نوع من الغربة
جلس ليحدثني وأخذت أستمع إليه في إنصات شديد، والحق أني أحسست كأنما أنظر إلى صورتي في المرآة، وهي التي تتكلم نيابةً عني، وأنا الذي أنصت، ولعل مصدر هذا الإحساس عندي، هو الصحبة الطويلة التي ربطت بيننا أعوامًا طوالًا، حتى تقاربت ميولنا وأفكارنا، ومع هذا التقارب في الميول والأفكار تقاربت مشاعرنا وخبراتنا بالحياة بمثل ما تقاربنا في العمر، فلا يفصل بيننا إلا عام واحد أو عامان.
جلس ليحدثني وكنا وحيدين، وكان الوقت شتاء، فكانت النوافذ مغلقة والستائر مسدلة، إنه يعلم عني هذا الحب الشديد لفصل الشتاء؛ لأنه هو الفصل الذي يساعدني برد هوائه على إغلاق النوافذ وإسدال الستائر وإقامة الحواجز بيني وبين الخارج، بحيث يكون لهذا الانطواء الفعلي بالجسد ما يبرره من عوامل المناخ، فجاءت زيارته في قلب الشتاء، بعد أن لم أكن رأيته منذ فترة تعد بالسنين لا بالأيام ولا بالشهور، وكان على يقين — أو ما يقرب من اليقين — أنه واجدني في الدار أي ساعة جاء وذلك لعلمه بدقائق حياتي كيف تجري بها ساعات النهار.
جلس ليحدثني، يكاد لا يتحرك من وجهه إلا شفتاه، فهو هادئ كما عهدته دائمًا، لكنه ازداد هذه المرة هدوءًا على هدوئه، فألفاظه تخرج من بين شفتيه واحدة واحدة، وبين كل اثنين منها لحظة سكون، ونظراته إلى عيني لا يكاد يرف له هدب أو تحدث له التفاتة، وجبينه منبسط لا يتجعد، ولا يتفضن مع نبرات الحديث، وكنت قد لحظت فيه عند دخوله بهو الدار، إن خطواته في السير قد قصرت وأبطأت، ولذلك بادرته بالسؤال عن صحته، وأجابني بأنه لا يشكو من علة ظاهرة.
وبدأ الحديث بالعجب من طبيعة الإنسان تتقدم به السنون، حتى ليجاوز منها السبعين، مما يؤكد أن الأنفاس الباقية معدودة، وإن سيره الهابط على الجانب الآخر من جيل الحياة، قد أوشك به على القاع، ومع ذلك يدب ويسعى وكأنه لم يزل على السفح الصاعد أن عينيه قد انكفأتا إلى الأرض بعد أن كانتا شاخصتين إلى السماء، ومع ذلك فهو يحرص على مواصلة العمل مع العاملين.
قلت: وماذا يضيرنا من هذه الطبيعة الناشطة في الإنسان؟ أليس يثقل عبء الحياة على صاحبها إذا أحاط به فراغ من العمل؟
قال: نعم، هذا صحيح، لكن لب المشكلة هو أن السائرين على السفوح الصاعدة يضجرون من وجودنا إلى جانبهم نشاركهم ما يعملون، إنهم يحسون — ونحن معهم نحس برغم كتماننا لما يكمن في صدورها — بأننا في ديارهم ضيوف، وليس للضيف من حرية الحركة ما لصاحب الدار، إنني لا ألومهم، لكنني أقرر ما أشعر به، والشيء الذي يلفت نظري، هو أن أقراننا الذين لم ينشطوا بالعمل المنتج إبان فترة الحياة الصاعدة، لا يجدون في أنفسهم ما يؤرقهم في فترة الحياة الهابطة، لكن المشكلة مشكلتنا نحن، هي مشكلتك ومشكلتي، فلقد عشنا حياة عاملة لم تعرف لحظة من هدوء، فبات عسيرًا علينا ألا نواصل النشاط، مع أن المحيطين بنا يرون فينا عوائق تسد أمامهم الطريق، مما ينعكس علينا بالخجل من أنفسنا فتتوارى عن الأنظار.
قلت: لست أنكر عليك ما تقول، فأنا أحسه كما تحسه، لكنني في الوقت نفسه لا أجد أمامنا مناصًا آخر، إننا نريد لحياتنا أن تكون ذات معنى، وكان معنى الحياة في مرحلتها الأولى واضحًا، فقد كان لكل منا أهدافه، حقق منها ما حققه، وقصر فيما قصر فيه، حتى إذا ما بلغ كل منا مداه، ثم بقيت له مع ذلك بقية من حياة، فهل يترك هذه البقية تمضي بغير معنًى.
