حالة نفسية
هذه فكرة لا أتشبث بصدقها؛ لأنني لست من أهل الاختصاص العلمي الكامل في مجالها، فقد يكون لها عند غيري من الدارسين المتخصصين في موضوعها ما يبرر رفضها، لكنها فكرة تطاردني، ولم أعد أملك سبيلًا لكتمانها، أنها كلما طافت على السطح أخفيتها بإرادتي، لكنها تعود فتطفو رغم إرادتي، وربما كان من العوامل التي تغذيها وتقويها وتدفعها إلى الظهور — راضيًا بها أو كارهًا لها — حالات كثيرة تكررت في الفترة الأخيرة، وأعني حالات المرضى الذي تصلهم بي صلات القربى، يذهبون — أو يذهبن — إلى الطبيب، شاكين أو شاكيات من ألم هنا أو ألم هناك، فيفحص الطبيب، ولا يهديه طبه إلى علة بذاتها، فيقول: إنها حالة نفسية!
ولما كنت على إيمان لا تزعزعه عندي أعتى العواصف، بأن العلم يزحف بنوره، فيضيء اليوم ما كان مظلمًا بالأمس، ويضيء في غد ما هو مظلم اليوم، فإنني كلما سمعت عن تعليل الطبيب لحالات العلة والألم، بأنها «حالات نفسية» لا لأنه رأى في جسد المريض شيئًا بذاته، بل لأنه لم يرَ العلة الحقيقية التي يشكو منها المريض، أقول إنني كلما سمعت ذلك عن طبيب، قلت في نفسي — وقلما أقولها للناس — يعلم الله أنه ظلام جهل لم يبدده العلم بنوره بعد.
التعليل بحالة نفسية هو لا تعليل، وكان أفضل منه أن يقول الطبيب: لا أعرف؛ لأن في قوله «لا أعرف» حافزًا للعلماء أن يحاولوا الكشف عن المجهول، ولقد قال فقهاؤنا السابقون ما معناه بأن: من قال لا أعرف فقد أفتى.
تلك هي الفكرة التي تطاردني، ولا تريد أن تتركني لأستريح حتى أذيعها، ولست — بالطبع — أول من أذاعها، فهنالك في الأعوام الأخيرة، في أوروبا وفي أمريكا، كثيرون ممن هم أحق مني بإذاعتها، قد نشروها في مقالات وفي كتب، وكنت كلما طالعت شيئًا مما كتبوا، ازددت طمأنينة لصحة ما يراودني في هذا الصدد منذ زمن ليس بقريب، وأظنه لم يعد سرًّا مكتومًا عن الناس، ما تلجأ إليه بعض السلطات، مما يسمونه ﺑ «غسيل المخ» الذي معناه أن يغيروا فيمن وقع تحت سلطانهم، كل ما شاءوا أن يغيره من اعتقادات ومشاعر، بحيث يخرج من تحت أيديهم وهو يرى الأبيض الذي لم يكن يشك في بياضه من قبل، يراه الآن أسود من حندس الليل، ويشعر بالإعجاب الشديد والحب الغامر، لما كان قبل ذلك يمقته ويزدريه، كل ذلك يتم بالطرق العلمية التي يغيرون بها مجرى ردود الأفعال، فلا مكان عندئذٍ لشيء اسمه «نفس» تتحكم أو لا تتحكم في شيء.
وكذلك قد أصبح من المعلومات الشائعة ما يجرونه من جراحات المخ، فيزول من المريض نتيجة لتلك الجراحات، ما كان يضنيه قبل ذلك من قلق، أو ما كان يشقيه من إحساس بالذنب أو غير ذلك مما يفعل فعل الشوك في مضاجع الناس، وبالصدمات الكهربائية أمكن أن تنمحي ظواهر الهوس العقائدي، وحالات الاكتئاب الانتحارية، بل إن ضروبًا استحدثوها من العقاقير أحدثت فعلها فيمن يسمونهم في عالم الأمراض النفسية ﺑ «الفصاميين» أي الذين يعيشون بأوهامهم الداخلية في عالم يختلف اختلافًا بعيدًا عن عالم الواقع المحسوس الذي يعيش في سائر الناس.
