ذبابة تعقبتها
كانت الشمس في ضحاها ذات يوم من أيام الشتاء، وكنت في غرفة مكتبي من البيت، وزجاج النوافذ مغلق، يشف عما وراءه، ولقد راق وكأنه لا زجاج بيني وبين الخارج، لولا ذبابة كانت تجول على سطحه الخارجي، فتدل بوجودها على وجوده.
وجاءت طائرة كانت لبضعة أيام تعاودنا في مثل تلك الساعة من كل صباح، جاءت مسبوقة بصوتها، تسمعه آذاننا قبل أن تراها عيوننا، وهي تختال قريبة من أسطح المباني، تكاد تلمسها بعجلاتها، تنفث وراءها سحبًا من الدخان، وقيل إنه دخان يحمل معه قاتلات للذباب، فطافت برأسي رغبة مجنونة، وهي أن أتعقب تلك الذبابة الواحدة، التي كانت تجول على زجاج نافذتي؛ لأعرف مصيرها في سحابة الغاز، وبالطبع لم يكن مصيرها في ذاته هو مبعث اهتمامي، بل كان مبعث الاهتمام في الحقيقة هو أن أعلم مقدار تأثير الغاز الذي تنفثه الطائرة في الذباب.
وقفت خلف الزجاج لأرقب من قريب، فرأيت الذبابة وقد أخذتها ارتعاشة عصبية أول الأمر، لا تكاد تتجه نحو اليمين، حتى ترتد فجأة نحو اليسار، ثم ما هي إلا أن تقف في مكانها هامدة أو كالهامدة، وانقشع الدخان المسموم، وعاد إلى الهواء صفاؤه، ولم تكن إلا بضع دقائق، وبدأت الذبابة تحرك من بدنها ساقًا هنا وقرنًا هناك، حتى امتلأت بنشاطها وعادت تجول وتقفز وتطير، وللذباب أحيانًا نقلات سريعة خاطفة، بحيث تراها وقد غيرت مكانها، دون أن تراها وهي في طريق طيرانها إلى مكانها الجديد.
رجعت إلى مجلسي، أنفذ ببصري مرةً أخرى خلال الزجاج الشفاف، لكنها كانت — هذه المرة — هي النظرة الشاردة التي يصاحبها خيوط متفرقة من أفكار متقطعة، لا تستقر على موضوع واحد، وفي مثل هذه الحالة لا تدري عن أفكارك من أين تأتي، ولا إلى أين تنتهي، فهي أفكار أقرب إلى أحلام اليقظة منها إلى التفكير المركز، ولكم يحدث لأحلام اليقظة وما يشبهها من الخواطر السارحة أن تجمع لصاحبها الأفكار — في غدوها ورواحها — بحيث ينظر صاحبها إلى الحصيلة التي تجمعت له، فإذا بين يديه قصة بحذافيرها، أو موضوع متكامل الأطراف، لا ينقصه — أو ينقصها — إلا أن تكتب على الورق.
فلأمر ما، تخيلت الطائرة النافثة لمواد التطهير، وكأنها تمثل الحركة الفكرية التي تحرك بها أعلام نهضتنا منذ قرن كامل أو يزيد، فما انفكوا طوال الأعوام المائة أو ما يزيد على الأعوام المائة، ينشرون في الناس أفكارًا كان من شأنها — لو فعلت فعلها — أن تطهر جماجم الناس من خرافات كانت تملؤها حتى فاضت عن حوافيها لتعشى بها الأبصار، فماذا صنع الإمام محمد عبده إذا لم يكن قد أدخل في تلك الجماجم أشعة من ضياء «العقل» تطارد خفافيش الخرافة! وماذا صنع العقاد وهو يعد — بحق — استمرارًا للشيخ محمد عبده في جهوده التي أراد بها أن يمزج وجدان الإيمان بمنطق العقل؟! وماذا صنع لطفي السيد الذي أوشك أن يتحول كيانه إلى عقل مجسد، يهتدي هو بمنطقه أولًا، ثم يأمل أن تسري منه العدوى إلى الآخرين؟ وماذا صنع طه حسين إذا لم يكن قد حاول أن يعلم الناس كيف يقبلون الرأي وهم على حذر حتى لا تنزلق بهم أقدامهم إلى باطل؟! وماذا صنع فلان وماذا صنع من بعده علان، من حملة المشاعل خلال مائة عام مضت أو ما يزيد على المائة عام؟
لا، لا، إنه لم يعد يكفيني أن ألقي السؤال هكذا في عمومه، لأكتفي به بجواب يغلفه الغموض، وإلا فما أسهل أن نقول: إن تلك الحركة الفكرية التي تحرك بها أولئك الرواد نحو نظرة عقلية حاولوا أن يشيعوها في الناس، بمواقفهم أولًا، وبما كتبوه ثانيًا، قد أثمرت ثمارها، بل لا بد من تعقب الذبابة الواحدة على لوح الزجاج؛ لنستوثق من بلوغ الرسالة إلى الفرد الواحد؛ لأن دمج الفرد في مجموعة تغرقه مع غيره قد يوهمنا بغير الواقع.
