عصر التحول
- (١)
«إلى جانب مناقشتكم للمشكلات العامة، التي تهم المجتمع بكل فئاته، الشباب منهم وغير الشباب، أتمنى أن تتحدثوا عن المشكلات الخاصة، التي تخص فئة من المجتمع، تقع في أول الطريق، وعليها أن تخطو أولى الخطوات نحو تحديدها لمستقبلها وحياتها فيما بعد مما يجعلها في حيرة وقلق شديدين» (منار يوسف عز الدين).
- (٢)
«إن الإنسان قد يقر بعجزه، لكنه مع ذلك لا ينزل عن طموحه، وإني لأتساءل: هل بقي — نحن الشباب — شيء نحققه؟ إن لدينا الطموح، لكنهم نزعوا من أمامنا الفرصة وامتصوا المقدرة، إن انتفاء المقدرة لا يحقق الطموح، وانتفاء الطموح يجعل المقدرة تترهل» (بلال المصري).
- (٣)
«إني لحائر بين هذين الطريقين: فهل أنشد القيم والمثل، غير عابئ بما تجره عليَّ من متاعب، أو أتناساها وأسير في تيار التكالب على المنفعة المادية الذاتية، مضحيًا بجوهر إنسانيتي وهابطًا إلى مستوى الحيوان، الذي ينحصر همه في طعامه وشرابه؟» (علي عبد الوهاب إمام).
تلك أمثلة مما يحسه شبابنا من قلقً وحيرة، لكن الأمر كان ليثير فينا الدهشة لغرابته، لو أن شبابنا لم يحسوا مثل هذه الحيرة وذاك القلق؛ لأن العالم كله — ونحن جزء منه — إنما يتحول من عصر حضاري في سبيله إلى الزوال، إلى عصر حضاري آخر في سبيله إلى اكتمال الظهور، وفي كل عصور التحول لا منجاة للإنسان من أن يقع بين شدٍّ وجذب: أسلوب العيش القديم يشده إليه، حتى لا يتمرد عليه بما هو جديد، وأسلوب العيش الجديد يجذبه، حتى لا يطيل المكث فيما أخذت قوائمه تتداعى وتنهار.
وتحضرني في هذا السياق صورتان: أولاهما وردت في كتاب قديم عنوانه «فسيولوجوس» ظهر في القرن الثاني الميلادي، وكان ظهوره في الإسكندرية أو في سوريا — على اختلاف الرواة في ذلك — ثم أصبح شائع الذكر بين الناس في العصور الوسطى، وكان من أطرف ما ورد فيه افتراض عجيب، مؤداه أن أسدًا ونملة تم بينهما لقاء التناسل، فولد لهما حيوان غريب يجمع في كيانه طبيعة الأسد وطبيعة النملة في آن معًا، فكان في ذلك الازدواج فناؤه السريع؛ لأنه كلما أراد أن يقتات، لم يجد القوت الذي يرضي الطبيعتين المدمجتين في تكوينه، فإذا هو أكل اللحم، رضي الأسد الكامن فيه، ورفضت النملة، وإذا هو أكل شيئًا من الحبوب، رضيت النملة الكامنة فيه ورفض الأسد، ولعل رجال العصور الوسطى قد أعجبوا بهذه الصورة، فأشاعوها؛ لأنها تخدم غرضًا خلقيًّا دينيًّا كانوا حريصين على نشره، وهو أن الإنسان إنما يعرض نفسه لمأساة حزينة، إذا هو أسكن في نفسه الله والشيطان معًا، أي إذا هو تردد بين مجموعتين متناقضتين من قيم السلوك، وإنها لصورة نستطيع نحن أن نستغلها في سياقنا هذا، فنقول إن شيئًا من العذاب أمرٌ محتوم، إذا ما أراد لنا قدر التاريخ أن نحيا بين عهدين، أولهما يقتضينا ضروبًا من النظر يرفضها الثاني، فنظل في حيرتنا وفي قلقنا إلى أن يستقر الجديد على ركائزه.
