إقطاع فكري في حياتنا
من أين تتراكم لي هذه الأوراق، تسد عليَّ منافذ الخزائن والرفوف، في مكتبتي الصغيرة المتواضعة؟ إنني كلما أردت كتابًا طال العهد بيني وبينه، أخذت أتسلل إليه بأصابعي بين الصفوف، فتقع أصابعي على كتل ورقية مهجورة في الأركان المظلمة، وأجذبها لأرى … هذه حزمة من فواتير النور خلال عامين، وهذه مجموعة صور لقطها هواة التصوير في إحدى رحلات الصيف، وتلك نسخات طبعتها الآلة الكاتبة لبضعة أحاديث إذاعية قيلت منذ عشرة أعوام، والأخرى غلاف كبير يصون في جوفه منوعات من خطابات وردت منذ سنين، لا يربط بينها رابط سوى أنها التقت عند شخص واحد …
لا أريد أن أتهم نفسي بالكذب، فأقول إنني ممن يبعثرون الأشياء يمينًا ويسارًا، ثم ينسون أين وضعوا الفواتير وأين حفظوا الخطابات، أبدًا أبدًا، فعندي من دقة الترتيب قدر يحسدني عليه كثيرون: الأوراق في معظم الحالات موضوعة بنظام معلوم في أدراجها، ومكتبتي متوسطة في حجمها، فهي ليست من المكتبات التي يعدها أصحابها بالألوف، ثم يعلنون عن عدد ألوفها في الصحف، لا لأني لست قارئًا، ولكن لأني منذ مدة طويلة ألقيت ببصري إلى بعيد، وأدركت كيف تضيق البيوت — مهما رحبت غرفها وأبهاؤها — بخزائن الكتب، أو بأكداسها وهي ملقاة على الأرض في غير خزائن، أدركت ذلك منذ زمن طويل، فحاولت جهدي أن أضع الحوائل، حتى لا تتسرب الكتب إلى عقر داري إلا بالحد الأدنى، معتمدًا في قراءاتي على المكتبات العامة ما أمكن ذلك، لكن الكتب مع الزمن تتراكم رغم ذلك، وكلما أردت لها نظامًا، جاءت الإضافات الجديدة تتوالى فيفسد عليَّ نظامها، كان مثلي الأعلى أن توضع الكتب كلها رأسية على جوانبها، بحيث تظهر أسماؤها على كعوبها، وألا يكون على الرف الواحد إلا صف واحد، لكن هيهات ذلك المثل الأعلى أن يستقيم له وجود، فقد كان لا بد — مع الزمن — أن يتجاور صفان من الكتب على كل رفٍّ واحد، ثم تضيق المساحة المتاحة، فتوضع فوق الصفين كتب على ظهورها أو على بطونها، فاختلطت الفلسفة بالأدب، وامتزج العربي منها بغير العربي، حتى إذا ما سعيت إلى كتاب، تسللت إليه بأصابعي خلال الفجوات، فتقع أصابعي — كما قلت — على الكتل الورقية التي ذكرتها.
ووقفت بالأمس عند مجموعة من الخطابات القديمة طال هجرها، فجلست لأرى فيها ماذا؟ ومن؟ ومتى؟ حتى لقد نسيت الكتاب الذي كنت في سبيل البحث عنه، فكان أن وجدت هذا الخطاب العجيب، إنني لا أذكر من يكون كاتبه، ولعله قارئ من عابري السبيل، إنني — في الحق — لم أتعود حفظ الخطابات ولا حفظ الصور، فتراني أمزقها أولًا فأولًا، إلا ما كان منها مظنة عودة أرجع بها إليه إذا اقتضى الأمر، فيترك، ثم ينسى، وكان هذا الخطاب العجيب — بالطبع — واحدًا من هذا الطراز.
الخطاب يتقطر مرارة، وكأن كاتبه ملأ قلمه بنقيع الحنظل، ولم يملأه بمداد وأخذ يطرح أمامي من حياته الخاصة صورة بعد صورة، وله في الكتابة طريقة تكاد تنطق بالصدق الذي لا يحتاج إلى حلف بقسم ولا إلى شاهد للإثبات، ولماذا — يا ترى — وقع اختياره عليَّ دون سواي؟ ماذا كنت يومئذٍ بحيث تخيل أني ذو نفع فراح يبثني شكواه؟ لم أعد أذكر من ذلك شيئًا؟ ومع ذلك فما قيمة هذا الآن؟ ها هو ذا خطاب بين يدي، قدم به العهد بعض الشيء، لكنه كان صادقًا في حينه، وما زلت أراه صادقًا فلماذا لا نخرج بعضه إلى النور؟ وأقول «بعضه»؛ لأنه أطول جدًّا مما يسعه جزء من صفحة في جريدة يومية، ولذلك فسأقفز بين الصور التي رسمها كاتب الخطاب قفزًا، نكتفي فيه بالنماذج ذات الدلالة.
