هذه اللفظة المسحورة
وأعني باللفظة المسحورة هنا كلمة «تكنولوجيا»، التي كثيرًا ما يستخدمها الكاتبون ليلخصوا بها أهم خصائص هذا العصر الذي كُتب علينا أن نعيش فيه، وإن أخشى ما أخشاه هو أن يكون كل نصيبنا من عصرنا مقصورًا على الوقوف عند هذه اللفظة بحروفها ومقاطعها، وأما العصر نفسه فموصدة أبوابه دون دخولنا فيه لندب على أرضه، ونغوص في مائه، ونشق سماءه، فكلمة تكنولوجيا دائرة على ألسنتنا وأقلامنا بمثل ما هي دائرة على الألسنة والأقلام في أكثر البلاد تقدمًا وصناعة، بل كدت أقول إنها دائرة عندنا أكثر مما هي دائرة هناك، فلست أظن أن تكرار هذه الكلمة في صحفنا وكتبنا وأحاديثنا، يقل عددًا عنه في صحفهم وكتبهم وأحاديثهم، إنهم هناك مشغولون بالعصر نفسه، يعيشونه ويصنعونه، أقول إنهم مشغولون بذلك عن الكلمة يرددونها ويناقشونها، ولست أقول ذلك استهانةً بهذه اللفظة الغزيرة الدلالة، جريًا مع شكسبير حين قال: وماذا في اسم؟ إنه مهما يكن الاسم الذي تطلقه على الوردة، فلن يقلل ذلك من أريجها ولن يزيد، لا لن أستهين هنا بالاسم استهانة شكسبير بالأسماء؛ لأنني أعتقد استهانة شكسبير بالأسماء؛ لأنني أعتقد بأن أنواع اللفظ التي تشيع بين الناس في عصر من العصور، لها الأثر العميق على توجيه التفكير في ذلك العصر، كما أن لها كذلك الدلالة القوية على طبيعة ذلك التفكير، فمثلًا: إذا وجدنا في علم الطبيعة كما عرفه الناس في العصر اليوناني القديم، وفي العصر الوسيط (الذي يشمل الحضارة العربية) عبارة «العناصر الأربعة» تتردد بكثرة (وتلك العناصر كانت التراب والماء والهواء والنار)، ثم إذا رأينا كلمة «تكنولوجيا» تتردد في علوم الطبيعة المعاصرة، لم يكن من حقنا أن نغض النظر عن شيوع هذه الألفاظ في عصورها؛ لأن شيوعها دال أقوى دلالة على طريقة التصور الذي كان علماء العصر المعين يتصورون به طبيعة الفكر العلمي في زمانهم أو في زماننا.
ولقد أحسن الأستاذ الدكتور حسين فوزي صنعًا، حين وقف وقفة شارحة لكلمة «تكنولوجيا» في مقالته بالأهرام الصادرة يوم السبت الثامن من هذا الشهر يناير (١٩٧٧م)، ولا موضع هنا لغرابة، فالأستاذ الدكتور حسين فوزي في حياتنا الثقافية رائد حضاري لا ينثني عن الهدف مقدار شعرة؛ لأن مؤمن بالقيم الحضارية إيمانًا تفرد به دون سائر معاصريه جميعًا، فهو إيمان لم يعرف التردد والخوف مدى فترة زادت عن نصف قرن، إنه ظاهرة فريدة في حياتنا الثقافية؛ لأن إيمانه هذا بحضارة العصر، يسايره تشعب في اهتماماته تشعبًا نال مجالات العلوم والفنون على اختلافها، مما جعله — وهو يتحدث في أي مجال معين من حياة العصر — يتحدث وكأنه في داره التي يألف غرفها وأبهاءها وأثاثها.