قال: أقول لك الحق، إنني أشعر بغير قليل من الغربة، مع أنني أعيش في وطني وأقيم بين أهلي، وكلما هيأ لي وطني ظروف المشاركة في النشاط، أو فتح لي الأهل صدورهم وقلوبهم بالحنان والحب، ازددت شعورًا بالقلق من غربتي؛ لأنه أدب المجاملة هو الذي أغراهم بما أغرى.
وصمت صديقي قليلًا، ثم استطرد قائلًا: يخيل إليَّ أن موضع النقص في تربية الإنسان لنفسه، هو أنه يعد نفسه للصعود ولا يعد نفسه للهبوط، مع أن حياتنا محتومٌ عليها هبوط يجيء بعد صعود، فترانا إذا ما جاوزنا من العمل النشيط، طالبنا أنفسنا بأن نظل في ميدان المعركة كما كنا؛ لأننا لم نعرف في ساحة الحياة إلا ميدان المعركة، ومن هنا تنشأ المشكلات والأزمات! إنني أذكر أن يونج — العالم النفسي — قد لاحظ بأم الكثرة العظمى من زبائنه المرضى كانت ممن تقدمت بهم السن قليلًا أو كثيرًا، وكانت مشكلاتهم على شيء من التشابه، وهو الشعور بالقلق الذي يحسه السائرون في طريق مسدود، كان كثيرون من هؤلاء قد حققوا في حياتهم نجاحًا ملحوظًا، فبلغوا من المجتمع مكانة، وجمعوا من المال ما يرفع عن كواهلهم ضغط الحاجة، لكن العجب هو أن ذلك النجاح نفسه كان سر أزماتهم؛ لأن الأمر — كما قلت لك — هو أن الحياة يظل لها معناها الواضح ما دام الإنسان سائرًا في طريق تحقيق أهدافه من مكانة في المجتمع أو مال يطمئن به، أما إذا تحققت له هذه الأهداف، فإنه يبدأ في التساؤل، ثم ماذا؟ فلا يجد الجواب واضحًا، فضلًا عما يبدأ في الشعور به من ضيق المحيطين ممن لا يزال طريق الحياة فسيحًا أمامهم.
قلت: قد يكون الأمر كما تقول، فلقد عرفت فيما مضى رجلًا من أساتذتنا الأجلاء، زودته طبيعته بأدوات العمل، لكنها لم تزوده بوسائل الفراغ، كانت حياته أيام صعوده عملًا كلها، وعمله هو قراءة وكتابة وتدريس، فلما أرادت له مشيئة الله ذات حين أن يصاب في عينيه، بحيث يرقد الأسابيع في فراشه وهو معصوب، أخذه الضيق الذي لم يكن بعده ضيق؛ لأن نبع الحياة الوحيد الذي نشأ عليه قد انسد، فأما قراءة وكتابة وأما لا شيء، وهو — كما قلت — نقص في طريقة التربية، وأظنه أولدس هكسلي هو الذي قال في ذلك: إن على الإنسان أن ينشأ وله من الاهتمامات صنوف منوعة، لكي تكون له كرءوس «الهايدرا» كلنا قطع لها رأس وجدت عندها ما يعوضه.
قال: أرأيت؟ ها هنا يقع لب المشكلة في حياة الشيوخ، إنهم في حالات كثيرة يتمتعون بالصحة الكافية، ويحتفظون بقدراتهم الأولى، بل ربما أضافوا إليها مزيدًا من خبرة، فيغريهم هذا كله بأن يقضوا شيخوختهم فيما قضوا فيه شبابهم، طريقة العيش نفسها وطريقة العمل ذاتها، بل ربما أغراهم هذا بمنافسة الشباب في ميادينهم، وهنا تحدث الجفوة — معلنة أو مستترة — وبالتالي يكون للشيوخ إحساسهم بالغربة.
