عقولنا المهاجرة
من ذا يلوم عقولًا تهاجر إلى حيث تجد ظروف الحياة ملائمة لها، تهيئ لها مناخًا أفضل للعمل والنماء؟ إن العقل الإنساني — كأي كائن آخر من كائنات الوجود — لا يعمل منفردًا في فراغ، إنه يعتمد في وجوده على بيئةٍ ملائمةٍ تحيط به، تتحداه بمشكلاتها، ليرد هو على ذلك التحدي بالبحث عن حلول يقدمها لتلك المشكلات، فالعقل هو — كما قيل — كالقلب، يطمئن حيثما وجد الترحيب به، والاستجابة إلى ندائه.
وليس عصرنا هو أول عصر في تاريخ الفكر يشهد هجرة العقول من مكانٍ إلى مكان، سعيًا وراء حوافز الفاعلية والنشاط، بل إن مثل هذه الهجرة هي القاعدة التي تواترت في جميع الحضارات، إذ لا تكاد الموجة الحضارية تبلغ مداها، في هذا الإقليم المعين أو في تلك المدينة، حتى تأتيها العقول الطامحة من كل صوبٍ لتنمو بنمائها وتزدهر بازدهارها، هكذا كانت أثينا القديمة مقصد الفلاسفة والشعراء، وكانت الإسكندرية مقصد العلماء، وهكذا كانت بغداد المأمون، وكانت قاهرة الأزهر، وإنك لتعجب وأنت تقرأ عن الحياة الفكرية عند المسلمين وهم في عزهم الحضاري، كيف كانت العقول الكبيرة لا تستقر بأصحابها في مكان، بل تطوف أرجاء الوطن العربي من أقصى غربه إلى أقصى شرقه، باحثةً عن أندادها لتتفاعل معها وتتعاون، حتى ليصعب عليك في كثيرٍ من الحالات — إلا بعد بحث — أن تحدد الموطن الأصلي لرجل الفكر منهم أين يكون، إنه اليوم في قرطبة، وغدًا في القاهرة، وبعد غدٍ في دمشق، إنه الآن مستقر في المدينة المنورة، وفي آن آخر مستقر في بغداد، لم تكن تعوقه تأشيرة دخول في هذا البلد، ولا تأشيرة خروج من ذلك البلد، فهو في حركةٍ حرة، ينتقل بين مراكز الفكر كما يشاء له عقله المتطلع؛ لأن دولة الفكر أمامه واحدة، وأمة الدين من حوله واحدة، وأرض الوطن العربي واحدة.
على أن العقول في هجرتها، يغلب عليها أن تتجه من الأدنى إلى الأعلى، وهو عكس اتجاه الأنهار حين تنحدر بمائها من أعلى إلى أدنى، وإنا لنلحظ في الحاضر — كما نلحظ في الماضي — أن أقوى البلاد إنتاجًا للعقول القادرة، هي في الوقت نفسه أقواها تقبلًا لتلك العقول إذا جاءتها من خارج حدودها، وعكس ذلك صحيح كذلك، أي إن أضعف البلاد إنتاجًا للقدرة العقلية، هي في الوقت نفسه أضعفها تقبلًا لها إذا وفدت إليها من البلاد الأخرى.
العقول المهاجرة كالطيور المهاجرة، تعرف بفطرتها اتجاه سيرها؛ من أين ترحل وإلى أن تذهب.
يحدثنا علماء الإيكولوجيا (وهو علم يبحث في العلاقة التي تربط الكائن الحي ببيئته) يحدثنا هؤلاء العلماء كيف يستطيع الباحث منهم، إذا عرف العناصر التي تؤلف بيئة معينة، أن يتنبأ بما يقرب من اليقين، بأنواع الحيوان التي سوف يجدها في تلك البيئة قبل أن يراها، كما يستطيع الباحث منهم أيضًا إذا عرف أين يسكن حيوان معين أن يتنبأ بما يقرب من اليقين بنوع البيئة التي هو واجدها إذا قصد إلى ذلك المكان، وذلك لأن العلاقة بين البيئة والكائن الحي الذي يعيش فيها علاقة وثيقة، تمكنك من الاستدلال على أحد الطرفين من معرفتك للطرف الآخر، تعرف ظروف البيئة، فتستدل نوع الحيوان الذي يسكنها، أو تعرف نوع الحيوان، فتستدل ظروف البيئة التي تُئْويه.
