الحوار مع الصغار
هل كان هو الإمام أبا حنيفة النعمان؟ لست أذكر على وجه اليقين، لكن من أعنيه هنا، قد كان إمامًا عظيم الشأن في فقه المسلمين، وكان يلقي درسه ذات يوم، واستأذن في أن يبسط إحدى ساقيه لعلة فيها، وإذا برجل على وجهه هيبة السنين، وقد التحى بلحية بيضاء توحي بالوقار الرزين، يدخل ويجلس في حلقة الدارسين، فما أن رآه الإمام، حتى أسرع فطوى ساقه الممدودة، ولبث طاويًا لها على ألم، إلى أن شاء له الله أن يتجه إليه ذلك الزائر المهيب الطلعة بسؤال، فكشف السؤال عن جهل فاضح، وهنا صمت الإمام قليلًا بغير جواب، ثم بسط ساقه العليلة ليخفف عنها الألم، قائلًا: إذن نمدد رجلنا.
ولقد طاف برأسي هذا المعنى أو ما يشبهه، عندما جاءني طالب عربي يتم دراسته العليا في أوروبا، جاءني ليستوضحني الرأي في بعض ما عرض له، مما يتعلق بدراسته العلمية التي يعدها، ومما ظن أنه ربما وجد عندي في مجاله ما يفيد، وكان الطالب يحمل مجموعة ضخمة من أوراق لم أبين منها شيئًا، لكنه تعمد — بعد بضع دقائق من حديثه معي — أن يبرز من تلك الأوراق مجلة عربية مفتوحة على إحدى صفحاتها، وكان واضحًا أنه أراد لبصري أن يقع عليها، دون أن يطلب مني ذلك بطريقة مباشرة، وكان لا بد لي من سؤال عنها، ما دمت قد رأيت صورتي منشورة على الصفحة المكشوفة من تلك المجلة، فإذا هي مجلة لم أكن قد سمعت بها، وظننتها مما يصدر في غير مصر، لكن الطالب ردني مسرعًا إلى الصواب، فهي مجلة مصرية، وأنظر إلى صفحاتها فأجدها قد خصصت لشخصي الفقير إلى ربه أربع صفحات كاملات ملئت سطورها بسهام مسمومة، ولقد زخرفت صفحات المقال بالألوان، ونثرت على جنباتها فقرات تحيطها بالأطر، حتى لا يخطئها بصر، وتولى كتابتها فنان في رسم الكلمات، فراح يملأ منها إطارًا بخط الرقعة، وإطارًا آخر بخط النسخ، ويملأ بالثلث إطارًا ثالثًا.
لم أكد ألقى البصر على المادة المكتوبة، حتى علمت أن كاتب المقال رجل من هؤلاء الذين يستمرئون قذف الناس بحجارة الكفر والإلحاد، فوردت إلى ذهني عبارة الإمام الفقيه، إذ قلت لنفسي: إذن نمدد رجلنا.
فلو وجدت الكاتب على ذرة من نضج التفكير، لأخذت أهبتي لمبادلته الرأي؛ لأن أمتنا العربية في حاجة إلى كل ذرة من تفكير أبنائها، لكن ما حيلتي وقد وجدت الرجل قد أظهر منذ السطر الأول وهمًا في رأسه بأنه صاحب حق في الحكم على ضمائر العباد وقلوبهم! إنه ينثر أحكامه بالتكفير وبالإلحاد نثرًا بغير حساب، مما دل على ضعف ثقته بإيمانه؛ لأنه لو اشتدت عنده الثقة بنفسه، لما أخذته الغيرة من إيمان الآخرين، وهو يعلم أن كلًّا من هؤلاء الآخرين مسئول أمام ربه بمثل ما هو مسئول، ولأمر ما في فلسفة اللغة العبرية، جاءت كلمة «التكفير» قريبة الشبه من كلمة «التفكير»، كأنما أرادت قوة البيان في اللغة العربية أن تقول للناس، أن تحريف الأوضاع لحرفي الكاف والفاء، مبعثه أن حركة العقل عند تكفيره للآخرين، إنما هي حركة أصابتها لعثمة، فتعثرت الحروف عن مسارها المستقيم، فقد أراد أصحابها ضربًا من التفكير المنتج، لكن مرضًا في عقولهم أنزل الكساح بذلك التفكير المطلوب، فتعثرت خطاه، فانقلب تكفيرًا يؤذي الناطق به قبل أن يؤذي أحدًا سواه.
