مجتمع جديد أو الكارثة
ليس هذا العنوان من عندي، ولكنه عنوان كتاب يشتمل على بحث علمي اضطلع فيه فريق من الباحثين، مستهدفين به وضع الأساس النظري الذي يمكن أن يقام عليه مجتمع جديد في أمريكا اللاتينية بصفة خاصة، لكننا إذا قلنا أمريكا اللاتينية فقد قلنا بالتالي أقطار العالم الأخرى، مما اصطلحوا على تسميته بالعالم النامي تأدُّبًا، إذ أرادوا في حقيقة الأمر أن يطلقوا عليه اسم العالم المتخلف، وهو متخلف بالفعل قياسًا على ذلك الجزء من العالم المتقدم، أو المتقدم جدًّا أحيانًا، إذا جعلنا معيار التقدم العلم التقني (التكنولوجي) ودرجة التصنيع.
ولقد أشرف على إخراج هذا الكتاب «مركز البحوث للتنمية الدولية»، وهو مركز يمثله عندنا في القاهرة مكتب إقليمي يديره الأستاذ صلاح دسوقي (محافظ القاهرة السابق)، وهو الذي تفضل، فأرسله إليَّ مع مطبوعات أخرى عن نشاط المركز الدولي ومكتبه الإقليمي، ولم أكد أنقل بصري في صفحاته، حتى قفزت إلى ذاكرتي لحظة زمنية مرت بي — أو مررت بها — عندما كنت في الطائرة مسافرًا إلى أوروبا فأمريكا في أوائل الخريف الماضي، وأعني بها تلك اللحظة التي قرأت فيها مقالة في إحدى الصحف الإنجليزية، أحدثت في نفسي مزيجًا من دهشة وغضب وتفكير، وكان الذي استوقف نظري عند تلك المقالة، عنوانها الغريب، وهو — على ما أذكر — «استفتاء عالمي عن الله والمال والسعادة»!
والذي قام بالاستفتاء هو معهد جالوب المشهور، أجراه على عشرة آلاف إنسان، وجمع نتائجه في ثمانية عشر مجلدًا، فكان من أهم نتائجه تلك الفروق الطويلة العريضة العميقة بين بلدان تقدمت وأخرى تخلفت، مما جعلني أتساءل جادًّا: أهو عالم واحد هذا الذي نعيش فيه، أم هو في الحق عالمان! فيكفي — مثلًا — أن تعرف بأن تسعمائة مليون شخص من سكان أمريكا اللاتينية وأفريقيا والشرق الأقصى، يعيش الواحد منهم طول العالم على دخل أقل مما يكسبه العامل الأمريكي في يوم واحد! ولذلك فقد تبين من هذا البحث الإحصائي أن أهم ما يشغل الناس في البلاد الفقيرة هو تدبير الطعام — أبسط الطعام — لذويهم، على حين أن مشكلة الطعام هذه لا تطول ببال عند ساكن الأجزاء المتقدمة الغنية من العالم.
وهنالك فروق بين العالمين غير فوارق المال، قرأت عنها في تلك المقالة ولم أعجب لها؛ لأنها نتائج طبيعية للفجوة الواسعة العميقة بينهما في دنيا الاقتصاد، ومن أمثلة ذلك أن أهل البلاد المتقدمة يحبون أعمالهم، بينما العمل بغيض عند أهل البلاد المتخلفة، والأغلبية العظمى من أبناء الريف في البلاد الفقيرة تعمل على الهجرة إلى المدن التماسًا لرزق واسع، بينما الأغلبية العظمى من أبناء المدن في البلاد الغنية تتمنى أن يكون مقامها في الريف التماسًا للراحة بعد ساعات العمل.
وأكتفي بهذا القليل الذي حفظته لي الذاكرة مما كنت قرأته في تلك المقالة، قراءة مسافر يطلب التسلية على الطريق، لكن هذا الكتاب الذي جاءني شأنه آخر، فقد كان ابتداء من عنوانه: «مجتمع جديد … أو الكارثة» بمثابة الجرس الزاعق الذي تدقه سيارات إطفاء الحريق في شارع مزدحم، ليخلي لها الطريق، وإنها لمصادفة جاءت في أوانها، فلئن كانت مقالة الطائرة قد أثارت في نفسي مزيجًا من الدهشة والغضب والتفكير، ففي هذا الكتاب كثيرٌ مما كنت أبحث عنه، نعم إنني لم أعتد قراءة بحوث من هذا الطراز، لكنني خرجت عن مألوفي هذه المرة لخطورة السؤال، وضرورة البحث عن الجواب.