… هل سمعت — يا سيدي — بطائر يسمونه أبا زريق؟ إنه — كما يقول عنه الدميري — طائر على قدر اليمامة، حاد البصر، يشبه صوته صوت الجمل، ومأواه قرب الأنهار، والأماكن الكثيرة المياه، الملتفة الأشجار، وله لون حسن وتدبير في معاشه، ويروي الدميري كذلك، نقلًا عن أرسطو في هذا الطائر أنه ربما أفصح بالأصوات كالقمري، وربما أبهم كحمحمة الفرس، لكن الذي لم يذكره الدميري ولا أرسطو عن أبي زريق هذا، أنه ينهب حصاد غيره، فغيره يعمل وهو الذي يحصد، ويريد أبو زريق — مثلًا — أن يضع البيض، فلا يهم ببناء العش الذي يبيض فيه، وينتظر، ويرق الطيور الجادة العاملة، حتى إذا ما وجد طائرًا منها قد فرغ لتوه من إقامة عشه بين غصون الشجر، انتهز صاحبنا أبو زريق فرصة غيابه سويعة، وقفز إلى العش «الجاهز» ورقد فيه ليبيض، فإذا كان في عالم الطير ما يشبه «الإقطاع» في عالم البشر، كان أبو زريق هذا أبشع إقطاعي عرفناه! ومن هو الإقطاعي في دنيا الزراعة؟ أليس هو الذي يدع العاملين يشقون بحرث الأرض وزرعها وريها، حتى إذا ما جاء وقت الحصاد، كان الحصاد حصاده هو، دون أن يمسك بيده فأسًا ليحرث، ولا أن يدير الطنبور ليروي؟ فهكذا يفعل أبو زريق في عالم الطير، وهكذا — أيضًا — يصنع صاحبي الذي أردت أن أصوره لك في دنيا الفكر والتأليف، إنه في هذه الدنيا هو «الباشا» الذي لا يلوث أصابعه بالحبر والطباشير، لكن عينيه لا تغفلان عما ينتجه من لوثوا أصابعهم، إنه يرقبهم إلى أن يفرغوا من بناء ما يبنونه، فيضع اللافتة التي تحمل اسمه على الباب …
تلك صورة لنموذج من نماذج الإقطاع الفكري في بلادنا، وصورة أخرى فريدة في بابها، ليس بينها وبين الإقطاع الزراعي ذلك الشبه القوي الذي رأيناه في الصورة الأولى، فالإقطاعي هذه المرة لا يضع بيديه لافتة باسمه على باب أحد، بل يفضل أن ينسب لكل ساكن ما بناه، ولماذا لا يترك الديار لأصحابها؟ لكنه يسهر الليل ويقضي النهار، في رسم الخطط الدقيقة المقيسة بالمليمترات، وهي خطط تستهدف هدفًا عجيبًا، قلما يطوف للسذج من أمثالنا ببال، والهدف العجيب هو أن يحس سكان المدينة الثقافية — وهو أحدهم — بدافع خفي، لا يدفعهم به أحد، بل هم الذين يندفعون به من تلقاء أنفسهم، وكأنه صادر عن ضمائرهم الخالصة، نحو أن يذهبوا جماعة، عن اختيار حر وطواعية نفس، إلى دار صاحبنا ليضعوا بأيديهم عليها اللافتات الدالة على أنه أديب موهوب وبحاثة غاص إلى أعماق البحر يجمع الدر من صدفاته، فلا عليه أن يقرأ، ودع عنك أن يكتب (ولو أنه يقال إن له مقالة كتبها ذات يوم لا أدري أين)؛ لأنه بقدرة قادر وهاب يستطيع أن يكون هو الأديب الموهوب، وهو البحاثة المتبحر، بغير قراءة ولا كتابة، يفضل الخطط المحكمة التي يسهر على تدبيرها ساعات ليله، ويقضي في مراجعتها ساعات نهاره — إلا ساعات قليلة يتركها للنوم والطعام — فهو يرسم بمهارة بارعة أين يجلس في المحافل العامة، ومع من يتحدث ساعة التصوير، ولقد شهدته بنفسي ذات يوم، فاجأه واحد من خلق الله الذين لم يسمع بهم أحد، فوقف إلى جواره لحظة بفعل المصادفة البحتة، وكانت كاميرات المصورين في طريقها إلى المكان، فأصابته رعدة؛ لأنه مما يفسد عليه خطة اليوم كله، أن تلتقط الآلات الصماء البكماء صورته مع هذا الجار المجهول، فيكون في أعين الناس نكرة مغمورة، ولو إلى حين.