ولقد كتب الدكتور حسين فوزي ما كتبه في توضيح ما نعنيه بكلمة «تكنولوجيا» مستندًا قبل كل شيء إلى ما تقوله عنها الموسوعات والقواميس، ثم وقع بعد ذلك على رسالة علمية للدكتور حسني عباس، عن طريق انتقال الدوال النامية إلى عصر التكنولوجيا، فوجد في ذلك الرسالة ما يصفه الدكتور حسين فوزي بأنه «أصدق وأدق تعبير لما ورد في خاطره الغاضب منذ سنوات طويلة»، لعل هذا «الخاطر الغاضب» الذي يشير إليه، هو الذي دفعه إلى أن يجعل عنوانه مقالته «تكنولوجيا تكنولوجيا»؛ لأن تكراره للكلمة يوحي بالقرف والضيق، لكثرة ما رأى الناس يلوكون هذه اللفظة عن فهم صحيح مرة، وعن عدم فهم ألف مرة.
ولكنني بعد قراءة المقال، أحسست بأنني قد أكون ذا نفع ضئيل في توضيح الفكرة، يضاف إلى النفع الكثير الذي لا بد أن يكون القارئ قد أفاده من المقال المذكور، فالنقطة التي أراها جوهرية في فهم معنى «التكنولوجيا» على حقيقته، كانت تظهر وتختفي خلال سطور المقال، دون أن تقف مرة أمام بصر القارئ عاريةً ليراها واضحةً غير ملتفة بسواها.
بدأ الدكتور حسين فوزي حديثه بما ينبغي أن يبدأ به من أراد أن يرتد بالفكرة إلى أصولها، وهو تحليل كلمة «تكنولوجيا» إلى المقطعين اللذين تتألف منهما، فقال — راجعًا إلى قاموس لاروس الكبير: «الأصل الإغريقي «تخني» = صنعة، و«لوجوس» = كلام»، وإذن فالمقصود هو «علمٌ متعلق بالفنون والصناعات بعامة …» وأود أن أضيف من عندي، قبل أن أستطرد في الحديث، بأن «لوجوس» التي نلحقها بأسماء علوم كثيرة: جيولوجيا، سيكولوجيا، بيولوجيا إلخ، ليست مجرد «كلام»، بل تعني الكلام — أي الأفكار — المصنفة المرتبة المحددة المعاني، التي يتصل بعضها ببعض اتصالًا ينتج لنا بناء مترابط الأطراف من أساسه الأدنى إلى سقفه الأعلى.
فإذا كانت «لوجيا» التي تنتهي بها كلمة «تكنولوجيا» تعني «علم»، فإن هذا الجانب من معنى الكلمة هو الذي إذا وقفنا عنده وقفة أطول، ازددنا فهمًا لما هو مقصود بالتكنولوجيا، فالإنسان منذ خلقه الله إنسانًا، قد استخدم الآلات في صناعته، إنه صانع بالآلات منذ نحت الحجر سكينًا يقطع بها صيده، أو يقاتل بها أعداءه، وإذا كانت أدوات الصنعة ممتدة في القدم إلى هذا البعد السحيق، فلماذا — إذن — ميزنا عصرنا نحن بأنه هو عصر التكنولوجيا؟ ما الذي أضافه عصرنا إلى الإنسان الصانع وأدواته التي يصنع بها، لكي يتميز وحده دون سوابقه؟
الجواب عن هذا ينبثق من مقطع «لوجيا» الذي لحق بالجزء الأول من كلمة تكنولوجيا؛ لأنه إذا كان الإنسان في كل عصوره قد استخدم «التكني» — أي أدوات الصنع — فهو في هذا العصر الحاضر دون سواه، قد جعل من هذه الأدوات الصانعة «علمًا» قائمًا بذاته، كيف؟
إن «علم التقنية» — أي التكنولوجيا — بأدق معانيه، لا هو الفكرة العلمية وهي في رأس صاحبها، ولا هو الآلة المصنوعة التي نتجت بناءً على تلك الفكرة، إنما هو «طريق السير» بين الطرفين، هو طريق السير بين الفكرة من داخل والآلة المصنوعة المتجسدة في الخارج، فإذا كان في رأس العالم صيغة رياضية معينة لقانون من قوانين الطبيعة، فليس هناك تكنولوجيا، وكذلك ليست التكنولوجيا هي السيارة أو الثلاجة أو الطائرة أو آلات النسيج في المصنع؛ لأن هذه أشياء نتجت عن «علم التقنية».