وإن حدائق الحيوان لتراعي هذه العلاقة الوثيقة بين الكائن الحي وبيئته، فترى القائمين عليها يعدون لكل نوع من الحيوان ظروفًا للعيش، قريبة بقدر المستطاع من الظروف الطبيعية لمعيشته، وإلا فأين تقفز القردة إذا لم تجد أماكن لقفزها؟ وأين يسبح التمساح أو سبع البحر إذا لم يجد مسكنًا من الماء؟ لكن علماء الإيكولوجيا هؤلاء، لا تكفيهم في علمهم تعميمات مبهمة، لا يكفيهم — مثلًا — أن يقولوا إن الأسماك تسكن البحار، وإن الخنافس تحتمي بالصخور لتختفي تحتها، بل إنهم ليمعنون في دقة التحديد، حتى ليقولوا أي نوعٍ من الأسماك أنت واجد في المكان الفلاني من البحر أو النهر أو البحيرة، وأي نوعٍ من الحشرات هنا، وأي نوعٍ منها هناك؛ وذلك لأن العلاقة — ونقولها مرةً ثانية — هي علاقة وثيقة بين الكائن الحي والبيئة الصالحة لحياته.
والعقول كسائر الكائنات الحية، تبحث لنفسها عن المكان الصالح لفعلها، فإن لم تجده ذبلت وماتت، وضاع الفرق بين ذكاء وغباء، فليس العقل الذكي قطعة من الماس، تضعها في خزانةٍ من صلب الحديد، تحكم إغلاقها، ثم تعاود النظر إليها آنًا بعد آن؛ لتعلم أنها ما زالت هناك بمأمنٍ من اللصوص، فيطمئن قلبك، بل العقل الذكي شعاع من الضوء يريد لنفسه أن يشق العتمة ليضيء، فإذا أبيت عليه انطلاقة الحركة، انطفأ وانمحى.
فليس التفكير الحر — بالنسبة للعقول النابهة — ترفًا ولا تسلية، وإنما هو نشاط جاد يريد أن يركن إليه بالعمل الجاد، إنه كاللاعب الماهر، لا يجيد اللعب إلا أمام ندٍّ له يتكافأ معه، ليكون هنالك معنًى للتحدي ومعنًى لبذل الجهد، والإنسان الموهوب مملوء بالمعجزات، يصنع الأعاجيب إذا وضعناه في المواضع التي تصقل جوهره وتظهر قواه، أما إن يجد نفسه ملقًى في الظلام، ثم يقول له الناس، هات ما عندك! فلن يجد الناس عندئذٍ إلا صدى أصواتهم ترتد إلى آذانهم كأنهم يوجهون النداء إلى أنفسهم! انظر ماذا صنع رجل واحد كأبي بكر أو عمر؟! وماذا كان الواحد منهما ليصنع بكل عبقريته لو لم تكن ثورة الإسلام قد وضعته، حيث يجب أن يوضع؟ للعقول الممتازة شروط، وهي بغير هذه الشروط لا تفعل فعلها ولا تنمو، فمن ذا يلومها إذا لم تتوافر لها شروط الفعل والنماء فهاجرت؟ لقد وقعت على عبارة جميلة عند السهروردي (في عوارف المعارف، ولقد وردت هذه الفكرة نفسها في أناجيل العهد الجديد) يمكن أن تساق هنا لتوضيح الفروق الهائلة بين بيئةٍ وبيئة في تنمية العقول وشحذها، وهي عبارة يقول فيها ما معناه أن رجلًا ملأ كفه ببذور القمح، وراح يبذرها في أماكن مختلفة، فوقع منها شيء على ظهر الطريق، فلم يلبث أن انحط عليه الطير فاختطفه، ووقع منها شيء آخر على حجر أملس تغطيه طبقة رقيقة من التراب، ويبلله قليل من الندى، فنبت الحب، حتى إذا ما وصلت عروقه إلى سطح الحجر الأملس، لم تجد طريقًا لها، فيبس النبت ومات، ثم وقع من البذور شيء ثالث في أرض طيبة، لكنها مليئة بالشوك، فنبتت البذور، حتى إذا ما أراد النبت أن يرتفع، خنقه الشوك فأفسده، وأخيرًا وقع من البذور شيء على أرض طيبة، ليست هي على ظهر الطريق، ولا هي على حجر أملس، ولا هي مختنقة بالشوك، فنبتت البذور ونمت وأثمرت. ويمضي السهروردي في هذا التشبيه الجميل، فيقول ما معناه: إن البذر الذي وقع على ظهر الطريق فتخطفته الطير، مثله مثل رجل تقدم له الأفكار الجيدة، فيدير عنها أذنيه، حتى لا يسمعها فما يلبث الشيطان أن يختطفها من قلبه ليتركه خاويًا، ومثل البذر الذي يقع على الحجر الأملس المغطى بقليلٍ من التراب، كالرجل يستمع منك إلى الفكر الجيد، فيستحسنه، لكنه لا يجد في قلبه عزمًا صادقًا على العمل به، فيذهب ذلك الفكر الجيد هباءً، ومثل البذر الذي وقع على أرض طيبة يكتنفها شوك، كالرجل يسمع منك كلامك المفيد، ويهم بالعمل على مقتضاه، لكنه يجد من الشهوات العمياء والأهواء القاتلة ما يصرفه عن ذلك العمل، وأخيرًا فإن مثل البذور التي وقعت على أرض طيبة ليس فيها عوائق النمو، مثل الرجل يتلقى الفكرة الجيدة فيفهمها ويعمل بها، ولا يحول بينه وبين ذلك حائل.