وأما الصورة الثانية التي تحضرني، فهي التي أوردها «كافكا» في قصته التي عنوانها «التحولات»: وفيها يتخيل إنسانًا — أسماه جريجورساسا — قد بات ذات صباح ليجد نفسه قد تحول إلى خنفس ضخم، دون أن يفقد خصائص الإنسان، بل أصبحت فيه الطبيعتان متجاورتين أو ممتزجتين إحداهما بالأخرى: طبيعة الإنسان وطبيعة الخنفس معًا، ثم أخذ «كافكا» يستخرج من هذا الوضع العجيب أزماته ومشكلاته، ولعله أراد أن يصور لنا مأساة هذا العصر الحديث الذي قدر لنا أن نعيش فيه، وهو عصر من التحول فلا نحن ننعم بالذي كان، ولا نحن ننتفع بالذي سوف يكون، ولكننا بين بين، نتحسر على الماضي، في حين أن المستقبل الموعود لم يأتِ بعد.
إن جريجورساسا (في قصة كافكا) ذو ملامح ينفر منها الناس؛ لأنها ملامح قد أخذت شيئًا من صورة الخنفساء، لكنه مع هذه الصفة في شكله الظاهري، كان بغير شك أسمى روحًا وأرهف ذوقًا ممَّن يحيطون به، بدليل أن عازفة على البيانو (هي أخته) راحت تعزف أعذب الموسيقى، فلا تجد من نزلاء المسكن من يتذوق ذلك الموسيقى إلا جريجورساسا، وإنه ليلفت النظر أن ذلك الإنسان الخنفسي — وهو في محنته البدنية — لم يستمع فقط بالاستماع إلى النغم، بل أدرك كذلك أنه خلال تلك الموسيقى قد استطاع — ولو للحظة عابرة — أن يفلت من سجنه الجسدي القبيح، إلى عالم فسيح مطلق شامل، لا يعرف الفواصل بين الأفراد، كما أدرك أن ذلك العالم المطلق الفسيح هو الدار الحقيقية التي يريد الوصول إليها والعيش في رحابها، ولما كان ذلك مستحيلًا عليه في مرحلته الزمنية التي يحياها، فلا منجاة له من عذاب كالعذاب الذي يكابده العاشق المحروم.
هاتان الصورتان قد حضرتا إلى ذهني عندما استعرضت ما تجمع عندي من رسائل شبابنا الحيران، والذي حسب حيرته هذه مقصورة عليه، مع أنها حيرة شملت هذا الجيل كله في أرجاء العالم أجمع، وسبب هذه الحيرة الشاملة هو عصر التحول الذي نعيش فيه، إذ لم تتبلور بعد أمام الأبصار صورة ثابتة موحدة تكون هي الهدف الذي يقاس عليه، فلو كنا نعيش خلال القرن الماضي، لما أخذتنا الحيرة؛ لأن الهدف كان لا يزال واضحًا، وأحسب أنا إذا عشنا خلال القرن الحادي والعشرين فسوف لا تأخذنا حيرة؛ لأن الهدف الجديد ستكتمل له صورته.
على أن سؤالًا راودني وأنا أكتب الأسطر السالفة، فأرجأت طرحه إلى أن يحين حينه، وها أنا ذا أطرحه هنا: من هم الشباب المعنيون بهذا الحديث؟ ودعنا نحصر حديثنا منذ الآن في مصر وشبابها، أتظن أن القلق والحيرة اللذين عبر عنهما أصحاب الرسائل، يشملان شريحة معينة من العمر، فيها الفلاح الشاب والعامل الشاب كما أن فيها المثقف الشاب، لست أظن ذلك، وحتى لو كانا قلقًا وحيرة يشملان الجميع فهما لا يشملانهم بصورة واحدة، وسر الاختلاف هو في أن الشاب الفلاح والشاب العامل يتحول قطعًا إلى ما هو أفضل، على حين أن الوساوس تحيط بالشاب المثقف خشية أن يكون تحوله منحدرًا به إلى ما هو أسوأ.