التكنولوجيا منهج في التفكير العلمي، فلا هي الفرض العلمي الذي ينتظر التحقيق، ولا هي تطبيق ذلك الفرض في دنيا الأشياء، لكنها هي «المنهج» الذي أفكر على أساسه في كيفية إخراج الفرض النظري إلى دنيا التطبيق، ولذلك فليس من الدقة أن نقول عن التكنولوجيا أنها مساوية في معناها ﻟ «العلم التطبيقي»؛ لأن هذا العلم التطبيقي قد شهدته كل العصور، وأعود إلى رجل العصر الحجري، وهو يقد سكينه من الحجر، فإنه كان بمثابة من يطبق فكرة دارت في رأسه تطبيقًا عمليًّا، وبناة الأهرامات كانوا يمارسون في عملهم علمًا تطبيقيًّا، وهكذا قل في كل صناعة قام بها إنسان فيما مضى؛ لأنه ما من صناعة إلا وهي بمثابة التطبيق لفكرة نظرية سبقتها.
أما التكنولوجيا فهي «منهج» علمي جديد، قوامه إعداد الأجهزة التي يمكن بها نقل العلم النظري إلى التطبيق العلمي وهو منهج جديد؛ لأن العلماء قبل ذلك لم يكونوا يلجئون إلى أجهزة يصممونها ويصنعونها لكي يستخدموها في تلك النقلة من النظر إلى التطبيق، وحتى لو حدث أن لجأ العلماء فيما مضى إلى أجهزة تؤدي ما يراد لها الآن أن تؤديه، فقد كانت من البساطة، بل من السذاجة، بحيث لا يجوز ذكرها في هذا المجال من الحديث.
إنه قد يخيل إليك أن «المنهج العلمي» هو المنهج العلمي، لا يتغير بتغير العصور، لكن ليس ذلك هو الصواب، فقد كان المنهج العلمي قديمًا ووسيطًا منهجًا يستنبط كلامًا من كلام، فلما أن نهضت أوروبا بالعلم الطبيعي في صورته التي استحدثت يومئذٍ على أيدي جاليليو ونيوتن، اصطنع العلماء منهجًا آخر، يدور أساسًا على ربط المسببات بأسبابها في ظواهر الطبيعة، ولبث الأمر كذلك إلى القرن التاسع عشر، فتغير المنهج بصورة جوهرية، حيث أصبح هو ما نسميه التكنولوجيا، أي استخدام الأجهزة في استخراج أفضل النتائج، إنه ليس صوابًا كل الصواب أن نربط بواو العطف «العلم» و«التكنولوجيا»؛ لأن ذلك يجعل العلم في ناجية، ومنهجه في ناحية أخرى، والأصوب أن يقال العلم التكنولوجي؛ لأن العلم مدمج في طريقته.
لو كنا سئلنا في عصر قديم أو وسيط، بل لو كنا سئلنا في الشطر الأول من العصر الحديث نفسه (وأعني به القرنين السابع عشر والثامن عشر) ماذا نعني بالتقدم العلمي؟ لكان جوابنا عندئذٍ ليكون: هو زيادة حصيلة الإنسان من المعرفة العلمية، ولكننا لو سئلنا اليوم: ماذا نعني بتقدم العلم؟ لكان الجواب هو: معنى التقدم العلمي هو ازدياد الدقة في الأجهزة المستخدمة في البحث، أي إن التقدم العلمي ليس هو أن أعرف الحقيقة علمية بعد أن كنت أعرف مائة منها فقط، وإنما هو أن أصمم للمشكلات المدروسة أجهزة تصل بها إلى الحلول الصحيحة، ثم أظل أزيد من دقة تلك الأجهزة كلما تقدمت؛ لأنه بمقدار ما نقول إننا نتقدم كلما دقت أجهزة البحث، نقول كذلك أن أجهزة البحث تزداد دقة كلما تقدمنا.