ولن أنسى ما حييت قصة رواها لنا أستاذ لعلم النفس في جامعة لندن، فيها جدية العلم بالفكاهة، ولقد رواها ليحض الطلاب على مزيد من الحيطة في تقبل ما يسمى ﺑ «الحالات النفسية» التي ازداد انتشار اللجوء إليها ازديادًا سريعًا منذ كان لفرويد وتحليلاته صوت مسموع، قال الأستاذ: كنت في فترة من حياتي أعيش وحيدًا، لا يرعاني أحد، ولحظت كثرة اختفاء الأشياء الصغيرة، كالمفاتيح وقطع النقود وما إلى ذلك، وكنت يومئذٍ على شيء من الثقة بوجهة النظر الفرويدية، فصممت على أن أنظر إلى تلك الظاهرة من زاوية التحليل النفسي، لأرى ماذا كانت العلة الحقيقية في كثرة فقدان الأشياء الصغيرة إبان تلك الفترة، وأخذت أفحص وأبحث وأحلل أسابيع بعد أسابيع، ثم كشفت فجأة عن حقيقة ضحكت لها، وهي أن جيوب سترتي وسراويلي كانت مهترئة وبها ثقوب، تسقط منها النقود والمفاتيح، فلما أن عالجتها اختفت الظاهرة التي كنت ظننتها «حالة نفسية».
وإنني لأعقب على قصة الأستاذ، بقصة أخرى أرويها من صميم خبرتي الخاصة، خلاصتها أن فتاة من أسرتي — وكان ذلك منذ أكثر من ثلاثين عامًا — أصابتها علة في عمودها الفقري، نتج عنها ميل الجذع، ولم نكن ندري، ولا كان الأطباء حينئذٍ يدرون ماذا عسى أن تكون تلك العلة، فلم يكشف الطب حتى ذلك الحين عن مرض عضوي بذاته، ولم يكن أمام الأطباء إلا أن يقولوا لنا: هي حالة نفسية، فعليكم بالمختصين في هذا المجال … أخذت الفتاة بنفسي، وقصدت بها إلى طبيب نفسي، وأخذ الرجل فترة من الزمن، يحلل لها أحلامها وغير ذلك مما هو مألوف في هذا الضرب من المعالجة، ولكن لا شفاء، فاقترح علينا صديق بأن نلجأ إلى معهد رياضي، لعل في تمرينات البدن ما يزيل العوج، ويرد الجذع إلى استقامته، وقد كان واستقامت فتاتنا، ولكن كانت تلك الاستقامة إلى حين، وعاودها ميلان الجذع … ومضت السنون بين عوج للجذع واعتدال، حتى أراد الله للطب مزيدًا من العلم، فكشف عن انزلاق في الغضاريف.
ولقد نفضت شكوكي حول «الحالات النفسية» لصديق مختصٍّ في هذا الميدان، فأنبأني بأن كل ما يقال عن معالجة الحالات النفسية بجراحات المخ أو بالصدمات الكهربائية أو بالعقاقير، ما هو إلا خط بين العلاج المؤقت والشفاء الدائم، فتلك جميعًا وسائل قد تكون ذان أثر عاجل، لكنه أثر عابر، وسرعان ما تعود الحالة بعينها للمريض، وأما العلاج النفسي فيؤدي إلى شفاء كامل من الظاهرة التي استدعت ذلك العلاج.
واستمعت إلى رأي الصديق المختص، وكأنما استمعت إليه بنصف سمعي؛ لأن شكوكي ما زالت تحاصرني، مستشهدًا بوقائع لا سبيل إلى نكرانها، مما يظل يؤدي عندي أن قولنا عن علة من العلل أنها «حالة نفسية» ليس إلا غطاء تخفي به قصور العلم إخفاءً لا تدعو إليه الضرورة؛ لأن ما يقصر العلم دونه اليوم، لا بد لاحق به غدًا، وأن التاريخ لمليء بالشواهد، فكم من مرضى كانوا فيما مضى لا يرون له حيلة إلا أن يلتمسوا له معونة الكاهن أو الساحر أو من كان شبيهًا بالكاهن والساحر، وليس غريبًا أن الطبيب في عصور التاريخ الأولى كان هو نفسه الكاهن، إذ لم يكن الناس فرق بين طبٍّ وكهانة، ولست أرى فرقًا جوهريًّا بين «كلام» يقوله الطبيب النفسي اليوم، أو يجعل مريضه يقوله، و«كلام» كان يقوله كاهن فيما مضى أو ساحر؛ لأن الكلام لا يعالج شيئًا، وإنما المعالجة لها سبل أخرى هي التي نعرفها في أنواع الأمراض الأخرى، التي كشفنا عنها سريعًا، ولم نعد حيالها بحاجة إلى القول عنها بأنها «حالات نفسية».
