المواهب الدفينة
شاءت لي المصادفة أن أجد من الرسائل التي انتظرت عودتي، عددًا ليس بالقليل، جاءني من جهات مختلفة الأشخاص والظروف، لكنه يحتوي على نغمة متشابهة من أنين الشكوى، ولم تكن هي الشكوى المألوفة من ظلم وقع، أو من كارثة حلت، أو من مستعين يطلب العون، أبدًا، لم تكن الشكوى المشتركة في تلك الرسائل العديدة شيئًا من هذا المألوف، بل كانت من رغبة أصحابها الشديدة في القراءة وعجزهم عن شراء ما يريدون قراءته.
ولست أميل إلى إحراج هؤلاء بسؤالهم: لماذا لا تلجئون إلى المكتبات العامة لتستعيروا منها مادة للقراءة؟ فقد تكون لهم أعذارهم في ذلك؛ لأن منهم من يسكن الريف، حيث لا مكتبات، ومنهم من يسكن المدن ذات المكتبات، لكنها مكتبات لا تحقق لهم رغباتهم كما يحدث في معظم الحالات، لا، لست أريد توجيه سؤال كهذا؛ لأنه يكفيني الآن أن يكون هذا الواقع الأليم قد وقع، وهو أن محبًا للقراءة في اتجاه معين، قد حال فقره دون أن يحقق ما أراد.
ولعل أشد هذه الرسائل تحريكًا للعاطفة، رسالة لا تقتصر فيها الشكوى على قلة المورد المالي، بل تجاوزتها إلى ما هو أفدح وهو إن أباه قد هدده بمنع هذا المورد القليل إذا هو أساء فيه التصرف، فاشترى كلامًا فارغًا يسميه الناس كتبًا، وأولى له ثم أولى أن يضع المال فيما هو أنفع، فيضعه في طعام يأكله أو شراب يشربه، ولهذا الشاكي أخوة جامعيون، جعلوه سخريةً لهم كلما رأوه يحمل في يده كتابًا غير الكتب المقررة عليه في الكلية التي يدرس فيها، واستطرد صاحب الرسالة الشاكية ليروي رواية فيها من الفكاهة بمقدار ما فيها من المرارة، خلاصتها أن أحد أقربائه قد أعطاه جنيهًا مكافأة له على نجاحه، فذهب به إلى «الدار القومية للتوزيع» في بلده — دمنهور — وطلب كتابًا لكاتب معين، لكن الدار لم تكن بها لهذا الكاتب إلا كتاب واحد ثمنه خمسة وتسعون قرشًا، فاشتراه على ظن منه أنه سيجد فيه القراءة السهلة التي تعودها في ذلك الكاتب، فإذا هو عند تقليبه لصفحات الكتاب، أمام مادة علمية موغلة في التخصص الأكاديمي، فماذا يصنع المسكين بعد أن وضع رأس ماله كله ثمنًا لهذا الكتاب المستعصي؟ لقد عاد به إلى المكتبة ورده إليها، واستبدل به كتبًا أخرى لم تكن هي التي أرادها …
إنه إذا كان التفكير المنطقي المتماسك محكومًا بقواعد يمليها العقل لا يكون أمام الإنسان العاقل إلا أن يرضخ لها، فإن توارد الخواطر لا تحكمه مثل تلك القواعد الصارمة، فلا تدري قط ما هو الخاطر الذي سيقفز إلى ذهنك بعد خاطر سبقه، نعم إنه لا بد أن تكون هنالك بين الخاطر السابق والخاطر اللاحق علاقة ما، من تشابه أو تضاد أو غير ذلك، لكن لكل خاطر معين من الأشباه والأضداد عددًا كبيرًا، فأي هذه الأشباه أو هذه الأضداد هو الذي يكتب له أن يقفز إلى الذهن؟ إن علم ذلك يجاوز قدرة البشر في يومنا.
وعلى أية حال كان الأمر، فالذي حدث بالفعل هو أنني حين قرأت تلك الرسائل الشاكية، وسرحت بفكري لحظة، كان الذي وثب إلى رأسي هو قصيدة «تومس جراي» (١٧١٦–١٧٧١م) التي هي من عيون العيون في الأدب الإنجليزي، وعنوانها «مرثية كتبت في فناء كنيسة ريفية»، ولعل الذي استثارها في ذاكرتي بمناسبة هؤلاء الشبان الطامحين إلى معرفة تعذرت عليهم بسبب العوز، أقول: لعل الذي استثار قصيدة «المرثية» لتومس جراي في ذاكرتي، هو تلك المصادفة العجيبة — والسعيدة — التي صادفتني منذ قريب، وقد كنت في طريقي بالسيارة العامة من وندسور إلى لندن، وإذ نحن في قلب ذلك الريف الجميل، قيل إن الكنيسة التي كتب تومس جراي رائعته الشعرية في فنائها، تقع على بعد أمتار من الطريق العام، وكان أن وقفت بنا السيارة بضع دقائق، حتى نخطف نظرة من ذلك المكان، الذي أصبح هدفًا للزائرين.
