الجيل الحائر
كانت الجماعة التي أطلقت على نفسها هذا الاسم (اسم الجيل الحائر) لأول مرة هي — فيما أعلم — طائفة من المثقفين، منهم الأدباء والشعراء ورجال الفن ورجال النقد، خرجت من الحرب العالمية الأولى سنة ١٩١٨م ساخطة على ما وصلت إليه الحضارة الغربية من سقوط، ظهرت معالمه في همجية القتال، ولقد التقت هذه الجماعة الساخطة يومئذٍ في باريس وهناك دارت بينهم أحاديث الهموم التي أثقلت نفوسهم، وهناك كذلك وصفوا أنفسهم بأنهم «الجيل الحائر»، بمعنى أن القيم التي ملأت رءوسهم وقلوبهم، لم تكن هي القيم الشائعة والمأخوذ بها في توجيه الحياة — الحياة السياسية على أقل تقدير — مع أن تلك القيم الشائعة هي التي أودت بالناس إلى تلك الحرب الطاحنة.
وإذن فقد كانت تلك الجماعة جيلًا حائرًا، لا بمعنى خواء النفوس وفقدان القيم، بل هي حائرة بمعنى أنها تعرف طريق الخلاص من قديم مدير إلى جديد مشرق، لكنها لا تملك وسيلة التنفيذ، وعلى هذا المعنى تكون الحيرة حافزة لأصحابها أن يضطلعوا بواجب إيجابي يؤدونه إنقاذًا لحضارة تنهار، أي إن الحيرة التي رأوها في أنفسهم لم تكن تقتضي منهم سلبية منسحبة من قضايا الثقافة والحضارة، بقدر ما كانت تحفزًا لوثبة تقدمية يحاولون بها التغلب على أفكار بالية أودت بالناس إلى خراب.
على أن ذلك المعنى الذي قصدت إليه تلك الجماعة الأولى، حين وصفت نفسها بالحيرة، ليس هو المعنى الذي يريده أهل هذا الجيل الحاضر الذي نعيشه نحن اليوم، إذ كثيرًا ما يريدون بصفة الحيرة التي ينعتون بها جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، أحد معنيين، فإما هم يريدون بها انعدام القيم الموجهة للناس نحو ما هو أفضل، وإما يريدون أن القيم الجديدة قد أصبحت من الكثرة والتناقض، بحيث يقع أبناء الجيل الحاضر في حيرة، لا يعرفون أي طريق يختارون، إذ تنبهم أمام أعينهم المعالم التي تميز لهم بين الصواب والخطأ.
لكن هذا المعنى اليائس للحيرة، هو من خلق الشيوخ، الذين يظنون أن البناء القويم لا يكون إلا بأيديهم، فإذا هم ذهبوا وذهبت معهم أحلامهم ضاع الشباب من بعدهم، وأما المعنى الإيجابي الذي أرادته الجماعة الأولى لنفسها، فهو المعنى الذي نراه في كل مراحل الانتقال على مدى التاريخ، إذ ما من مرحلة انتقالية إلا وقد شهدت ما يشبه الجيل الحائر الذي أراد تبديل القديم البالي بجديد مفيد، فلماذا لا نقول — مثلًا — إن جماعة السوفسطائيين في تاريخ الفكر اليوناني القديم، كانت بمثابة جيل حائر، تشكك في الأوضاع القائمة، ليمهد سبيل البناء الجديد على أيدي سقراط وأفلاطون وأرسطو؟ ثم لماذا لا نقول — وهذا مثل آخر — بأن جماعة الخوارج في الفكر الإسلامي، كانوا كذلك بمثابة جيل حائر، نظر حوله فوجد اتجاهين يتنازعان شرعية الحكم، أحدهما يقيم هذه الشرعية على أن يكون الحاكم من أسرة الرسول، والآخر يقيمها على أن يكون الحاكم من العرب الخلص، كائنة من كانت الأسرة التي جاءوا منها، ولم تجد جماعة الخوارج أمام هذين الاتجاهين المرفوضين من وجهة نظرها، أقول إنها لم تجد يدًا من الخروج عليهما معًا، لتعلن قيمة جديدة، هي أن يكون الحكم للأصلح، عربيًّا كان أم غير عربي.