يقول «تاس» — وهو أمريكي مشتغل بالتحليل النفسي — في كتاب له عنوانه «أخلاقيات بالتحليل النفسي» إن مثل هذا التحليل ليس من قبيل العلاج الطبي، ولكنه قد ينفع من حيث هو «وسيلة تربوية» بمعنى أنه وسيلة نزيد فيها ثقة المريض بنفسه، فتزداد بالتالي قدرته على إرادة الاختيار واتخاذ القرار فيما يصادفه من مواقف الحياة، ثم لا يفوت ذلك المؤلف أن يلحظ جانبًا أراه جانبًا هامًّا ويدعو إلى تفكير، إذ يقول: إن مثل هذا التحليل النفسي الذي من شأنه أن يرد للمريض حريته في الاختيار وفي اتخاذ القرار، هو ضربٌ من ضروب الترف، لا ينعم به إلا من استوفى لنفسه سائر ضروب الحريات التي ربما كانت أكثر حيوية وأبلغ أهمية وخطورة، إن من يصعب عليه امتلاء بطنه من شدة الفقر، ومن يستعصي عليه أن يجد عملًا يكسب منه الرزق لشخصه ولأسرته، ومن يتعذر عليه المجاهرة بالرأي الصريح في مشكلات بلده، من سياسية إلى اقتصادية واجتماعية، واختصارًا إن من لا يجد حريته في دنيا الفكر وفي دنيا العمل، ماذا يجديه أن تضعه للتحليل النفسي لتكسبه مزيدًا من الثقة بالنفس؟
على أن كثيرين ممَّن نتناولهم بالمعالجات النفسية، هم أحوج إلى مزيد من العلم، أو إلى مزيد من المهارة في حرفة يمارسها ليكسب القوت ولتزداد ثقته بنفسه ازديادًا تلقائيًّا، ما دام قد رأى نفسه عضوًا عاملًا منتجًا مفيدًا كاسبًا لرزقه.
لا أدري إن كنت بحاجة إلى أن أؤكد للقارئ — بعد هذا الذي أسلفته — بأنني بالطبع لا أنكر «الحالات» التي يتعرض لها الإنسان: حالات القلق والخوف والوهم والتردد وغيرها، مما يصبح مرضًا إذا بولغ فيه، ولكن الذي أميل إلى إنكاره، هو أن تكون هذه الحالات «نفسية» بالمعنى الذي لا يجعلها ذات علاقة وثيقة بعوارض بدنية هي من شأن الطب البدني، وما ليس يدركه هذا الطب اليوم، سوف يدركه غدًا.
على أنني سواء كنت محقًّا في شكوكي تجاه «الحالات النفسية» أو غير محق، فلا أحسب أني على خطأ أو ما يقرب من الخطأ، إذا قلت إن الطبيب يجاوز مجاله المشروع، إذا فحص مريضًا ولم يدرك في بدنه موضعًا لعله فيما يرى، أقول إنه يجاوز مجاله المشروع إذا هو تبرع من عنده بتشخيص «نفسي» ليس من اختصاصه؛ لأن القول ﺑ «حالة نفسية» إذا قاله طبيب لمريضه، فإنه يزيد الطين بلة، فلا هو شافٍ المريض من علته، ولا هو تركه بمنجاة من وهم قد تثبت الأيام فيما بعد أنه خرافة.
وكذلك لست أدري إن كنت بحاجة إلى أن أبين للقارئ بأن التشكك في «الحالات النفسية» لا يعني تشككًا في علم النفس من حيث هو «علم»؛ لأنه من المعروف بأنه وإن يكن ما زال محتفظًا باسمه القديم، إلا أنه لم يعد علمًا ﻟ «نفس»، بل هو الآن علم السلوك، لا يختلف في ذلك أحد من المشتغلين به، كائنة ما كانت المدرسة التي ينتمي إليها، فأمره قد أصبح — كما قال أحد علمائه متفكهًا — علم نفس بغير «نفس».