صحيح أن الانتقال من حياة إلى حياة محفوفٌ بالصعوبة؛ لأنه كالانتقال من بيئة إلى بيئة، لكن الأمر يحتاج إلى تدريب، إنه مألوف في حياة القبائل البدائية أن تقام الشعائر الرمزية في حفلات خاصة، كلما أرادوا أن يعلنوا عن شاب أنه في طريق الخروج من دنيا الطفولة ليدخل مع الرجال في دنياهم، وبهذا ينتهي من حياته عهد كانت له خصائصه، ويبدأ عهد جديد ستكون له تبعاته، فلماذا لا نتوسع في أمثال هذه الشعائر عند كل انتقال من مرحلة إلى مرحلة؟ ومن أهم هذه الانتقالات جميعًا، انتقالنا من حياة الشباب والرجولة التي هي حياة عاملة، إلى حياة الشيخوخة التي ننفض فيها عن أنفسنا أثقال الواجبات وهمومها؟ إن حفلات البدائيين في نقلهم الشباب إلى عالم الرجال، مليئة بالرموز الدالة على موت وبعث: موت مرحلة انقضى أوانها، وبعث مرحلة أخرى، بل هو أكثر من بعث؛ لأنه ميلاد كالميلاد الأول.
واستطرد صديقي في حديثه: تلك هي فطرة الإنسان، بل فطرة الكائنات الحية جميعًا، وهي أن يقترن فيها حياة وموت، فلماذا تلح علينا حضارة هذا العصر بصفة خاصة، بأن نظل نؤكد الحياة والوعي بها، لا فرق في ذلك بين شاب وشيخ؟ متى عرف التاريخ كله عصرًا كهذا في كثرة ما يعرضه على الناس من عقاقير تزيد من يقظة الناس ووعيهم بالحياة، حتى بعد أن يجاوز العمر ما يقتضي من الإنسان كل هذا الوعي وكل تلك اليقظة؟ نعم، لماذا؟ حتى علماء النفس ما ينفكون يبحثون عن وسائل «التكيف» لظروف الحياة النشيطة، ولا يطوف ببالهم قط أن وسائل «التكيف» لظروف الحياة الشائحة هي أيضًا بحاجة إلى بحث ودراسة، يشبه ذلك من بعض الوجوه، إن كان هناك طب للطفولة، ولم يطرأ على عقول الناس إلا حديثًا أن ينشئوا كذلك طبًّا للشيوخ؛ لأن لكل عمر طبه الخاص.
كان صديقي قد أصابه قليل من الانفعال وهو يعرض فكرته هذه، لكنه مع ذلك لبث على درجة من السكينة والسكون لا تتناسبان مع ثورته الداخلية، التي لم أكن أعرف لها علة مباشرة.
فقلت له في هدوء يشبه هدوءه: لقد نسيت يا أخي جانبًا مهمًّا يفرق بيننا وبين الشباب، وهو جانب يعوض لنا أكثر مما فقدناه، إنه جانب أشعر به في حياتي شعورًا لا شك فيه، وهو ذلك الشعور بطمأنينة من أدى واجبه، وخرج من ميدان التسابق، وأنه لشعور — لو أخلصت له — من شأنه أن يعطيك من الثقة في النفس بمقدار ما عندك من الاستغناء بنفسك عن سواك، ومن ثم فقد تبدع في إنتاجك بما لم تستطع إبداعه وأنت في عز الشباب! ألم تسمع بآخر ما نطق به سقراط قبل أن يلفظ نفسه الأخير؟ لقد قال هذه العبارة الغريبة لتلميذه أقريطون: «يا أقريطون، إني مدين لأسكلبيوس! فهلا تذكرت أن ترد عني هذا الدين؟» وتحير الشرَّاح في المعنى المقصود، كان الناس عندئذٍ إذا ما ألم بأحدهم مرض، ثم عوفي منه، قدم ديكًا إلى أسكلبيوس، فكأنما رأى سقراط نفسه وهو مشرف على الموت، بمثابة من أصابته الحمى حينًا ثم زالت، والحمى في هذه الحالة هي حمى الحياة، وإني لأقول لك يا صديقي، إننا وقد نجونا من حمى التنافس والمعارك والطموح والنجاح وما إلى ذلك من أمراض الشباب ربما كان كسبنا من ذلك في ميادين الإنتاج العقلي أكثر من الخسارة، نعم إن الشعور بالغربة قد بات يلاحقنا، لكننا لهذا السبب نفسه مطالبون بما يطالب به كل الغرباء عن ديارهم، وهو أن ينتجوا ما يبرر لهم وجودهم في دار لم تعد دارهم، ولعلها أن تكون سنة الحياة، أن يضيق بنا الشباب، فنزداد لهم إضاءة فيما يحيط بهم من ظلام.
قال صديقي، وقلت، وظل السمر الهامس بيننا ساعتين، انتهينا به إلى اتفاق على شعور بالغربة غريب، كلانا يشعر به، لكننا بعد ذلك اختلفنا نظرتين.