ولماذا لا نقول كذلك — وهذا مثل ثالث من الفكر الإسلامي أيضًا — أن جماعة إخوان الصفا التي ظهرت في القرن العاشر الميلادي، إنما كانت هي الأخرى جيلًا حائرًا بالمعنى الإيجابي الذي قدمناه؟ فلقد أراد إخوان الصفا أن يبسطوا أمام الناس أفقًا فكريًّا واسعًا، يتخلص من تفاهات القومية الضيقة والعقائدية المتعصبة، بلى إني لأود أن أُلحق بذلك الجيل نفسه رجالًا جاءوا بعد إخوان الصفا بقليل، وكانت لهم الروح نفسها، ورحابة الأفق والنظرة النافذة المتسامحة من أمثال التوحيدي والمعري.
ونطوي الزمان طيًّا سريعًا، لنقع على أمثلة لأجيال حائرة في عصرنا هذا، ففي إنجلترا في أوائل هذا القرن، تصادفك الجماعة المعروفة عندهم باسم «جماعة بلومزبري»، وهي الجماعة التي ضمت رجالًا من ألمع رجالهم في الفكر والأدب والفن، من أمثال: ليتون ستريتشي، وفرجينيا وولف، وبرتراند رسل، ولورنس (الأديب القصص والشاعر لا المغامر السياسي) وأولدس هكسلي، فهؤلاء وأقرانهم هم الذين أخرجوا بلادهم — ثقافيًّا — من قيم الحياة في القرن الماضي (العصر الفكتوري) إلى قيم الحياة الجديدة التي أرادوا لها أن تستقر في هذا القرن.
وانظر إلى تاريخنا نحن الحديث، فبماذا تصف مجموعة الكتاب: طه حسين، العقاد، المازني، هيكل، سلامة موسى … بماذا تصف هذه المجموعة التي لبثت خلال العشرينيات — بصفة خاصة — تتجاوب أنغامها متكاملة كأنها فرقة موسيقية يتعاون أفرادها على عزف مقطوعة واحدة، هي المقطوعة التي أرادوا بها أن يستدبروا عصرًا ثقافيًّا، وأن يستقبلوا عصرًا آخر، كانت تلك الجماعة في حينها «جيلًا حائرًا» لا هو يقر القيم الفكرية والأدبية القائمة، ولا هو قد فرغ من إقرار قيم جديدة تحل محلها.
لقيت تلك الأجيال الحائرة إبان مراحل الانتقال على طول التاريخ عنتًا أي عنت من مجتمعاتهم؛ لأنهم بشروا بالجديد، وليس من الأمور الهينة على الناس أن يقبلوا الجديد إلا بالخوف والحذر، ولست أجد ما يصور موقف الجيل الحائر من مجتمعه، خيرًا من أسطورة يونانية قديمة، هي أسطورة «فيلوكنانيس» التي جاء ذكرها في مسرحية سوفوكليز التي تحمل هذا الاسم نفسه، وفيها أن هذا البطل يملك قوسًا سحرية هو وحده الذي يستطيع أن يقاتل بها الأعداء، لكنه في الوقت نفسه مصاب بجرح في قدمه، تنبعث منه رائحة كريهة، ثم هو جرح يحمل الجريح على الأنين الصارخ المتألم والمؤلم معًا، فماذا يكون موقف الناس منه؟ إنهم ينفرون منه لتوجعه المثير ولرائحة قدمه الجريحة، لكنهم في الوقت نفسه يريدونه ليستخدم قوسه السحرية في القتال، ومثل هذا الموقف المتذبذب يقفه الناس دائمًا من كل جيل حائر، يريدونه من أجل الجديد الذي يبشر به، وينفرون منه لأن هذا الجديد نفسه يثير القلق في حياتهم المستقرة، حتى ولو كان استقرارها هذا قائمًا على خطأ.
