عبيد المذاهب
علمتني خبرة السنين — بين ما علمتني — أن من أخطر مزالق الفكر، أن أقيد نفسي في حدود إطار مذهبي، تقييدًا يجعلني أرجع في كل أموري إلى مبادئ مذهب معين، فما وجدته متفقًا مع تلك المبادئ قبلته، وما لم يتفق معها رفضته؛ وذلك لأن الخبرة علمتني بأن تيار الحياة أغزر جدًّا من أن يلم به مذهب واحد محدد بعدد قليل من المبادئ والقواعد، ولذلك كان من التطور الطبيعي في حياتي الفكرية — دون أن أتعمد شيئًا عن تخطيط وتدبير — أن أجدني قد اتخذت لنفسي من اتجاهات الفلسفة المعاصرة، اتجاهًا هو في حقيقته «منهج» للتفكير، لا «مذهب» يورط نفسه في مضمون فكري بذاته، فكنت كمن وضع في يده ميزانًا يزن به ما يشاء، دون أن يملأ يديه بمادة معينة لا بد أن تكون هي وحدها موضع الوزن والتقدير.
وشأني — كشأن غيري من الناس — إذا ما أنس في نفسه ميلًا يلائم طبيعتها، فإنه يزداد طمأنينة وثباتًا لو رأى هذا الميل نفسه قد تمثل في عملاق عمالقة الفكر، وتلك كانت حالي حين وجدت الإمام الغزالي في نهاية كتابه «ميزان العمل» يجيب سائلًا جاء يسأله عن ضرورة أن يكون للإنسان مذهب يتبعه، فأخذ الإمام يحذره أقوى ما يكون التحذير من أن يجعل من نفسه تابعًا لأحد فيما ذهب إليه: «ولو ذكر ذاكر مذهبه، فما منفعتك فيه؟» هكذا قال له، ثم استطرد ليقول إن كل مذهب له ما يخالفه في مذهب آخر، وليس في أي منهما معجزة تجعله أرجح من منافسه «فجانب الالتفات إلى المذاهب، واطلب الحق بطريق النظر»، ولماذا تضع نفسك موضع الأعمى يتقيد في خطواته بخطوات قائده الذي يرشده إلى الطريق، مع أن في الناس ألفًا مثل قائده ذاك «فلا خلاص إلا في الاستقلال».
إذا جعلت منطقي دائمًا هو المشكلة التي أمامي وكيف حلها، وجدت إلا حاجة بي إلى قيود أقيد بها نفسي مقدمًا، إلا أن يكون هذا بعينه هو القيد، أعني أن ألتزم بحل المشكلات التي تعترض طريق الحياة، أما كيف يجيء هذا الحل؟ فلست أدري؛ لأن في طبيعة كل مشكلة ما قد يوحي بطريقة حلها، ولقد وقفت أمام نفسي — منذ قريب — موقفًا عجيبًا، حتى اضطررت أن أخفيه عمن جاء يتحدث إليَّ في شأن مذهبي في السياسة ما هو، وكان هذا الذي جاءني باحثًا مغتربًا قد فرغ من الخطوط الأولى لكتاب يضعه في الحياة السياسية في مصر، فرأيته قد صنفني صنفًا لم يذكر فيه إلا شخصي، وهو ما أسماه بالليبرالية المعتدلة، أو يسار اليمين، على حد تعبيره هو.
أقول: إني وقفت من نفسي — عندئذٍ — موقفًا عجيبًا حاولت أن أكتمه أمام زائري؛ لأنني — أولًا — لم أكن أعلم بأن لي في الفكر السياسي باعًا أو ذراعًا، فأنا في دنيا السياسة قارئ صحف، لا يزيد على أن يحاول فهم ما يقرؤه، ثم لا يجرؤ أمام ضمير على أن يكون صاحب رأي شامل مما يصح أن يسمى في السياسة مذهبًا، وثانيًا — لأنني أميل إلى الاعتقاد بان هذه الأسماء التي يطلقونها على المذاهب السياسية، كالليبرالية، واليمين، واليسار وغيرها، هي من غموض المعنى، وإبهام المعالم، بحيث أعجب ممن يستخدمونها في جرأة وبساطة، وكأنهم عندهم قد أصبحت واضحة الدلالة محسومة الحدود، فكيف أوصف بشيء منها، وأنا لا أعلم على وجه الدقة ما هي؟ اللهم إلا أن يكون ذلك على وجه التقريب الذي قد يفيد في التعليمات المجردة، ولا يفيد عندما نصطدم بأرض الواقع ومشكلاتها.