إن عالمنا كما هو قائم الآن يشقيه الفقر الفظيع في ناحية، ويفسده البذخ والإسراف في ناحية أخرى، وإن الموقف المأسوي الحزين ليضاف إليه جانب من السخرية اللاذعة، نسخر بها من أنفسنا حين نكتفي بأن نطلق على القسم الأول — وهو ثلثا سكان الأرض — البلاد النامية، وعلى القسم الثاني — وهو ثلث السكان — البلاد التي نمت بالفعل، ومصدر السخرية اللاذعة عندي هو في الإيحاء بأن النامية في طريقها إلى أن تلحق بالتي حققت نموها، مع أن الفجوة مع الزمن تزداد؛ لأن المتقدم يسرع في تقدمه بنسبة أكبر جدًّا من سرعة المتخلف في سيره إلى الأمام.
على أن المتقدم والمتخلف في هذا التقسيم الحضاري، لا تحدده الحدود الجغرافية تحديدًا فاصلًا؛ لأن القسمين يتداخلان، بمعنى أن تجد داخل البلاد المتخلفة فئات من أهلها تعيش على المستوى العالي الذي يعيش عليه أهل البلاد المتقدمة، بل قد تزيد، فضلًا عن وجود بلاد وضعتها ثروات أرضها في مقدمة الأغنياء، أما حضارتها فقد أمسكت بها مع الأسرة المتخلفة، وكذلك لا شأن — من تقسيم عالمنا بين تقدم وتخلف — لاختلاف الأنظمة الاجتماعية السياسية، وهي أنظمة قد تتنوع بدرجة كبيرة، إلا أنها تدور حول محورين رئيسيين، هما محور الرأسمالية من جهة، ومحور النظم الاشتراكية من ناحية أخرى، فمن الأولى ما هو غني ومتقدم، وما هو فقير متخلف، وكذلك من الثانية بلاد تقدمت وأخرى تخلفت.
وتعليل ذلك ليس ببعيد، فالتقدم الذي يصاحبه الغني، مرهون بالعلم التقني (التكنولوجي) والتصنيع، وليس في هذا المجال فرق بين أن يكون البلد رأسماليًّا أو اشتراكيًّا، ومعنى ذلك أنه إذا أراد العالم لنفسه نجاة من أزمته الراهنة، فلا بد له من تصور جديد لمجتمع جديد، وهذا التصور هو الذي حاول الباحثون في الكتاب الذي أشرت إليه، أن يترسموه ليرسموه، فلأول مرة نلحظ شيئًا من التقاء الأفكار بين أبناء البلاد المتقدمة وأبناء البلاد المتخلفة على السواء؛ وذلك لأن كلا الفريقين بدأ يحس بأن العالم كله — المتقدم منه والمتخلف — كأنما يقف على شفا حفرة من نار، فالمصير واحد بالنسبة للقسمين معًا، ولا خلاص لهما من ذلك المصير إلا أن يتعاونا على إقامة مجتمع جديد، لا يكتفي فيه بترميم البناء القديم، بل هو مجتمع يقوم على أسس أخرى غير التي كانت؛ لأنه لا بديل لمثل هذا المجتمع الجديد إلا كارثة تكرث أهل الأرض جميعًا.
بل إن الكارثة المرتقبة قد أحاقت فعلًا بثلثي البشر، جوع وعري وأمية وموت مبكر وإسكان لا يفي بالحد الأدنى من ضرورات الحياة، وتصحيح هذا الوضع البائس لهؤلاء الملايين، يستحيل أن يتحقق والعالم المتقدم في صمم وعمى؛ لأن هذا العالم المتقدم جزء من علة الكارثة؛ لأنه كلما أطرد به السير السريع في التنمية والإنتاج، ثم الإسراف المجنون في البذخ والتبذير، كانت النتيجة المحتومة هي أن يزداد الفقير فقرًا والمتخلف تخلفًا، فكما أنه في داخل البلد الواحد لا يتم إصلاح حقيقي إلا إذا تحقق شيء من المساواة بين الأفراد، فكذلك الأمر على مستوى العالم، لا أمل في إصلاح ما لم تتحقق تلك المساواة نفسها، أو شيء منها بين الأمم.
فما هي الأسس الأولية التي يقترح للمجتمع الجديد أن يقوم عليها؟ أولها هو هذه المساواة التي أشرنا إليها، مساواة على المستوى القومي ومساواة على مستوى العالم بأسره، فلكل إنسان على وجه الأرض — من حيث هو إنسان وكفى — حق نابع من فطرته البشرية نفسها في أن يشبع حاجاته الطبيعية الأساسية من تغذية وإسكان ورعاية صحية وتعليم؛ لأنه بغير أن تجد هذه الحاجات الأساسية ما يشبعها إلى الحد المعقول، فإنه يتعذر على الإنسان أن يشارك في الحياة الحضارية مشاركة مقرونة بالكرامة الواجبة، وليست المشاركة في الحياة المتحضرة الكريمة مما يجوز أن يغني فيه إنسان عن إنسان؛ لأن «فرض عين» كما نقول في الفقه، أي إنه فرض مفروض على كل إنسان باعتباره إنسانًا.
