالميته، إلى المذهب التجريبي في النظر، فالمثاليون في الفلسفة يعتقدون بأن الحكم على المسائل المطروحة إنما يجيء من التصور العقلي عند الإنسان، بغض النظر عن دنيا الواقع التي نعيش على أرضها وتحت سمائها، إذ إن تلك المسائل المطروحة مهما اختلفت مضموناتها، فهي — عند المثاليين — كمسائل الرياضة نحكم عليها بالصواب أو بالخطأ دون الرجوع إلى عالم الأشياء الفعلية، وأما التجريبيون فيرون أن أحكامنا لا تصيب أو تخطئ إلا على أساس ما هو واقعٌ بالفعل، وأحسب أنه لو طرحت مشكلة العالمية والمحلية على من يميل بطبعه إلى النظرة المثالية «كما يفهم هذا اللفظ في مجال الفلسفة» لحكموا على الأمر من محض عقولهم، كما فعل المتجادلون من الفريقين اللذين تناولا بالنقاش موضوع العالمية والمحلية منذ قريب، كأنما هم بحكم نشأتهم الثقافية قد أخذوا بمعيار الفلسفة المثالية وهم لا يشعرون.
لكنني طرحت المشكلة نفسها على المعيار «التجريبي» فكان أن جعلت الحكم مرهونًا بما نراه حادثًا بالفعل في أنحاء العالم، فإذا وجدنا أدبنا يشد انتباه القارئين هناك، وانتباه النقاد «وهذا أهم»، ففي هذه الحالة يكون أدبًا عالميًّا — جيدًا كان أو رديئًا — أما إذا وجدناه وكأنه بغير وجود عند القارئين والنقاد على السواء، فهو ليس أدبًا عالميًّا جيدًا كان أو رديئًا.
وسؤالنا عن الإنتاج الأدبي العربي أهو عالمي أم هو محلي، لا يختلف في شيء عن السؤال نفسه نلقيه عن أية سلعة تنتجها مصانعنا: هل السجائر المصرية عالمية أو محلية؟ هل السجاد المصري عالمي أو محلي؟ هل الأثاث المصري عالمي أو محلي؟ إنه في جميع هذه الحالات وأمثالها يكون الجواب هو الجواب: إنتاجنا عالمي بمقدار ما هو معروض بالفعل، مباع بالفعل، يقبل عليه الناس هناك بالفعل، ولا دخل في الأمر لجودة أو رداءة.
وقد يبقى أمامنا آخر الأمر سؤالٌ مهم، هو: كيف السبيل إلى أن نجعل من إنتاجنا الأدبي سلعة عالمية، بمعنى أن يكون ذلك الإنتاج معروضًا ومباعًا ومقروءًا ومنقودًا في بقاع الأرض، والمتقدمة منها على وجه الخصوص؟ وجواب ذلك عندي هو: أن السبيل إلى ذلك هو نفسه السبيل إلى انتشار بضاعتنا من قطن وبصل ومصنوعات الجلد والخشب، فهي كلها محتاجة إلى سماسرة يعرضونها في الأسواق، والسماسرة في دنيا الأدب هم من يضطلعون بترجمة الإنتاج الأدبي في بلد إلى اللغة التي يقرأ بها في بلد آخر، والوقوع على هؤلاء المترجمين واستثارة اهتمامهم، قد يكون نتيجة اتصالات شخصية محضة، ولقد كان كاتب هذه السطور سببًا مباشرًا ذات يوم، في أن يتولى أديب إنجليزي ترجمة إحدى القصص من أدبنا العربي المعاصر، ثم أراد لها الحظ الموفق أن تنتقل من الإنجليزية إلى سواها من اللغات الأوروبية على أن الترجمة وحدها لا تكفي، فكما قلت ما لم يدخل أدبنا المترجم عالم النقد الأدبي هناك، فلن يتحول من المحلية إلى العالمية بمعنى التحول الصحيح، وإني لأقولها مرة أخيرة، أنه سواء انتقل أدبنا إلى العالم أو لم ينتقل، فليست جودته الذاتية هي العامل الحاسم.