قد يقال لي: كيف لا تعرف أن الليبرالية هي التركيز على الحرية الفردية، وأن اليسار صفة تطلق على الاشتراكية، بمختلف درجاتها، وأن اليمين صفة أخرى تطلق على من أراد المحافظة على القديم؟ قد يقال لي ذلك فلا يسعني إلا الاعتراف بأنني أعرف هذه الفواصل النظرية بين الاتجاهات الثلاثة في عمومها، لكن الذي لا أعترف به ولا أعرفه، هو أن تكون هذه الفواصل قائمة بحدودها الواضحة، حين نكون في غمرة المشكلات الكبرى — أو الصغرى — والتماس حلول لها، خذ كبرى هذه المشكلات في حياتنا: مشكلة الوجود الإسرائيلي وكيف نقاومه، وإلى أي حدٍّ نهادنه أو لا نهادنه؟ وقل لي على أي نحو تجيء المقاومة أو المهادنة منطلقًا من المبدأ الليبرالي، ثم كيف تجيء منطلقًا من قاعدة اليسار أو قاعدة اليمين؟ وخذ مشكلات كالانفجار السكاني ومحو الأمية، فهل لها عندك حلول ليبرالية وأخرى يسارية وثالثة يمينية؟ صحيح أنني قد طالعت في صحفنا آراء هي أعجب ما يتوقع قارئ أن يطالعه في صحيفة؟ وهي أن محو الأمية والانفجار السكاني وما شابهها من معضلات، إنما هي تضليل جاءنا من حضارة الغرب المادية — هكذا والله طالعت — وأما حضارتنا نحن الروحية فلا تعرف أمثال هذه الضلالات، فلا تنظيم الأسرة يعنيها، ولا محو الأمية يهمها، وبناءً على هذه الحضارة الروحية لا تعد هذه المسائل من الشئون التي تدخل في اخصاص البشر، أو التي تتطلب العناية والحل، لكن أمثال هذه المواقف لا مكان لها في دنيا المذاهب السياسية، فلا هي ليبرالية ولا هي من اليمين ولا هي من اليسار؛ وذلك لأن هذه المذاهب على اختلافها تزعم للناس أنها تعرف كيف يكون الطريق إلى العمل، مع أن أمثال هذه الآراء تدعو إلى الكف عن العمل، وإذن فهي — في هذا السياق — لا تدخل في الحساب.
ولقد شاءت لي مصادفة نافعة، أن أقرأ تعليقًا مشتركًا على ثلاثة كتب ظهرت دفعة واحدة في إنجلترا، وكلها يعالج المذهبية السياسية في مختلف أوضاعها، أحدها يختص بحزب المحافظين عندهم، والثاني يختص بالمذهب الليبرالي، والثالث يختص بالاتجاه الاشتراكي عندهم أيضًا، فلفت نظري أن كاتب التعليق قد لحظ في الكتب الثلاثة اختلافات في تصنيف الأشخاص فمن عدهم الكتاب الأول محافظين، وجدهم هم أنفسهم معدودين في الكتاب الثاني من الليبراليين، ومن قالوا عن أنفسهم إنهم ليبراليون، عدهم صاحب الكتاب الثالث اشتراكيين، حدث هذا مع أن المؤلفين الثلاثة من أساتذة النظريات السياسية في الجامعات البريطانية، فماذا نقول إزاء هذا الاختلاف إلا أن المذاهب السياسية يتداخل بعضها في بعض، بحيث يتعذر حتى على المختصين أن يلحظوا الفواصل الفارقة في هوامش التداخل بينها، وهي هوامش عريضة لا يجوز إسقاطها من النظر؟
وندع الليبرالية جانبًا، تلك التي نسبني إليها زائري الباحث، عندما قال عني في مشروع كتابه أنني ليبرالي معتدل، ندعها جانبًا؛ لأنه إذا كان من أهم ما يميز النزعة الليبرالية وهي في أوجها إبان الثلث الأخير من القرن الماضي، والشطر الأول من هذا القرن، هو أنها تجعل حقوق الأفراد وحريات الأفراد محورًا أساسيًّا لها، فإن هذه الحقوق والحريات التي تنسب إلى الأفراد، قد دخلتها الصفة الاجتماعية، حتى ليصعب على أي كاتب سياسي في الدنيا بأسرها، أن يتحدث اليوم عن «الفرد»، إلا من حيث هو عضو في جماعة، بحيث يصبح مستحيلًا عليه أن يفهم حريته وحقوقه، إلا حين تكون هذه الحرية والحقوق اجتماعية في أهم خصائصها.