وخبرتي في مهنة التعليم شاهد على ذلك، فالفرق بعيد بين أن تلقي سؤالًا على المجموعة ليأتيك الجواب من خليط الأصوات المتنافسة المتزاحمة، وأن تلقي السؤال نفسه على فرد بعينه وهو وحده، ففي الحالة الأولى كثيرًا جدًّا ما تتوهم بأن المجموعة تعرف الجواب الصحيح، على حين أنك في الحالة الثانية يغلب أن تجد الأفراد عاجزين عن الجواب.
وإذن فلنتعقب أثر أعلامنا جهابذة النهضة العقلية، في أفراد، لنرى كم زال من الخرافة التي حاربوها وكم بقي؟
نحن الآن في سنة ١٩٧٧م، وتسمع الحوار الآتي يدور بين جماعة هي من طبقاتها الفكرية في أعلى عليين، وكان الحديث حول مريض يراد أن تجرى له عملية جراحية في جزء باطني لم أعلم ما هو:
وأنا أسأل: ماذا كان الحوار كهذا ليصبح لو أن هذه الجماعة أو جماعة تماثلها تحدثت في أمر من هذا القبيل سنة ١٨٧٧م، أو تحدثت فيه سنة ١٧٧٧م، أو تحدثت سنة صفر، أو ما تحت الصفر بآلاف السنين؟
ومرة ثانيةً أقول، نحن الآن في سنة ١٩٧٧م، وتقرأ لكاتب — والصحيفة الأدبية تنشر له — يتساءل كيف تعود الشمس إلى الظهور بعد مغيب؟ ثم يقدم حضرته الجواب بأنها في مخبئها — بعد المغيب — تظل تسجد لله رافعة إليه الدعاء بأن يعيدها إلى الظهور يومًا آخر فتعود، فماذا كان يكتب في هذا سنة ١٨٧٧م؟ ثم ماذا كان يكتب قبل ذلك في سنة ١٧٧٧م؟ أو قبل القبل في سنة صفر، أو ما تحت الصفر بآلاف السنين؟
ومرة ثالثة أقول، نحن الآن في سنة ١٩٧٧م، وتسمع حوارًا جادًّا لا يمازجه شيء من مزاح، بين ثلاث أشخاص فيهم أستاذ جامعي، يناقشون زواج الجن بالأنس ما حدوده، إنهم جميعًا على اتفاق بأن الرجل من الإنس قد يتم زواجه من امرأة جنية «ويؤكد لهم الأستاذ الجامعي أنه مارس هذه الخبرة بنفسه»، لكن موضع التساؤل والاختلاف في الرأي بينهم، هو في الموقف المعكوس، أي فيما إذا كان الرجل من الجن يمكنه الزواج من امرأة من الإنس، وعلى أية حالة من الحالات، ماذا يكون مصير الأبناء وإلى أي فئة ينتمون؟ فماذا كان مثل هذا الحوار ليكون لو جرى سنة ١٨٧٧م، أو سنة صفر وما قبلها بما شئت من سنين؟!
أويت إلى مخدعي يائسًا — وكانت الساعة في عز الظهر — ونمت، لأرى في حلمي تلك الذبابة نفسها، التي كنت تعقبتها على زجاج النافذة، عندما نفثت الطائرة بدخان التطهير، وهو دخان قيل إنه يبيد الذباب، ولكن الذبابة التي أعنيها صمدت للمبيد، وانتعشت بعد فترة وجيزة من أثر الغاز المميت، غير أن ذبابتي لم تكن في الحلم سائرة على لوح من زجاج، بل رأيتها — هي هي بعينيها وقرنيها وسيقانها — تهبط على طبق فيه طعام، وتحلق حوله الطاعمون، فثار الجدل بينهم ماذا يصنعون بالذبابة الساقطة أو بالطعام؟ فأفتى أحدهم بأن تغمس الذبابة في الطعام، ثم تنزع منه؛ لأن للذبابة جانبًا فيه الداء، وجانبًا آخر فيه الدواء.
وصحوت بعد تلك الغفوة الخفيفة وما رأيته فيها، وما هو إلا أن أخذتني دهشة الجزع، إذ تذكرت أن هذا الذي حلمت به، إنما هو ترديد لعدة مقالات قرأتها في صحفنا، عن موضوع الذبابة تسقط في الطعام، فماذا يكون من أمرها أو لا يكون؟ كأنه موضوع يحتمل الأخذ والرد والدفاع والهجوم! ومتى قرأت تلك المقالات؟ متى؟ منذ ألف عام؟ منذ مائة عام؟ منذ عام واحد؟ لا والله بل منذ أسبوعين، وهذه هي ثقافتنا بعد كل ما صنعه محمد عبده ولطفي السيد والعقاد وطه حسين، وأعجب من أن يكون هذا نموذجًا من ثقافتنا اليوم، أن تراهم يدرجونه في مقولة الإيمان.