وأود ألا تفلت من القارئ تلك الحالة الثالثة من الحالات الأربع التي ذكرناها نقلًا عن السهروردي، وأعني بها الحالة التي تجود فيها طبيعة الأرض، لكن الشوك يكتنفها فيفسد نباتها، وهي حالة ترمز بها إلى الأمة التي يرزق الله أبناءها وقدة الذكاء وطيب العنصر، ومع ذلك يقل إنتاجها الفكري، أو ينعدم بسبب الأشواك البشرية التي لا تنبت الثمار، ولا يطيب لها أن تجيء الثمار من غيرها.
وفي مثل هذه الحالة، من ذا يلوم العقول الذكية إن هاجرت إلى حيث لا يحول الشوك بينها وبين أن تثمر؟ إن الواقع الذي يدعونا إلى الفخر وإلى الأسى معًا، هو أن عددًا كبيرًا من أبنائنا النابهين، الذين لم يكونوا ينتجون في مجال العلم شيئًا وهم في مجتمعنا، اجتذبتهم الظروف المواتية في بلادٍ أخرى، فظهر نبوغهم، وليس هذا القول من عندي، بل قرأت عنهم في مصادر أجنبية، كانت تتمنى لو وجدت في أبنائنا هؤلاء ما يعاب، فما الذي حدث لتلك العقول، حتى أجدبت هنا وأثمرت هناك؟ ابحث عن الجواب في عبارة السهروردي التي أسلفت لك ذكرها، تجد الجواب عن سؤالك: لماذا أجدبت بعض العقول النابهة هنا، وأثمرت هناك؟ والجواب هو أن الأرض الطيبة يكتنفها شوك، فما يكاد النبات يرتفع برأسه، حتى يخنقه الشوك خنقًا فيقتله.
والشوك الخانق للمواهب عندنا أنواع: منها — بل ربما كان أكثرها شيوعًا — الحالة التي يحاول فيها الكبير أن يبتلع الصغير في جوفه، إنه لا يمنعه من العمل، على شرط أن يكون اللسان الناطق هو لسان الكبير، وأن تكون اليد الموقعة هي كذلك يد الكبير، وإذا تململ الصغير من أن يفرض البكم على لسانه، والشلل على يده، حتى لا يكون للسانه صوت مسموع، أو ليده حركة مرئية، فعقابه هو أن يطمس عمله طمسًا فلا يشهد النور، فمن ذا يلومه إذا هاجر؟
لا، لن يصدقني القارئ؛ لأنني أوشك ألا أصدق نفسي من غرابة النبأ لولا أنني أعرف الرجل الذي أروي عنه كما أعرف نفسي، فلقد حدث أن وقع صغير في براثن كبير، وأراد ذلك الكبير أن ينتج له ذلك الصغير محصولًا أدبيًّا، ليعلنه الكبير باسمه في الناس، والثمن الذي يتقاضاه ذلك الصغير مقابل إنتاجه الضائع، هو أن يفسح له الكبير ثقبًا يتيح له شيئًا من الظهور، وأخذ الكبير إنتاج الصغير، وقرأه على الناس — محاضرة عامة إثر محاضرة — في محفل من أرفع محافلنا مكانة، ولا تلبث المجلات ذات الشأو الرفيع أن تتلقف من الكبير محاضراته تلك لتنشرها في صدور صفحاتها، وكان على الصغير أن يصمت، وإلَّا … وحتى لو لم يصمت، فمن الذي يصدقه إذا نطق؟
وأعرف أحد العلماء — إي والله «العلماء» — جاءه شاب ممن يعملون في حقله العلمي بكتابٍ من تأليفه ليزكيه للنشر، فاشترط عليه العالم الكبير أن يكون (أي الكبير) شريكًا في تأليفه، شركة معناها أن يضع الكبير اسمه على الغلاف، بل قد يحدث أحيانًا أن يشترط الكبير أن يكون اسمه بحجم أكبر، وفي سطر وحده، وأن يكون أسبق في ترتيب المكان.
