حوار مع الحائرين
شبابنا بخير ما بقيت له هذه اليقظة الواعية، فما كدت أطالعهم بمقالتي عن عصر التحول هذا الذي نعيش فيه (أهرام الخميس ٢٤ فبراير ١٩٧٧م)، حتى جاءتني الرسائل الحادة الناضجة، مصححة متشككة متسائلة، وفي معظم الرسائل يعترض أصحابها على ربط ظاهرة القلق بين شبابنا بظواهر القلق في أرجاء العالم الأخرى؛ لأن مثل هذا الربط من شأنه أن يبخر المشكلة المحلية ذات الخصائص النوعية الفريدة، ولست أدري كيف يريدون الفهم الواضح لظاهرة معينة، إذا هم بتروا الصلات التي نربطها ببنات جنسها في أنحاء الدنيا، وعزلوها وحدها كأنما هي ظاهرة يتيمة، أأقول جديدًا لشبابنا إذا أنا أنبأتهم بأن من أخص خصائص الفكر الحديث، بالمقارنة مع طريقة التفكير في العصور الماضية جميعًا، إن «علاقات» الظاهرة المعينة بسواها، أصبحت محور البحث والنظر، بعد أن كان الظن قديمًا هو أن الظاهرة المعروضة للبحث هي بذاتها التي تحمل في جوفها علة حدوثها؟
لا، إنه لا مندوحة لنا إذا أردنا الفهم الواضح الذي يرد الفروع إلى أصولها، من أن نضع المشكلة في مكانها من الخريطة العامة، لنرى ما يحيط بها من شمال وجنوب وشرق وغرب، ما العلاقات التي تربطها بذلك المحيط.
ومما يعترض به المهندس كمال فرج غبريال في رسالته، أنني قد جعلت عصرنا هذا حلقة مضطربة بين عهدين، قد سبقتها مرحلة استقرت فيها الحياة على ركائز ثابتة، وسوف تلحقها مرحلة أخرى مستقرة كذلك على قوائمها، وأما عصرنا — هكذا كنت زعمت في مقالي — فيعيش قيمًا مهتزة مبهمة المعالم؛ لأن فيها القديم الذي أخذ في طريقه إلى الزوال، كما أن فيها الجديد الذي بدأ يطل برأسه فوق سطح الماء … فيقول صاحب هذه الرسالة ما خلاصته أن الحضارة الإنسانية لم تعد تتعرض لتغيرات حادة في مسارها، ففي كل دقيقة يكشف عالم صغير الشأن كشفًا صغير الشأن كذلك، ومن هذه الأحداث الصغيرة المتوالية ينشأ التيار (ناقص)، ومعنى هذا هو أن شعور الناس بالحيرة والقلق، هو شعور قائم لا ينقضي بانقضاء هذه المرحلة التي نجتازها.
وأحب أن أرد على هذه الملاحظة بنقطتين، أولاهما هي أن التغيرات الصغيرة المتوالية في مسار الحضارة، لا تمنع أن تتميز فيها — آخر الأمر — مراحل مختلف بعضها عن بعض، وإلا لما استطاع المؤرخون أن يميزوا بين قديم ووسيط وحديث، والأمر في هذا هو كالأمر في حياة الفرد من الناس، فهو وإن تغير كل يوم تغيرات صغيرة متلاحقة، إلا أن هذا التغير المستمر لا ينفي أن تتميز في مجرى حياته مراحل الطفولة والشباب والكهولة، وأما النقطة الثانية، فهي وجوب التمييز بين القلق الدائم الذي هو لازمة من لوازم الحياة من حيث هي حياة، والقلق العابر الذي يظهر حينًا، ثم يختفي باختفاء دواعيه، والقلق الذي يشكو منه شبابنا، وهو موضوع حديثنا، هو من هذا الصنف العابر.