إنني لأذكر أنه منذ خمسة عشر عامًا تقريبًا، وقد كنت عندئذٍ عضوًا في لجنة الشعر بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، وكان مقرر هذه اللجنة المغفور له الأستاذ العقاد، وأردنا أن نجري مسابقة في الشعر بين الشباب، لكننا لم نكد نبدأ في مراجعة القصائد الواردة إلينا، حتى فوجئنا بأعمار تتفاوت ممن هم دون العشرين إلى من جاوزوا الأربعين، فكان لا بد من سؤال: من هو الشاب؟ وأذكر أننا رجعنا في الجواب عن هذا السؤال إلى المسئولين عن منظمات الشباب، لعلنا نجد في لوائحهم ما يحدد المعيار، ومع ذلك فإني أود أن أضيف هنا، بأنه حتى إذا استقر الرأي جزافًا على سن معينة تكون هي حد التعريف لمن يجوز حسبانه شابًّا، فالمشكلة التي بين أيدينا الآن — مشكلة الحيرة في مرحلة الانتقال — لا أراها تشمل في أصحاب تلك السن إلا فئة واحدة، هي فئة المثقفين والطلاب منهم بوجه خاص، لماذا؟ لأن الطلاب بحكم كونهم في مرحلة الدراسة، يرون العالم من خلال مثل عليا يجدونها سارية فيما يدرسونه، مهما تكن طبيعة المواد التي يدرسونها، إذ الصيغة النظرية هي دائمًا مصبوبة في قالب لا عوج في جدرانه، ولا تشويه في النسب التي تحكم أطرافه، حتى إذا ما نقلوا أبصارهم إلى أرض الواقع الفعلي، وجدوه أخشن ملمسًا مما رأوه في صفحات الكتب، فيحسبون عندئذٍ أنه نقص في الحياة يدعو إلى القلق، غير عالمين أن هذه هي طبائع الأشياء في كل الظروف، ولا عجب أن نرى بين المسائل التي لا تغيب عن أنظار الباحثين، هوامش الاختلاف بين الصيغ النظرية الصورية من جهة، ورقعة التطبيق الواقعي من جهة أخرى.
ويضاف إلى هذا العامل عند الطلاب عامل آخر يؤدي بهم إلى ما يحسونه من حيرة وقلق، وهو أنهم فئة بحكم المرحلة التي يجتازونها تستهلك ولا تنتج، وذلك يصدق حتى في مجال العلوم والآداب والفنون، فالطالب طالب علم أنتجه سواه، ودارس أدب ابتكره سواه، وفنون أبدعها سواه، ولما كانت المشكلات الحقيقية إنما تكون في عملية الإنتاج بكل ضروبه، لا في استهلاك ما قد نتج، أو الانتفاع به، كان الطالب بمنجاة في حياته من الصعاب المستعصية أو العسيرة، إذ لا يقع له في حياته العلمية أو الأدبية أو الفنية إلا لمحصول الناتج بعد أن اكتمل صنعه، ومن ثم فهو اسرع من غيره مطالبة بالكمال، وما دامت ظروف الحياة من حوله ليس فيها الكمال المنشود — ومحال أن يكون فيها — يأخذه القلق وهو يتعثر في نواقصها.
إنه ما من جيلين تعاقبا إلا وكانت بينهما فجوة، هي الفجوة التي تفصل من يعاني صعوبات الواقع الخشن الغليظ، ومن لا يعانيه واقفًا عند الشط الأملس الناعم، يحلم بحياة أفضل، انظر — مثلًا — إلى أرسطو وهو يعلم الإسكندر، نستطيع أن نتخيل كيف أخذ الفيلسوف يشرح لتلميذه الشاب أن الدولة لا يجوز لها أن تكون شيئًا أكبر من مدينة واحدة محدودة (على غرار ما كانت الحال في اليونان يومئذٍ) كما نستطيع أن نتخيل كيف راح التلميذ الشاب يضحك في سره من هذه التعاليم؛ لأنه كان يضمر في سره عزمًا على إقامة دولة تمتد إلى حدود الهند شرقًا، وإلى مصر جنوبًا.
أقول: إن الفجوة بين الجيلين المتعاقبين أمرٌ لا مفر منه، لكنها في عصرنا فجوة أوسع عمقًا مما كنا نألفه؛ لأننا أولًا في عصر تحول الحضارة إلى حضارة، وثانيًا لأن الحضارة الجديدة تعدو بالناس عدوًا سريعًا، حتى لتحدث لهم من التغيرات ما يتعذر على عقولهم أن تلاحقها وتواكبها إلا بعد رهق شديد.
وخلاصة هذا كله، وهي أن شبابنا يجب أن يعلم أن قلقه وحيرته هما جزء مما ينتاب العصر كله، على أنني أؤكد أنهما في بلادنا أقل منهما في البلاد التي أخذت سيادتها تنحصر عما كانت منذ حين تسيطر عليه، فبينما شباب تلك البلاد ينظر إلى وطنه وهو ينكمش بعد اتساع، ويهبط بعد صعود، فشبابنا يجب أن يدرك أننا على طريق الصعود، نسترد ما كنا فقدناه، وإن ذلك ليتم لنا على أيدي هؤلاء الشباب أنفسهم بإذن الله.