ولست أعني بالطبع أننا نتقدم في العلم كلما كثر المخزون عندي من أجهزة البحث، بل الذي أعنيه هو استخدام هذه الأجهزة في استخراج ما هو كامن في الطبيعة من أسرار وكنوز، مع ملاحظة هامة جدًّا أضيفها، وهي أنني إذا اقتصر دوري على شراء الأجهزة من غيري لأقوم باستخدامها، فلست أنا في هذه الحالة هو الذي تقدمت العلوم على يديه، بل الذي تقدمت العلوم على يديه هو الذي صمم الأجهزة على ضوء ما عرض له من مشكلات.
التكنولوجيا «منهج» وليست أشياء مجسدة نضعها في المصانع أو في البيوت، لكن معناها هذا الأصيل قد ازدوج ليكون للكلمة معنى آخر في الاستعمال الجاري، إذا أصبح الناس يشيرون بكلمة تكنولوجيا — أيضًا — إلى المصنوعات نفسها، كالتليفزيون والقاطرة والدبابة إلخ، وعلى أساس هذا المعنى الإضافي للكلمة، أمكن أن يقول قائل عبارة مثل: «نقل التكنولوجيا إلى الدول النامية»، قاصدًا بذلك نقل أسلحة القتال وآلات المصانع وأجهزة الخدمات المنزلية والمواصلات وغيرها.
وليست المشكلة كما ورد في مقال الدكتور حسين فوزي، نقلًا عن تقرير الأمين العام للأمم المتحدة، فليست المشكلة هي أن نشتري تلك المصنوعات من أسواق أوروبا وأمريكا، ثم ننقلها إلى بلادنا لنستخدمها، بل المشكلة الحقيقية هي «خلق المناخ الملائم لبعث روح الابتكار والاختراع لدى الدول النامية»، أو بعبارة أخرى فإن المشكلة الحقيقية هي تعليم أبناء الدول النامية طريقة استخدام المنهج العلمي الجديد، وهنا أذكر عبارة قالها «وايتهد» في كتابه «العلم والعالم الحديث» الذي أصدره في عشرينيات هذا القرن، إذ قال عن التكنولوجيا أنها منهج للاختراع، و«إن أعظم ما اخترعه العلم هو اختراع طريقة الاختراع»، ولما كانت العصور يتميز بعضها من بعض — لا بمقدار المعرفة المتداولة — بل بمنهج التفكير في كلٍّ منها، كان لنا بحق أن نقول عن عصرنا هذا أنه عصر التكنولوجيا، مفرقين في ذلك بين النتائج التي حصلنا عليها — نظرية أو تطبيقية — وبين «المنهج» الذي استخدمناه في الحصول على تلك النتائج، وذلك المنهج هو ما نسميه بالتكنولوجيا.
وبقيت لنا إشارة سريعة إلى ما ذكره الدكتور حسين فوزي في آخر مقاله عن كليات الآداب والعلوم الإنسانية مدافعًا عنها مشكورًا، وذلك قوله: «هل من يخترع ملحمة، أو دراما، أو صورة، أو لحنًا، أو تمثالًا أقل شأنًا ممن يخترع دراجة، أو زجاجة ترموس، أو موتور احتراق داخلي؟» وإشارتي السريعة هنا هي أن من «يخترع» هذه الأشياء هم الموهوبون في الآداب والفنون، وليسوا هم الدارسين في كليات الآداب والعلوم الإنسانية؛ لأن هؤلاء الدارسين مطالبون بأن يكونوا من «العلماء» موضوعًا ومنهجًا.