طاقية الإخفاء
هل أنسى ذلك الصباح الجميل من عهد الصبا، حين اجتمع ثلاثتنا في ركن ظليل من الريف، وكنَّا في إجازة الصيف، وحمل أحدنا تحت ذراعه كتاب «ألف ليلة وليلة»، نعتزم أن نملأ ساعات الصبح ومعها ساعات الضحى، بقراءة ما تيسرت لنا قراءته من ذلك الكتاب؟ والعجب أننا جميعًا ومعنا هذا الكتاب لنستتر به في ذلك الركن الظليل، كنا نحس في بواطن أنفسنا كأنما نحن مقبلون على إثم يريد منا الخفاء، ولست أدري من الذي بث في صدورنا هذا الشعور بالرجس إزاء «ألف ليلة وليلة»، وكأنها ليست درة أدبية ساطعة في تاريخنا الأدبي.
وأظنه كان هو الصباح الذي عرضت لنا فيه — إما في غضون القراءة، وإما خلال الحديث — فكرة طاقية الإخفاء، التي يلبسها اللابس، فإذا هو محجوب عن أعين الناظرين، وإذن ففي مستطاعه أن يفعل ما شاء حيثما شاء وهو بمأمن من الخطر، وأما كيف جمح بي الخيال لحظتها، وما بعد لحظتها لعدة أعوام من عهود الصبا والمراهقة والشباب الباكر، فحدث عن ذلك ما أردت، وأنت على يقين بأن حديثك عنه سيظل دون الحقيقة التي وقعت وتكرر وقوعها مرة ومرة ومئات المرات، ففي كل مرة لم تكد تسرح بي خواطري، حتى ألبسني خيالي طاقية الإخفاء، أتسلل بها إلى كل محظور، وحتى بعد أن أنضجتني الأيام، كانت تكفيني اللمحة العابرة لتذكرني بذلك الخيال الجميل، ومثال ذلك حينما قرأت فيما بعد قصة «الرجل الخفي» من تأليف ﻫ. ﺟ. ولز، لا سيما والفكرة الرئيسية في القصة شبيهة بالصورة التي توحي بها طاقية الإخفاء.
وها أنا ذا اليوم أستعيد الفكرة من ذلك الماضي البعيد، لأضعها في ضوء جديد يجعلها شديدة الصلة بجانب من مناخنا الفكري الذي نعيشه الآن، وذلك إني سأجعل طاقية الإخفاء رمزًا يشير إلى «الحياة الخاصة»، التي يحب كل إنسان أن يسترها وراء الجدران، فإذا كان من حق المجتمع على الأفراد أن يفرض عليهم الرقابة ليسلكوا على نحو ما يريد المجتمع لا على نحو ما يريده الفرد نفسه، فإن هذه الرقابة لا يجوز لها أن تتعدى الجانب العلني المشترك من حياة الإنسان، لتسلط طاغوتها كذلك على الجانب المستتر الخاص، وربما كان من أول الدروس الحضارية التي يتعلمها المسافر منا إلى مراكز الحضارة، قدرة الناس — بحكم تربيتهم — على التفرقة بين ما هو عام وما هو خاص من حياة الإنسان، بحيث يحق للمجتمع أن يتدخل فيما هو عام، لكن الرأي العام هناك لا يثور لشيء ثورته على من يبيح لنفسه أن يتدخل في حياة غيره الخاصة.
إنه لشعور غريب يغمر الإنسان إذا ما اقتحم حياته الخاصة مقتحم، فهو عندئذٍ يشعر كأنما نزعت عنه ثيابه التي تستره، حتى ولو لم يكن في تلك الحياة الخاصة ما يعاب، فأذكر — مثلًا — أني ذات يوم من عام ١٩٦٢م كنت في منزلي مستغرقًا في عمل علمي أعده لمحاضرات الأسبوع التالي، وكنا في يوم خميس، فدق التليفون، وكان محدثي رجلًا لا أعرفه، قدم اسمه ومنصبه إلى سمعي، فهو رئيس القسم الفلاني من إدارة الجامعة، ثم سألني: هل يمكن أن أذهب إلى مكتبه لموضوع هام؟ وترك لي الخيار بين أن أذهب إليه فورًا، أو أن أرجئ ذلك إلى يوم السبت الذي يلي، ولما كنت أسكن قريبًا جدًّا من الجامعة، فضلت الذهاب الفوري.