والمجتمع الجديد المقترح ليس مجتمعًا استهلاكيًّا على الصورة التي نراها اليوم في البلاد المتقدمة والغنية، بل هو مجتمع إنتاج، والإنتاج فيه تحدده الحاجات الطبيعية الضرورية لكل إنسان، لا الربح الذي يجيء أو لا يجيء، فلا ينبغي للاستهلاك أن يكون غاية في ذاته، كما هي الحال الآن، إذ ننتج من السلع ما لا تقتضيه الحاجة، ننتجه لا لشيء إلا ليلهو به أصحاب الثراء، في الوقت الذي نترك فيه ملايين الناس يعوزهم سد حاجاتهم الضرورية، لكننا إذ نقول إن الإنتاج محدد بالحاجات الضرورية لا يفوتنا أن نشير إلى أن تلك الحاجات نفسها تختلف باختلاف العصور، واختلاف الثقافات والحضارات، فلا بد من مسايرة التغيرات الطارئة بحكم العصر وثقافته وحضارته، فما لم يكن حاجة ضرورية في ظل ثقافة ماضيه، قد يصبح الآن ضرورة لا غنى عنها، والأمثلة على ذلك كثيرة.
ولذلك يقترح أصحاب المشروع المقدم، بألا يترك الأمر في تعيين الحاجات الضرورية في مجتمع ما، لأفراد يقرونه كما شاء لهم هواهم، بل لا بد من مشاركة أفراد الشعب، عن طريق القنوات المشروعة في ذلك القرار، وهو قرار له خطورته العظمى؛ لأن عليه تدور رحى الإنتاج، فننتح ما يكون معظم الشعب بحاجة إليه، ونهمل ما ليسوا بحاجة إليه في المرحلة المعنية من العصر المعين، فرض الحاجات الفعلية كما يحسها جمهور الناس، وترتيبها بحسب الأهمية التي يرونها لها، يكون هو أساس الخطة في عملية الإنتاج والنموذج المقترح في هذا البحث الذي نتحدث عنه، وهو نموذج قد يصلح لأمريكا اللاتينية، ولا يصلح لسواها هو أن تلك الحاجات الأساسية التي يجب أن تكون مدار النشاط الإنتاجي خمس، هي: التغذية، والإسكان، والتعليم، وسلع استهلاكية وخدمات أخرى، وسلع استثمارية، لكن هذه الحاجات الخمس كم يراها أصحاب البحث، لا تقع كلها في درجة واحدة، فالثلاث الأولى: التغذية والإسكان والتعليم، حاجات أساسية للحاضر، وأما البند الخامس وهو: السلع الاستثمارية، فهو يشير إلى حاجات أساسية للمستقبل، ويبقى الرابع وهو: الخدمات الأخرى والسلع الاستهلاكية، كالثياب والأدوات المنزلية والخدمات التعليمية الإضافية وغيرها، فتكون هذه هي منزلته من الترتيب.
وواضح أن إقامة المجتمع الجديد لا تعتمد على جهود البلاد المتخلفة الفقيرة وحدها؛ لأن ذلك لا يجدي ما لم تدخل البلاد المتقدمة الغنية معها في عملية التغيير، تغيير نفسها أولًا، وتغيير الآخرين ثانيًا، إذ إنه من المفارقات العجيبة في عصرنا، أن التقدم والتخلف كليهما كانت له آثاره التي اجتمعت معًا، وكونت الأزمة التي يعانيها المجتمع، فلئن كان التخلف قد صحبه البؤس المادي من جوع وعري ومرض وجهل، فإن التقدم قد صحبه كذلك مرض خاص به، نشأ له عن التفاوت بين الناس، تفاوتًا في المال، أو تفاوتًا في السلطة، مما أدى إلى نتيجة شبيهة جدًّا بالنتيجة التي أصابت المتخلفين، لولا أنها هذه المرة ضرب من القلق يسمونه ﺑ «الاغتراب»، فسواء كان الحاصل جوعًا وعريًا، أو كان شعورًا عند الناس بأنهم من أوطانهم في غربة، فالنهاية واحدة، وهي ضرورة التغيير، ولا عجب أن نجد تشابهًا في الضيق بين شباب المتقدمين وشباب المتخلفين على حدٍّ سواء، وإن يكن لكلٍّ من الفريقين علته، فلم يعد من مناص من التفكير الجاد في تغيير الأسس التي يقوم عليها المجتمع الإنساني بأسره، وإلا فالكارثة لاحقة بالجميع.