ومثل هذا الكساح الفكري يشيع إذا ما أصيب القوم بفقر في قدراتهم العاقلة، وهزال في حياتهم الثقافية بوجه عام، ولقد تكرر حدوثه في تاريخ الأمة العربية نفسها، فكلما وهنت القوى وفترت العزائم، نشطت حركة التكفير لتفتك بأي رجل هداه الله إلى ما يرفع به رأسه عن الغث الهزيل، ألست ترى إلى النهر القوي في تدفق مائه، يمضي في طريقه يشق به الصخر لا يبالي الأعلاق والشوائب، حتى إذا ما ركد الماء في مستنقع هنا أو هناك، وجدت تلك الشوائب والأعلاق مرعاها الخصيب.
ونسوق في تاريخ الأمة العربية في حالات ضعفها، مثلًا واحدًا، هو حالة الأندلس، في القرن الثاني عشر الميلادي، حين أخذت سطوة المسلمين تنحسر أمام الغزاة، فكيف كانت صورة الفكر يومئذٍ؟ تكاثر «العلماء» الذين زودوا أنفسهم بأسلحة التكفير، يوجهونها إلى من يخشون فيه القدرة والبأس، حتى لقد وقعت عامة الناس في حيرة من الأمر، فأمامهم «علماء» بحكم المناصب، يقذفون التهم قذفًا ليصيبوا بها فيلسوفًا نادر الطراز في تاريخ الفكر الإنساني كله، فإذا بلغت هوة الخلاف هذا المدى، فما الذي يهدي عامة الناس إلى صواب؟
لكن التاريخ كثيرًا ما ينتقم للحق على الباطل، فتمضي سنوه، وإذا بأولئك «العلماء» قد محيت أسماؤهم من سجله محوًا؛ ليفسح المكان في صفحاته للقادرين، وإذا كنت ممن يلمون بشيء من تاريخ الفكر الإسلامي، فاسأل نفسك: من ذا بقي اسمه مذكورًا مشهورًا من علماء الأندلس في تلك الفترة التي أحدثك عنها؟ هل تذكر منها أحدًا غير ابن رشد؟ فأين إذن ذهب الذين صوبوا إلى صدره السهام، وأحرقوا كتبه أمام عامة الناس؟
وأترك التاريخ الماضي، وأنظر إلى حياتنا الحاضرة: أي صنف من الرجال يا ترى هو الذي مهد لنا طريق النهوض، بعد رقدة عميقة السبات، امتدت بنا ثلاثة قرون على أقل تقدير؟ أي صنف من الرجال يا ترى جعل لنا مدارس ومعاهد وجامعات، وأقام لنا المنشآت الهندسية الكبرى، وقاوم المرض وأزال بعض الظلام؟ أي صنف من الرجال يا ترى هو الذي أجرى على ألسنتنا كلمات الحرية والعدالة والمساواة، بعد أن لحق بها الدثور؟ ضع أمامك قائمة بأعلام نهضتنا الحديثة، وسل نفسك مَن مِن هؤلاء الأعلام بنى مجده ومجدنا على تكفير الناس؟ ألست ترى معي أن الأمم يبنيها جهود إيجابية تضيف علمًا إلى علم، وفنًّا إلى فن، وثراء إلى ثراء، ونورًا إلى نور، ولا يبنيها أبدًا هجمات سلبية تنال من حياة الناس بدل أن تزيدهم حياة على حياة؟ لقد ابتسمت عندما قرأت لذلك الكاتب في مقالته تلك، عبارة يتهددني بها أن يقطع لساني بشاطور! يا سبحان الله! وماذا يضيف إلى أمته بأن يعمل شواطيره في حلوق خلق الله؟ وكم لسانًا أطاحت بها الشواطير في عهد نبي الإسلام وعهود خلفائه؟