ولهذا أقول: فلندع جانبًا هذه الليبرالية التي أراد الباحث أن يصفني بها، ولننظر في الصفة الأخرى، التي هي أنني أمثل — بين من يمثلون — يسار اليمين، فالذي أعرفه من فواصل التمييز بين اليسار الخالص واليمين الخالص، هو أن اليسار «أيديولوجي» الطابع، بينما اليمين لا تعرف له «أيديولوجية» محددة المعالم؛ لأن اليسار يضرب ببصره إلى المستقبل، بينما اليمين يتجه ببصره إلى الماضي، وواضح أن من يحتاج إلى خطة مفصلة تبين طريق السير، هو الذي يسير تحو مستقبل لم يقع بعد في خبرة التاريخ، وأما من يميل إلى الأخذ بما أخذ به الأسبقون، فالنموذج أمامه «جاهز»، وليس ثمة ما يدعو إلى «أيديولوجية» تبين معالم الاتجاه.
وإذا كان كذلك، فماذا تكون الصورة فيما يسمى بيسار اليمين؟ ولست أسأل عن الصورة النظرية؛ لأن أمرها سهل، إذ ما أيسر أن أقول — مثلًا — أن يسار اليمين يمزج بين الماضي والمستقبل في وجهة واحدة للنظر، ولكنني أسأل عن الصورة العملية، عندما نكون بصدد مشكلة حقيقية نريد حلها، ولنفرض أنها المشكلة الاقتصادية التي نجتازها، بحيث يكون السؤال المطروح هو: كيف ندبر المال لمشروعات الإنتاج؟ كيف نزيد من المدخرات المحلية؟ وكيف نحصل على القروض الخارجية، وما شابه ذلك من أسئلة في الموضوع، فعلى أي نحو يجيب يسار اليمين، بما ليس يجيب به الآخرون؟ وحتى إذا اختلفت بينهم الإجابات، فهو اختلافٌ قائمٌ على حساب، وربما صدق الحساب عند أحدهم وأخطأ عند الآخر، لكن هل يقصد أحدهم ليقول: أنا يساري وبناء على ذلك يكون الادخار كذا وكذا، فيقف بعده الآخر ليقول: وأنا يميني ولذلك يجب أن يكون الادخار كيت وكيت؟!
أريد أن أقول إن حلول المشكلات بطريقة علمية مؤدية إلى النتائج السليمة، تأتي أولًا، ولمن أراد بعد ذلك أن يصف الموقف، بعد فراغنا من تشكيله بأنه موقف مما يوصف باليسار، أو مما يوصف باليمين، فليفعل ما أراد، لكن وصفه ذاك لن يغير من الحقيقة الواقعة شيئًا، بعبارة أخرى يجوز لنا أن نصنف الناس مذاهب، «بعد» أن نفحص الطرق التي سلكوها في حياتهم، وفي معالجة مشكلاتهم، لا «قبل» أن يصنعوا من ذلك شيئًا، وإلا انقلب المذهب شعارًا لفظيًّا لا ندري مدى ما يكون له من صدق على الواقع.
ولست أريد بهذا كله أن أنفي، ولا أن أثبت، ما وصفني به الباحث الزائر، ولكن الذي حصرت على بيانه، هو أن يكون المذهب المزعوم مستخلصًا من عمل تم إنجازه بالفعل، لا تبدأ بقيد صاحبه مقدمًا قبل أن ينجز شيئًا.
على أن أسبقية المشكلات الفعلية وحلولها على تكوين المذاهب النظرية، بحيث تأتي هذه المذاهب، وكأنها بمثابة التنظير الذي يلخص الأساليب المختلفة التي لجأ إليها الناس فعلًا لا التي «يجب» أن يلجئوا إليها في حل مشكلاتهم، أقول إن هذه الأسبقية للحياة العملية على المذاهب النظرية، هي نفسها — في رأيي — التي كانت المصدر الحقيقي الذي اشتق منه فلاسفة النظريات السياسية فلسفاتهم في هذا المجال، بدءًا من أفلاطون وأرسطو وانتهاءً بماركس، ومرورًا في الطريق على الفارابي وهوبز ولوك وروسو وهيجل، فلم يكن هؤلاء الفلاسفة يسكنون بروجًا من عاج أو من حجر، كما يظن بهم عادة، بل هم ينظِّرون (بتشديد الظاء) ما حولهم من حياة واقعية، تنظيرًا يعكس بدوره جوانب الكمال وجوانب النقص في تناول الناس لمشكلاتهم، فهي إذن مذاهب نبتت من تربة الأرض، ولم تهبط من السماء، وكلما تغيرت هذه التربة، استتبع ذلك تغيرًا في وجهة النظر.