دخلت على الرجل في مكتبه، ولم يكن هناك أحد سواه، وأوصى الحاجب ألا يأذن لأحد بالدخول، ثم قال لي إنه مكلف بأن يأخذ مني بيانًا بكل ما أملك من مال وأشياء، أما المال فقد أحلته على البنك الذي أودع فيه ليستوثق من المعلومات التفصيلية التي قدمتها له، وأما الأشياء فلم أفهم بوضوح ماذا يراد بها، فقال لي: أريد قطع الأثاث والأجهزة التي لديك، فاستعدت منه الجواب لشدة دهشتي مما سمعت، فأعاد الجواب نفسه بتوكيد في نطق الألفاظ: كم غرفة في المنزل وما محتواها وما هي الأجهزة الكهربائية بالتفصيل، بادئًا من المكواة الكهربائية فصاعدًا إلى الثلاجة والغسالة، مارًّا في طريق الصعود بالمراوح والمصابيح، فذكرت له كل ما أراد، لا أجرؤ حتى على سؤاله: من أنت؟ ومن الذي كلفك بهذه المهمة تؤديها؟ وماذا يمكن أن يكون نفعها لأي مخلوق على ظهر الأرض؟
كظمت غيظي وعدت إلى داري، ولقد ينسى الإنسان كثيرًا جدًّا من حالاته الشعورية التي تعتريه في مواقف الحياة المختلفة، إلا تلك الحالة التي استولت على كياني كله، وأنا في الطريق بين الجامعة والمنزل، فلقد ملأني الشعور بالعري، كنت أتلفت حولي فعلًا، حتى استوثق من أن أحدًا لا ينظر إلى ما تعرى من نفسي، إنه لم يكن هنالك فيما ذكرته للرجل شيء يخجل منه صاحبه، لكنه الشعور الغريب الذي يغمر الإنسان إذا ما اقتحم حياته الخاصة مقتحم.
الحياة الخاصة عند صاحبها حرم له قداسته، ويريد له أن يكون من أعين الناس في خفاء، فلقد يظهر الإنسان أمام الناس جادًّا لا يعرف إلى الابتسامة الخفيفة سبيلًا، وإذا هو في حياته الخاصة مهذار عربيد، فإذا كانت الصفحة الجادة التي يبديها للناس هي من حق المجتمع عليه، فمن واجب المجتمع بعد ذلك ألا يتسلل ولو بطريق غير مباشر إلى ما ينشط به مستورًا وراء الجدران، ما دام هذا الذي ينشط به في الخفاء أمرًا خاصًّا به، ولا يتصل بأحد سواه.
وإنك لتعجب لما ينطوي عليه الإنسان — كل إنسان — من غرائب في حياته الخاصة، وهي غرائب تزيد من دهشتنا كلما كان الإنسان ذا مكانة عالية، كأننا نتوقع من أصحاب المكانات العالية أن تستقيم لهم الصورة في حياتهم العامة، وفي حياتهم الخاصة على حدٍّ سواء، مع أن ذلك نادر الحدوث إذا حدث، ففي قصة لأولدس هكسلي عنوانها «العبقري والآلهة» يروي أن عالمًا من أكبر علماء الفيزياء، ممن ظفروا في ميدان الفيزياء بجائزة نوبل، قد تخرج على يديه عالم شاب، ولقد استضاف العالم الكبير تلميذه هذا ليسكن معه في منزل واحد، وكانت للعالم الكبير زوجة وابنة مراهقة، وكانت الزوجة من ذلك الطراز الوقور المهيب، ومن الزوج العبقري وزوجته الجليلة جاء عنوان القصة «العبقري والآلهة»، ليعكس واقع الزوجين في نفس الشاب العالم.
وحدثت المفاجأة حين استدعيت الزوجة ببرقية تستعجلها لرؤية أمها ساعات احتضارها، وسافرت تاركة زوجها الذي كثيرًا ما تفاجئه أزمة صدرية، فيحتاج معها إلى معين، وفعلًا فاجأته الأزمة في غياب زوجته، وكان لا بد للشاب أن يسرع إلى أستاذه في غرفة نومه ليسعفه، فإذا به يرى إلى جوار الأستاذ العبقري كتابًا مفتوحًا، ويتجه نظره إلى الكتاب ليرى ماذا كان العلامة العظيم يقرأ؟ فإذا الكتاب من أفحش ما ينشر في الأدب المكشوف، وأما الزوجة فلها قصة أخرى أعجب وأغرب، والخلاصة هي أن الشاب الذي كان لا يرى من الزوجين في الحياة العامة إلا عبقريًّا يدعو إلى الإكبار، وآلهة في مظهرها تدعو إلى ما يشبه العبادة، لم يكد تنكشف أمامه حياتهما الخاصة حتى رأى عجبًا، لكن هكذا الإنسان بين المظهر المحسوب عليه، والحياة الداخلية الخاصة التي يجب أن تترك له حرة بلا قيد أو رقابة.
وأسوق مثلًا آخر من حياة الفيلسوف البريطاني المعروف برتراند راسل، فلهذا الرائد العظيم موقع من التاريخ الفكري في عصرنا يوشك ألا يكون له نظير، وهو في موقعه هذا الممتاز، معروف لخاصة الفلاسفة بوجه، ولعامة المثقفين بوجه آخر، وهو بالوجهين معًا يكون طرازًا نادرًا من قادة الفكر الذين يستقطبون عصرهم كله بنظرة واحدة شاملة، أما خاصة الفلاسفة فيعرفون فيه فيلسوف الرياضة والمنطق الرياضي، الذي يبدو وكأنه ذهن خالص وقاد لا تعرف مشاعر القلوب إليه سبيلا، وأما عامة المثقفين فيعرفون فيه داعية من دعاة الحرية السياسية، حتى لقد سجن في سبيل دعوته هذه مرتين.