وهناك رسائل يطالبني أصحابها بمزيد من الإيضاح، فيقول المهندس الزراعي محمد عبد الحميد مطر، أنني قد ألقيت الضوء على الإطار العام، دون الخوض في التحليل الذي هم في أمس الحاجة إليه، كأنما أنا قد وصفت المرض وأسبابه — كما يقول — دون وصف العلاج، ثم يضيف قوله: إن الإنسان ليشعر اليوم بدوار وضياع، فما هو الملاذ! أيكون هذا الضياع من صنع العلم الذي ساد عصرنا؟ فإذا كان الأمر كذلك، فماذا يكون بديلنا عن العلم؟ لقد ضاع المقياس العام بين الناس، وبات كل فرد يعيش في نفسه ولنفسه، فهل من أمل عندي في مقياس عام جديد؟
وقريب من هذه الأسئلة سؤال ورد في رسالة محمد نجيب سعد طالب الدراسات العليا، إذ يقول في ختام رسالته بنغمة المستنكر: ولكن ما هي تلك الحضارة التي قاربت على الاكتمال؟
وجوابي الذي أسارع به، هو أنني لا أعرف ماذا تكون الركائز الجديدة التي سوف يكتب لها أن تستقر، بل ولم يكن ذلك هو موضوع الحديث؛ لأن حديثنا كان منصبًّا على عصرنا الذي نجتازه، والذي سبب القلق في نفوس الشباب، لكثرة ما يطرأ عليه من صور التحول، ولقد فرغت لتوي من قراءة كتاب الدكتور إسماعيل صبري عبد الله «نحو نظام اقتصادي جديد»، فوجدت هذا المفكر الناصع المبين، يفتح أعيننا على كثير جدًّا من حقائق العصر الراهن، من زاوية اقتصادية، ولئن كنت قد وقفت متسائلًا متشككًا عند مواضع كثيرة في كتابه، إلا أنه قد تركني والفكرة عندي مؤيدة واضحة، بأن أزمات عصرنا — على حد تعبيره — قد جاءت دحضًا صارخًا لعدد كبير من الأفكار التي كانت في حكم المسلمات طوال الثلاثين عامًا الماضية، «وانتشر الإحساس بأن العالم قد وصل إلى لحظة انفصام تاريخية بين القديم والجديد».
نعم، إنه عصر مليء بالمفارقات العجيبة، فلقد ازداد الإنسان وعيًا بحقوقه، ومن أهمها حق الحرية، حتى ليتميز العصر بكثرة الشعوب التي ظفرت بحريتها ممن كان يستبد بها — من خارجها أو من داخلها — لكن هذه الحرية نفسها سرعان ما أوقعته في حيرة، متسائلًا بينه وبين نفسه: كيف يحياها؟ أيحياها بأن يترك نفسه على هواها، كما حاولت جموع الشباب في كثير من بقاع الأرض أن تفعل، أم يحياها ملتزمًا بمبادئ وأهداف، كما يدعو إلى ذلك الكثيرون من قادة السياسة وأصحاب القلم؟ وهو عصر زودته علومه بوسائل اتصال لم يقع لها شبيه في أحلام الحالمين، وكان المنطق يقتضي أن يؤدي هذا الاتصال اليسير السريع إلى تقارب بين الشعوب، لكن التاريخ لم يشهد عصرًا كعصرنا، حرصت فيه الشعوب على مميزاتها التي تنفرد بها، حتى لا ينجرف شعب فتضيع هويته في هوية سواه، ومعنى ذلك هو أن المساواة المزعومة بين الناس وبين الشعوب، لم تزل لفظًا على الشفاه، إذ لا يزال الناس رجلين — كما كانوا في عصر الكهوف — آكل ومأكول.
وهو عصر ازدادت فيه الدنيا ثراء بغزارة إنتاجها، لكن ساءت وسائلها في توزيع ثرائها سوءًا زاد الهوة اتساعًا بين الفقر والغنى، خصوصًا بين الأمم، مما يضع الشعب الفقير في منزلق يخشى معه في كل لحظة أن تنزل به ضربات الغني فيهوي إلى غير قرار.
إنه عصر وضع فيه الإنسان قدميه على سطح القمر، لكن التقدم العلمي الذي حقق له ذلك، ترك الأمراض تنهش الناس على الأرض نهشًا، لقد كانت علمية العصر تقتضي مزيدًا من العقلانية التي تكنح النزوات في صدور أصحابها، ومع ذلك فقد رأينا تيارًا يجرف الناس — والشاب منهم بصفة خاصة — نحو عفوية الطفولة، وأرادوا أن يلفتوا الأنظار إلى الوجهة الرومانسية الجديدة، ففعلوا ذلك عن طريق الأغراب في الثياب وفي عشوائية السلوك، وإذا قال لهم قادتهم إن إصلاح الحال بطيء الخطى، وإن عليهم أن يصبروا إلى حين صاحوا بشعارات تقول: الحرية الآن! السلام الآن! الازدهار الآن!