وصورة ثالثة للإقطاع الفكري الذي نحياه في بلادنا، لا هي كالصورة الأولى التي يضع فيها الإقطاعي بيضه في أعشاش بناها آخرون، ولا هي كالصورة الثانية التي يلجأ فيها الإقطاعي إلى طلسمات سحرية تجذب الناس جذبًا إلى حمله على أعناقهم، دون أن يكون في يديه ما يقدمه ساعة الحساب يوم القيامة، بل إن هذه الصورة الثالثة تختلف، فالإقطاعي هنا يملك أرضًا بالفعل؛ لأنه قرأ ودرس وكتب، ولكن ما القراءة وما الدراسة وما الكتابة بغير أن يكون هنالك إلى جواره النافخون في الأبواق، والنفخ في الأبواق سره باتع؟ فقد جاء في الإصحاح السادس من سفر يسوع أن بني إسرائيل أرادوا الاستيلاء على مدينة أريحا، وكانت هذه المدينة قد أحاطت نفسها بسور، اتقاءً لغزوة تجيئها بغتة من بني إسرائيل، ومع ذلك فقد جاء يوم الغزو، فكيف جاء؟ تجمع بنو إسرائيل حول السور من خارج المدينة، وكان فيهم سبعة كهنة يحملون الأبواق، وقيل للجمهور الإسرائيلي المحتشد أن ارقبوا نفخة الكهان في أبواقهم، حتى إذا ما اهتز بها الهواء اصرخوا بأعلى أصواتكم، فيسقط السور من هول الصراخ، وتنفتح لكم المدينة.
إنه لا لوم هنا ولا عتاب، فهذا الضرب الثالث من الإقطاع الفكري، له عند أصحابه ما يبرره، وهم كثيرًا ما يهمسون هذا التبرير لأنفسهم، بل قد تفلت الألسنة فيصرحون به، فتسمعهم يقولون: إن الله سبحانه وتعالى ما خلق الإنس والجن إلا ليعبدوه، وليس هو — جل جلاله — بحاجة منهم إلى عبادتهم، لكنه الاعتراف بالفضل وهو أمر واجب.
وصورة رابعة لعلها تكون أعجبها جميعًا، يؤكد صاحب الخطاب أنه شهدها وتعقب خطواتها من قرب، حتى لا يخطئ البصر، هي صورة شاعر عظيم، له في دنيا الشعر باع وذراع، وقدم وساق لا ينكر ذلك أحد عليه، لكن لماذا لا يكون مفكرًا وباحثًا إلى جانب الشعر؟ وما دامت جبلته لا تحتمل التفكير والبحث في بطون الكتب، فوسيلة الوصول هي إغراء من يستطيع له ذلك، ولقد كانت له دماثة الطبع، عذوبة الخلق، وحلاوة اللفظ، مما يوقن به أن يشل الفريسة فلا يتحرك من بدنها شلو إلا بعد أن يتحقق له منها ما يريد، وما هو إلا أن يصعد الشاعر العظيم منبر المحاضرة ليلقي على السامعين رائعة فكرية جديدة جاءهم بها، ثم لا تلبث الصحف والمجلات أن تنشر الخبر بنصه وفصه، ومن الذي يجرؤ على أن يشيع في الناس أن محاضرة الشاعر العظيم إنما كانت حصادًا لزرع أنبته سواه؟ وإذا هو أشاعها فمن الذي يصدقه؟ أنسيت قصة الأميرة (وهي قصة من الواقع الحقيقي) عندما تأزمت حالها في بلاد الغربة، فأخذت تبيع حبات عقدها من اللؤلؤ الحر، حبة حبة، وبعد كل حبة تبيعها تضع مكانها أخرى رخيصة الثمن فلا يجرؤ أحد على مجرد الظن بأن عقد الأميرة قد ذهبت عنه نفاسته، كلا، ولا يطوف ببال أحد كذلك، أن يظن بعقد السيدة التي هي من عامة الناس، واشترته من الأميرة، وبات عقدها أنه من ذلك الصنف النفيس؛ لأن النفاسة لا تكون إلا حول أعناق الأميرات!
والخطاب طويل، وفيه من الصور أشكال، ولقد تمنيت بعد قراءة هذا الخطاب، أن أجد الطريق إلى كاتبه، لأستحلفه الله: أحقًّا هذه كلها صور من الإقطاع الفكري نعيش في ظلامها؟