إنها بحاجة دائمًا إلى تجديد في القيم التي تقبل التجديد، وأقول هذا لأشير إلى التفرقة التي كثيرًا جدًّا ما يفوت الناس إدراكها، وأعني التفرقة بين قيم متغيرة مع تغير الظروف، وقيم أخرى ثابتة لأنها أسس لا تقبل التغيير.
هذه تفرقة لا نكف عن الإشارة إليها؛ لأن عدم إدراكها هو الذي يقسم الناس إلى جبهتين: إحداهما تريد التجديد، والأخرى تقاومه محافظة على القديم، ولو تبين لنا في وضوح أن من يريد التجديد إنما يريده في الجانب المتغير من القيم القابلة للتغيير، لما رأيناه في الثغرة التي تفصل الجبهتين، ولو لم يكن المجتمع بحاجة دائمًا إلى تغيير في القيم القابلة للتغيير، لما رأيناه في تفكير لا ينقطع حول التربية وضرورة تطويرها، فما معنى أن نطلب تطوير التربية في الأسرة وفي المدارس والجامعات، إذا لم يكن معنى ذلك أن نظامًا تربويًّا تعليميًّا قائمًا، ينطوي على أفكار معينة، يراد تغييره لتغيير تلك الأفكار بسواها؟
وجدير بالذكر في هذا السياق، أن نقول: إن كلمة «القيم» التي كثر استعمالها فيما نكتبه اليوم أو فيما نقوله، هي كلمة حديثة الاستعمال، ولو عدنا بالذاكرة، لا أقول إلى ما كان يكتبه الأولون من أسلافنا، بل إلى بضع عشرات من السنين، لوجدنا أن كلمة «القيم» هذه كانت نادرة الاستعمال بمعناها الذي نستعملها به اليوم، وبهذه الكثرة، ولذلك فقد يكون مدلولها غامضًا عند كثير من الناس، وربما اتضح هذا الغامض إذا قلنا لهم أن ما نسميه اليوم بالقيم، وهو الذي كان يسميه السابقون بأسماء أخرى، مثل «العقائد» أو «المثل العليا» أو غير ذلك مما يحمل المعنى، فإذا قلنا إن الأجيال الداعية إلى التغيير في مراحل الانتقال إنما تدعو إلى تربية جديدة تبث قيمًا جديدة، كان معنى ذلك أنها تريد استبدال مجموعة من الاعتقادات (ولنترك كلمة العقائد للمجال الديني) بمجموعة أخرى، شريطة أن تكون من الاعتقادات القابلة للتغير، كالمقاييس التي يقاس بها النجاح، ومكانة المرأة، والعناية بالطفل، وطريقة التصرف في أوقات الفراغ، ومعنى التسوية بين الناس، وطريقة الحكم ومشاركة الشعب فيه، والنظم الاقتصادية، وترتيب الأهمية بين الأشياء: الحاجات البيولوجية، والمجالات الثقافية الخالصة وغير ذلك.
ومن البداهة أن الداعين إلى التغيير في مراحل الانتقال، لا يمكن أن يشملوا الناس جميعًا، بل هم دائمًا قلة قليلة، هي التي تحس قبل سواها بضرورة ذلك التغيير، وعادةً ما تكون هذه القلة الواعية من الكتاب والأدباء والشعراء ورجال الفن، فهؤلاء هم صناع القيم، فهؤلاء هم الذين يسبقون غيرهم إلى تصور ما يمكن أن تكون عليه الحياة الجديدة، وبالتالي فهم يصورونه لهم فيما يكتبونه وينظمونه ويعزفونه ويرسمونه، ومن أمثال هؤلاء المبدعين لصورة الحياة الجديدة المأمولة يتألف — في مراحل الانتقال — ما يسمونه بالجيل الحائر.