لعلي ألمس أكثر مما يلمس غيري حاجة شبابنا الشديدة إلى الهداية نحو ما يمكنهم فعله لتطمئن به قلوبهم وعقولهم، إنهم في ذلك حيرى يتخبطون، وليسوا في ذلك بدعًا وحدهم، بل هي حالة تعم جموع الشباب في كثير من بلاد الأرض، ويكاد الرأي يجمع على أن ثمة فراغًا في نفوس الشباب يريد أن يمتلئ، كما يكاد الرأي يجمع كذلك على أن ملء هذا الفراغ إنما يجيء عن طريق الإيمان القوي بعقيدة الدين؛ لأن عاملًا من عوامل الحيرة عند شباب هذا الجيل — في أرجاء العالم كله — هو عجزهم وعجز القائمين على شئونهم، عن جواب مقنع لمن يسألهم عن الهدف الذي من أجله يعملون، وإذا رأيت اللامبالاة شائعة بينهم، فذلك لأنهم لم يجدوا الجواب المقنع عن هذا السؤال، وهي حيرة لم يكن لها مثيل فيما مضى؛ لأن سؤالًا كهذا كان يجد الجواب الشافي، وهو: الهدف من العمل في نهاية الأمر هو أن يرضى الله عن عباده، وفي ذلك ما يكفي.
وإني لأقع على محاولات كثيرة عند غيرنا، يحاول بها المفكرون ورجال التربية أن يعيدوا إلى نفوس الناس هذا الجواب نفسه، ولكن بالصورة التي تتفق مع روح العصر ومنطقه، وأقرب صورة إلى تلك الروح وهذا المنطق، هي أن يلتمس الإنسان رضا ربه في خدمة الإنسان، فماذا ينفع المريض من عابد لم يجعل جزءًا من عبادته أن يخفف عنه المرض؟ ماذا يفيد الأمي من متعلم لا يمسك بيده، فلا يتركها إلا وهي تخط على الورق؟ ماذا يشبع الجائع أو يكسو العاري من شعائر يقيمها المؤمنون لأنفسهم، ولا يتبعونها بما يعلمهم كيف يعملون وماذا ينتجون لتمتلئ البطون الجائعة، ولتكتسي الأبدان العارية؟
جموع الشباب في العالم كله تريد اليوم أن تسترد إيمانها المفقود، لا ينقصها إلا هداية تضع أقدامهم على الطريق، انظر — مثلًا — إلى تلك الجماعة من الشباب التي رأيتها واستمعت إلى حوارها، في مخيم أقاموه لأنفسهم في الخلاء — وكان ذلك في بلد أوروبي — تجد إيمانًا بالله أقوى ما يكون الإيمان، وحنينًا إلى ذكره وإلى عبادته أحر ما يكون الحنين، ولكن الصوت الغالب في حوارهم ذاك، هو أن الشعائر الشكلية — مهما بلغت أهميتها وضرورتها — فهي لا تكفي لإشباع قلب المؤمن وعقله، بل لا بد أن يتجسد الإيمان واضحًا في عمل ينفع الإنسان.
وإذا انتقلت بحديثي إلى من أراد أن يقطع لساني بشاطور لأسأله: ترى هل ينفع ذلك في تطهير بيت المقدس؟ هل ينفع ذلك في الحد من الأمية الفاشية في مصر؟ هل ينفع ذلك في إيجاد العمل النافع لألوف الأيدي التي تريد أن تعمل لتعيش فلا تجد ما تعمله؟ ويح نفسي، ماذا أقول؟ ومتى عرفت أن الحوار ينفع مع الصغار؟