خمسون عامًا كاملة — من سنة ١٩٢٦م إلى سنة ١٩٧٦م — قد انقضت ما بين اليوم الذي قرأت فيه تلك القصيدة قراءة درس وتمحيص وتحليل، وهذا اليوم الذي أجد نفسي فيه واقفًا في المكان نفسه الذي أرسل منه تومس جراي بصره وبصيرته معًا ساعة الغروب إلى مجموعة المقابر التي ظهرت شواهدها في فناء تلك الكنيسة الريفية المتواضعة، وهي مقابر الفقراء الذين لم يكن لهم من دنياهم إلا العمل الشريف في المزارع والمراعي، لكنه العمل الذي يقف بصاحبه في حياته عند اللقمة التي تشبع من جوع، ثم يقف به بعد موته عند قبر متواضع يشق له في فناء الكنيسة.
فمن ذا كان أدراني في ذلك اليوم البعيد الذي قرأت فيه قصيدة جراي، أنني سأنعم بعد هذه العشرات كلها من السنين بأن أجول ببصري حيث جال الشاعر ببصره، وأن أرى شواهد القبور التي ربما كانت هي نفسها الشواهد التي رأى؟ لكن ها هي الشجرة بذاتها التي جلس تحتها الشاعر عندما أخذ بياض النهار ينقضي ليتلوه سواد الليل، ونظر أمامه إلى أشجار مشعبة الجذوع، يتفجر تحتها عشب جياش بخضرته، نبت هنا وهناك فوق ما يشبه الكثبان المكتسية ظهورها بما يشبه الوبر، وما تلك الكثبان المخضرة بعشبها إلا ظهور للقبور التي رقد فيها هؤلاء الرعاة أو الزارعون بعد حياة كان العيش فيها شظفًا، وكانت السواعد العاملة فيها قوية تحطم الأرض العنيدة بضربات فئوسها، كما تنحني لتلك الضربات غلاظ الشجر.
لكنهم اليوم راقدون — كما يقول تومس جراي — لن يوقظهم نسيم الصبح المعطر كما كان يوقظهم، كلا ولا طيور السنونو في تغريدها على السقائف، ولا صيحة الديك في نفيره، لن يوقظهم شيء من هذا، فهم فوق أسرتهم الوطيئة راقدون إلى الأبد، لا، لن تشتعل لهم المدفأة بلهبها بعد اليوم، ولن يكون في انتظارهم زوجات يعددن لهم الدار لساعة العودة في المساء، ولا الصغار سيسرعون إلى الترحيب بأبيهم العائد في كلمات ملثوغة الحروف …
ثم يمضي الشاعر في هذا الرثاء للكدح الفقير الراقد بين يديه ليقول: لربما أرقدوا في هذا المكان المهجور قلبًا كان يومًا مترعًا بشعلة السماء، أو أرقدوا يدين كان يمكنهما — لو أتيحت الفرصة — أن تقبضا على صولجان الملك، أو أرقدوا أصابع كانت — لو واتتها الظروف — لتبث الحياة في القيثار.
لكن حاملات العلوم والفنون لم تشأن أن تبسطن صفحاتهن المليئة بثمرات الزمن أمام أبصار أولئك المساكين، فكان أن أطبق عليهم صقيع الفقر ليخمد جذوة الإلهام في القلب المتفتح، وليشل الأيدي ويجمد الأصابع، فلا تقبض الأيدي على صولجان للحكم، ولا تمس الأصابع أوتارًا لتحييها بالنغم.
كم تحوي الكهوف المعتمة العميقة في غور المحيط من لآلئ كانت لتومض ببريقها الصافي لو كشف عنها الغطاء؟ كم زهرة أينعت بلونها غير مرئية، فضاعت نضارتها هباءً في هواء الصحراء؟
… هكذا يتساءل الشاعر وعيناه على قبور الفقراء في فناء الكنيسة المتواضعة، فلقد طويت صفحة المعرفة عن أولئك البسطاء، فعاشوا بمواهبهم خرساء بكماء، ثم ماتوا لم يفصح منهم من كان في مستطاعه أن يفصح لو أتيح له العلم، ولم ينبغ منهم أحد في فن أو في قتال ممن كان في مقدوره أن ينبغ لو لم تسد دونه أبواب الظهور.