إن هنالك من رجال الفكر من يرى وجهًا للتشابه بين التحول الذي يجتازه عصرنا، والتحول الذي اجتازته أوروبا (ومن بعدها بقية العالم) من حياة العصور الوسطى اللاعلمية إلى العصر الحديث العلمي، غير أن التحول هذه المرة ليس بين غياب العلم وحضوره (والمقصود هنا هو العلم الطبيعي)، بل هو تحول في الصورة المثلى لحياة الإنسان ماذا تكون؟ أتكون السيادة فيها — بلغة الأساطير اليونانية القديمة — لفضائل أبولو، أم تكون للمتعة النشوانة التي أرادها ديونيس؟ أعني هل تكون الأولوية في حياة الإنسان للواجب، أم تكون لإشباع الرغبات؟ هكذا يتساءلون هناك، بل إنهم ليتساءلون: أتكون الغايات القصوى للعمل أم تكون للفراغ؟ أيكون المحور هو الذات في خدمة أهوائها أم يكون التضحية بالذات في سبيل الآخرين؟ أسئلة كهذه مطروحة، مما جعل كثيرين من أصحاب الرأي يقطعون بأن موجة قوية من إحياء الدين في النفوس ينتظر قيامها لتملأ هذا الفراغ الرهيب، لكنهم في الوقت نفسه يتوقعون للموجة الدينية المرتقبة أن تتعلم من خبرة التاريخ، فلا تجعل اهتمامها الأول بالشعائر السطحية الظاهرة، بقدر ما تجعل ذلك الاهتمام بالروح الديني الذي يتحول في الإنسان إلى وجهات نظر وطرائق سلوك.
إن عالمنا اليوم يتخبط في الاختيار بين البدائل المطروحة أمامه، يقبل اليوم ما يرفضه غدًا، ويرفض اليوم ما يقبله غدًا، وكأنما هو في حيرته يتساءل مع أبي العلاء المعري قائلًا: يا ليت شعري ما الصحيح؟ ولم يكن الأمر كذلك في القرن الماضي وأوائل هذا القرن، إذ كان هنالك أمام الناس طريق واحد مطروح بكل سيئاته، ثم لا خيار، كان العالم الذي يؤبه له هو أوروبا وأمريكا، وأما بقية الدنيا فهي تقترب من الحضارة، أو تبتعد بمقدار اقترابها أو ابتعادها عن ذلك النموذج الواحد الفريد، لم يكن أمام الناس اختيار بين حضارة الغرب من جهة، وحضاراتهم الأصيلة من جهة أخرى، وبالتالي لم تعترضهم المشكلة التي تعترض شعبًا كشعبنا اليوم، وهي مشكلة الصياغة الجديدة التي نبحث عنها لنمزج فيها بين قديمنا وجديدهم.
خذ دول العالم الثالث — ونحن منه — وانظر إلى ما يتجاذبه في داخله من بدائل الاختيار في بنائه الاقتصادي والاجتماعي: فهنالك منَّا من يصر على أن ننسلخ انسلاخًا تامًّا عن الأسس السائدة في العالم كله، لنلوذ بما كان عند السلف، ومنا من لا يجد مناصًا من قبول النظم السائدة بعد تعديلها لتلائم ظروفنا، ومنا فريقٌ ثالثٌ ينحاز بكل كيانه إلى ما هو سائد في العصر بغير تعديل، ومرة أخرى نسأل: يا ليت شعري ما الصحيح؟
واترك دنيا الاقتصاد بمنازعاتها، وعش حينًا مع أهل الفكر والفن، تجد تخبطًا بلغ المدى، فهنالك في الغرب نفسه من يكافح في سبيل العودة ثقافيًّا إلى ما قبل العلم والصناعة، فها هو ذا — على سبيل المثال — الدكتور ليفس الناقد الرائد، وهو من أساتذة كيمبردج في إنجلترا، أخرج كتابًا منذ سنوات قلائل، اختار له عنوانًا بيتًا من شعر «بليك»، وهو عبارة تقول: «كلا، ولا سيفي» التي أوردها الشاعر حين قال ما معناه: إنني لن أكف عن القتال بالفكر، كلا، ولا سيفي سيرقد في يدي، إلى أن تنحسر عن البلاد موجة الحضارة الصناعية الجديدة، وهذا هو المعنى الذي أراد الدكتور ليفس كذلك أن يقوله في كتابه المذكور، ولكن إلى جانب من أرادوا مقاومة التيار الحضاري الجارف، هنالك بالطبع عشرات لا تتحرك أقلامهم إلا بالدعوة إلى الجديد وما بعد الجديد.
قيم تظهر وقيم تختفي، وما بين الظهور والاختفاء نعيش اليوم، فلا ندري في أكثر الحالات أيها راحل وأيها مقيم، ولقد زارني شاب، متفتح العقل ليناقشني وجهًا لوجه في صورة المستقبل الذي نتحول إليه، فقلت له: كان ينبغي أن أكون أنا السائل وأنت المجيب، فالمستقبل هو من نصيبك لا من نصيبي، فماذا تريد له أن يكون؟ ارسم أنت وسائر الشباب الحيران صورة المستقبل كما يتمناها لأمته وللعالم، ثم سيروا على طريق التحقيق.