ليست هذه أحداثًا فردية شاذة، في حياتنا العلمية، وإن شئت فراجع عشرات البحوث التي يخرجها الدارسون في جامعاتنا، وخصوصًا في الكليات العلمية، تجد على كل بحث منها اسمين: اسم المرءوس الذي قام بالبحث، واسمًا آخر يسبقه هو اسم الرئيس، وليست هي حالات نادرة، تلك التي لا يكون لذلك الرئيس فيها عير ولا نفير، ولكنه بسحر الرئاسة وحدها يصبح صاحب العير والنفير معًا، وعلى صاحب البحث الحقيقي أن يقف جنب الجدار، انتظارًا للصدقات، تأتي إليه مصادفة مع الريح العابرة، أو لا تأتي.
ذلك نوع واحد من الشوك الخانق في حياتنا العلمية، وهو أن ندع العاملين ينجزون العمل، ثم يسلبهم صاحب السلطة نتائج عملهم كلها أو بعضها، مما قد يصبر عليه العاملون الناشئون، حتى يكبروا فيعيدوا الكرة مع الصغار، ولكنهم كذلك قد لا يصبرون عليه، فيهجرون أو يهاجرون.
ونوع آخر من ذلك الشوك الخانق، هو أن يقتلع الحاقدون، النبت الصاعد الواعد، قبل أن يكتمل له صعود أو إنجاز لوعود جريًا على قاعدة «الوقاية قبل العلاج»، إنها أمور يعرفها المشتغلون في حقول العلم والثقافة عندنا، فقد يحال بين الباحث وبين أجهزة المعامل، أو بينه وبين المراجع أو بينه وبين ظهور بحثه إذا استطاع أن تتوافر له الوسائل حتى أتمه، وهنالك لهذا الإخفاء طريقة مهر فيها القادرون، وهي أن يلجئوا إلى سلاح الصمت، والصمت يفتك بالعمل العلمي أو الأدبي فتكًا، وهو بالطبع أفعل أثرًا من الذم والتجريح؛ لأن الذم والتجريح قد يلفتان الأنظار إلى العمل، فتنكشف للناس جودته، وأما الصمت عنه فيخنقه في هدوء، وعلى التاريخ بعد ذلك أن يعيد إليه الحياة أو ألَّا يعيدها، بحسب ما تريده له قوانين المصادفات، فماذا تصنع العقول الطامحة إزاء ذلك الشوك الخانق، إلا أن تيأس فتموت، أو أن تهاجر أملًا في حياة؟
للحياة العقلية — كما لأي حياةٍ أخرى — شروط تكفل لها البقاء والنماء، منها أن يحس رجل الفكر أنه مطلوب لفكره، ليزداد ثقة في نفسه كلما أحس بقيمته في مجتمعه، كان الخلفاء والأمراء في تاريخنا الماضي يزهون بمن حولهم من رجال العلم والأدب، فيجزلون لهم العطاء؛ لأن مجرد وجودهم في مجالسهم هو علامة مجد لصاحب الحكم، قبل أن يكون علامة مجد لصاحب الموهبة العقلية، ولا نريد اليوم خلفاء أو أمراء ليغدقوا العطاء للعلماء والأدباء، وإنما نريد اليوم شعبًا واعيًا ودولة يقظة لقيمة علمائها وأدبائها، فتستبقيهم — لا بقوة القانون — ولكن بإيجاد الظروف التي تضمن لهم طيب البقاء، ومن أهم هذه الظروف الاعتراف لهم بقيمتهم، لا باللفظ الذي يجري على الألسنة ثناءً، ولا بالمقالات التي تنشر في الصحف إنشاءً، ولكن بوسائل التقدير العملي التي يعرفها الشعب وتعرفها الدولة.
لماذا يترك رجال العلم جامعاتهم سراعًا لأي منصبٍ آخر مما يظفر عند الشعب وعند الدولة بالتقدير، ولا يحدث العكس؟ وترك رجال العلم للجامعات سعيًا وراء المناصب، هو أيضًا ضرب من ضروب هجرة العقول إلى غير مواطنها! إنها فطرة الإنسان تريد له أن يكون، حيث يُعتَرف بوجوده وبأهمية ذلك الوجود، كم وسامًا من أوسمة الدولة العليا مُنح العالِم لأنه عالِم؟ كم حفلًا أقامه الشعب، وكم تمثالًا في الميادين رفعه الناس أو رفعته الدولة لعالِم لأنه عالِم؟
فإذا لم تجد العقول ظروفها المواتية لحياة منتجة مقدرة مكرمة، فمن ذا يلومها أن تهاجر؟