ويواصل الشاعر التأمل في تلك القبور، ثم يقول: قد يكون في هؤلاء من كان بوسعه أن يتصدى للطغاة كما تصدى لهم القادة الزعماء، وقد يكون فيهم شاعر من قامة ملتون، ولكنه مكتوم اللسان فلم يفتح له المجد صحائفه ليخلد، وقد يكون في قبر من هذه القبور محارب من طراز كرومول، ودون أن يدنس يديه — كما دنس كرومول — بدماء مواطنيه.
خمسون عامًا كاملة مضت بين قراءتي القراءة الدارسة لمرثية تومس جراي، وبين وقفتي في فناء الكنيسة بين قبورها، وقد كان محالًا ألا تطفو في ذاكرتي عندئذٍ الأسئلة التي ألقاها الشاعر ساعة الإنشاء، والتي خلاصتها: كم من إنسان حال الفقر بينه وبين التحصيل في دنيا العلوم والفنون، فعاش مغمورًا ومات مغمورًا، مع أنه قد كان ذا موهبة لو وجدت ما يشعلها لكان هو العالم الفذ أو الشاعر العبقري أو القائد اللامع.
فلم يكن عجيبًا أن أقرأ رسائل الشاكين من الموانع التي تصدهم عن القراءة، ثم أترك الرسائل وأسرح بخواطري، فإذا قصيدة تومس جراي هي التي تثب إلى ذهني بكل ما فيها من حسرة على من دفنت معهم مواهبهم الخرساء حين دفنوا، فلعل هذه الشكوى الموجعة من غلاء الكتب بالنسبة إلى الكثرة العظمى من شبابنا القارئ لعلها تصل إلى مسامع الدولة الاشتراكية، فتعلم أن الكتاب يجب أن يعان كما يعان الرغيف.
وعلى ذكر القراءة أنتقل إلى رسالة أخرى من صنف آخر، فهي رسالة من شاب بدأ خطوته الأولى في طريق الصحافة، ويسألني النصح فيما ينبغي أن يضعه نصب عينيه في عمله الصحفي، ولقد كنت أتمنى له أن يتوجه بالسؤال إلى من هو أخبر مني وأبصر، لكنني أقص عليه القصة التالية:
كنَّا ونحن طلاب، قد اجتمع منا أربعة أو خمسة، اتفقت ميولهم على أن يضيفوا إلى الدراسة في الصباح تدريبًا على الصحافة في المساء، إذ كان للصحافة في أعيينا بريق، فذهبنا معًا ذات مساء، وعرضنا الأمر على إحدى الصحف الكبرى، وأوضحنا لرئيس التحرير أننا لا نريد لقاء العمل التدريبي أجرًا، لكنه اعتذر في أدب ناصحًا إيانا أن نقصر جهودنا على مذاكرة دروسنا، فذهبنا إلى صحيفة أخرى هي جريدة السياسة، التي كانت لسانًا لحزب الأحرار الدستوريين، وأردنا مقابلة الدكتور هيكل الذي كان رئيسًا لتحريرها، لكنه كان في تلك الليلة غائبًا، وما كدنا نخطو نحو الخروج خطوتين، حتى نودينا لنقابل الدكتور حافظ عفيفي، وكان من أقطاب الحزب، فأحسن لقاءنا، وأمر ففتح لنا صالون خاص بكبار الأعضاء، وما زلت أذكر كيف خطف أبصارنا ذلك اللون الأحمر الذي يملأ الصالون بساطًا وجدرانًا ومقاعد، وجلسنا وجلس معنا الدكتور حافظ عفيفي، وتحدثنا إليه واستمع، وقال آخر الأمر أنه يعتقد أن الدكتور هيكل — إذا ما قابلناه في اليوم التالي — سيوافق على تدريبنا، ثم أضاف قائلًا: لكنني أحب منذ الآن أن أزودكم بنصيحة، وهي أنه ما من موضوع يطوف ببالنا أن نكتب فيه، إلا وقد سبقنا إليه الكاتبون بكثير أو قليل، وإذن فلا بد من القراءة الطويلة العميقة الفاحصة المتأنية قبل الكتابة، فليست الكتابة الجيدة هي أن تجلس إلى مكتبك، أمامك الورقة منشورة وفي يدك القلم، بل الكتابة الجيدة هي ما استندت إلى تحصيل غزير يسبقها بصورة مباشرة أو غير مباشرة، فإلى المواطن الشاب الذي أرسل إليَّ يطلب النصح فيما ينبغي أن يفعله منذ خطوته الأولى على الطريق، أقدم نصيحة كانت قيلت لنا يوم أن كنا في مثل شبابه، مع أننا كنا هواة، وهو يريد أن يحترف وإذن فالنصيحة التي كانت قيلت لنا بوجوب القراءة قبل الكتابة يجب أن تضاعف مرتين.