لكن اقلب هذه الصفحة المشرقة في حياته العامة، تتفتح أمامك صفحة تثير الدهشة حقًّا في حياته الخاصة، إذ هو في حياته الخاصة هذه مدفوع بشهوة عارمة في دنيا النسا، وفي أكثر من مرة حاول التلصص على زوجات زملائه وأصدقائه، لقد صدرت عدة كتب في السنوات الأخيرة عن حياة راسل الخاصة، كتبها عارفوه، وأحدها كتبته إحدى زوجاته الأربع — تزوج أربع مرات على التوالي — ولولا هذه الكتب التي صدرت كلها بعد وفاته سنة ١٩٧٠م، لما استطعنا أن نعرف هذا الجانب منه؛ لأنه لم يذكر منه إلا قليلًا في الترجمة الذاتية التي كتبها عن نفسه في ثلاثة مجلدات ضخام.
فلو كان المجتمع يترصد لهؤلاء في حياتهم الخاصة لكان من الجائز أن يضيعوا منه في حياتهم العامة، ولعله من أجل هذا الانقسام السلوكي بين عام وخاص، كان للإنسان نوعان من الضوابط، أما الحياة العامة فيضبطها القانون والتقاليد الاجتماعية معًا، فهي واقعة كلها تحت سلطان المجتمع ورقابته؛ لأنها على الأغلب حياة لا تخص صاحبها وحده، وأما الحياة الخاصة فموكولة إلى مبادئ الأخلاق وحدها، فلا القانون ولا التقاليد الاجتماعية تستطيع أن تنال منك وأنت بين جدران دارك بمعزل عن الناس، لكن مبادئ الأخلاق وحدها هي التي تلازمك أينما كنت، فإذا أنت جاوزت حدودها — حتى وأنت منفرد — سيكون لك محاسب من ضميرك وحده، ولا دخل عندئذٍ للمجتمع بكل قوانينه وتقاليده.
ومع ذلك فأين المفر من طبيعة الإنسان؟ إنه حتى وهو وحده، إذا التزم بمبادئ الأخلاق في ظاهر سلوكه، فهناك في باطن نفسه ستتحرك الأفاعي والشياطين، ولرجال التصوف الديني حكايات كثيرة تروى، كيف كانوا يلاقون أصعب الصعاب في تطهير بواطن نفوسهم على نحو ما وفقوا إليه في تطهير سلوكهم الظاهر، لكن هيهات إلا لمن شاء لهم الله استقامة الظاهر والباطن معًا.
وفي الأدب الأوروبي الحديث آيات روائع في الكشف عن تيار الوعي الداخلي، وما يطفو على سطحه من أعاجيب برغم ما قد يبدو على قسمات الوجوه، فقد يكون الإنسان في أشد مواقف حياته استثارة للحزن — مثلًا — حتى إذا ما وجه انتباهه إلى ما يدور في باطنه عندئذٍ من خواطر وجدها تجيء إليه من كل اتجاه، غير متقيدة على الإطلاق بحالة الحزن البادية على الملامح الخارجية الظاهرة، ومعنى ذلك هو أن الحياة الداخلية الخاصة شيء، والحياة الخارجية البادية للناس شيء آخر، ولكل منهما طريق.
الإنسان في حياته الخاصة «فرد»، وأما في حياته العامة فهو «مواطن»، والفردية والمواطنة معنيان مختلفان، فقد يحدث لرجل أن يكون فردًا ممتازًا لكنه مواطن رديء، أو أن يكون مواطنًا ممتازًا، لكنه في فرديته ضعيف، أو أن يتعادل الجانبان جودة أو سوءًا، هما — إذن — معنيان مختلفان، فإذا كان للمجتمع بقوانينه وعرفه وتقاليده سلطان، فينبغي أن ينحصر سلطانه هذا على جوانب «المواطن» من الإنسان؛ لأنه الجانب المشترك العام الذي يقوم على العلاقات المتبادلة، وأما جوانب «الفرد» فلا شأن بها للدولة ولا للمجتمع ولا لأي سلطة خارجية، وها هنا يكون الشأن كله بين الفرد وضميره، أو بين الفرد وربه، فسوف يتلقانا يوم الحساب «أفرادًا» لا مواطنين ولا أعضاء في أمم وأسرات.
ألا يكون من الإسراف بعد هذا أن يحاول المشرعون تعقب حياة الناس الفردية الخاصة بالقوانين؟ إنهم إذا فعلوا، فلن يجد «الأفراد» عندئذٍ محيصًا عن التهرب والتخفي، وسوف لا يحتاج الأمر منهم إلا إلى «طاقية الإخفاء» بالمعنى المجازي لهذه العبارة. ليخفوا عن السلطان ما يريدون أن يخفوه، فلماذا لا نجعل ما لقيصر لقيصر وما لله لله؟