جامعاتنا من الداخل
ماذا تكون الجامعة إذا لم تكن مؤسسة أقيمت لتضطلع بحراسة العلوم والفنون، بمعانيهما التي تقررها لهما الحضارة البشرية، كما يشهد لها التاريخ، لا كما تتوهمه شطحات الحالمين، ماذا تكون الجامعة إذا لم تكن هي الحرم الذي تُقدَّس في رحابه روح البحث والكشف، ومغامرات التجربة والتأمل؟ ماذا تكون الجامعة إذا لم تجعل من نفسها حامية تذود عن دولة العقل، حتى لا يعتدي عليها أعداؤها بهدم حصونها — من الداخل أو من الخارج — وحتى لا يأخذ الضعف من رجالها، فيستسلمون لهجمات المعتدين؟
وقد نسأل: وهل يمكن أن يكون لدولة العقل والعلم والفن أعداء؟ ونجيب بكل اليقين أن ذلك قد أمكن، بل إنه قد وقع ويقع أمام أبصارنا كل يوم، وأعجب العجب أن نجد الأمان كل الأمان لمن يعلي صوت الخرافة ويرفع لواءها، وأن نرى شيئًا من تشويه السمعة — على أقل تقدير — قد أحاط بمن يريد لجذور النظرة العلمية أن ترسخ في أرضنا، كي نشارك العالمين في مسيرة التقدم لأنفسنا وللبشر أجمعين.
ولقد بذلت الجامعات المصرية منذ نشأتها — ونشأتها كانت منذ نصف قرن — بذلت جهودًا علمية، هي التي يشار إليها حين يقال عن الوطن العربي أنه قد أخذ يعاصر الدنيا من حوله في علومها وفنونها، إذ تكونت مكتبة عربية في مختلف الدراسات لشتى فروع العلم، وأصبحت تلك المكتبة العربية هي المرجع الأول والأهم لكل عربي أراد الرجوع إلى ينابيع العلوم في مصادرها الوثيقة، ولولا هذه المكتبة العربية الحديثة التي خلقتها عقول الجامعات المصرية، لظلت الرفوف إلى يومنا هذا لا تعرف من علوم العصر إلا مؤلفات كتبت باللغات الأوروبية، وفي مثل تلك الحالة لم يكن ليصح لأحد منا أن يزعم بأن الوطن العربي قد دخل العصر القائم لا في كثير ولا قليل.
وكذلك بذلت الجامعات المصرية الحديثة في عمرها القصير، جهودًا تعليمية هي التي نرى ثمراتها في مئات الألوف من العلماء والفنيين الذين يقيمون عمائر الحضارة الحديثة في شتى أرجاء الوطن العربي من طرفه الأقصى شرقًا إلى طرفه الأقصى غربًا، فهم المهندسون، وهم الأطباء، وهم العلماء، وهم المعلمون، وهم أعلام الاقتصاد، وهم الباحثون في أغوار الماضي عن كنوز الأولين من آبائنا العرب السابقين.
فإذا سألتني: أين الجامعات المصرية؟ أشرت لك بآلاف الأصابع إلى بناة النهضة العربية الجديدة في كل ركن من أركان البناء، فالجامعات المصرية هي التي تراها تحت شمس الصحراء عند مناجم المعادن وآبار البترول، وهي التي تراها على امتداد الوادي تحفر الترع وتقيم السدود والجسور، وهي التي تراها في دور العلاج، وفي معاهد التعليم، وفي بيوت التجارة، ومنشآت الصناعة، ومصارف المال، وإني لأذكر يومًا كان منذ نحو عشر سنوات، دعيت فيه مع عدد من المثقفين هنا في القاهرة، لنعقد ندوة سياسية، فما راعني إلا أن أسمع من بعض المشاركين عجاء هو أقذع الهجاء للجامعات ورجالها، وكأنما أفاقت الأمة كلها من غفوتها إلا علماؤها.
ولست أرى إلا أن تكون أقدار التاريخ قد ناطت بمصر أن ترعى الحركة العلمية أصالة عن نفسها ونيابةً عن غيرها، كلما أحاطت المخاطر بتلك الحركة مما يهددها بالوقوف أو الانتكاس، وإلا فهل في وسع أحد أن يدلني أين نشطت عقول العلماء في القرون الثلاثة التي امتدت من الثالث عشر إلى الخامس عشر، لصيانة التراث العربي والتراث الإسلامي من عوامل التبديد والضياع، إذا لم يكن ذلك قد حدث هنا في جامعة الأزهر؟ إن علماءنا عندئذٍ هم الذين تكاتفوا وتواصلوا جيلًا بعد جيل في إحياء النصوص، ثم في إضافة شروح عليها، ولولا ما صنعوه، لما وجدنا اليوم — في أغلب الظن — ما نستطيع أن نشير إليه لنقول: هذا هو تراثنا.
أفلا يحق لنا اليوم إذا ما ظهرت لنا بوادر ضعف في جامعاتنا أن نسأل: ماذا أصابنا؟ إننا إذا استثنينا فئة واعية من رجال الجامعات وشبابها، أحزنتنا كثرة غالبة منهم بما يغمرها من غيبوبة عقلية أو ما يشبه الغيبوبة، فقد حدث يومًا لأستاذ صديق، أبهظه حمل العمل الثقيل، حتى لينسى وهو يلقي محاضرته أن يلقيها، فكان أن ألقى محاضرة على فرقة من الطلاب، لم تكن من مادتهم، فلا يسبقها عندهم سابق يربطونها به، ومع ذلك لم يتنبه طالب واحد إلى هذه الواقعة الصارخة، وهي أن الحديث الملقى عليهم لا ينساق مع المحاضرات السابقة عند هذا الأستاذ، ولم ينتبه إلى ذلك إلا الأستاذ نفسه بعد أن عاد إلى داره من يوم طويل.
فإذا كانت الغيبوبة العقلية قد بلغت عند طلابنا هذا المدى، فهل يحق لنا بعد ذلك أن نطمع في صحوة نقدية، لا تكتفي بأن تعي ما يقال، بل تجاوز حدود الوعي المتقبل إلى مرحلة تليها، يكون فيها التحليل والهضم والإبداع؟ إننا اليوم من جامعاتنا في مكنة ضخمة تدور بنا طواحينها، فندوخ بفعل دورانها، فلا العين عندئذٍ تبصر في صفاء، ولا السمع ينصت في وضوح، فهل يأخذنا العجب بعد كل هذا إذا رأينا الجموع من طلابنا منجرفة في تيار من اللاعقل يغمرنا، حتى ليقال لنا اليوم إن العلم تضليل؟!
لقد كان مشهدًا يدعو إلى الدهشة والتأمل، وأعني به مشهد الطالبة وقد لفت رأسها بوشاح، ووضعت أمامها على منضدة الامتحان كتاب الله الكريم، ومع ذلك يضبطها الملاحظون متلبسةً بالغش، فلا كتاب الله الذي تبركت به ردعها عن الإثم، ولا وشاحها الذي جعلته أمام أبصار الناس عنوانًا لإيمانها قد ردها عن فعل السوء، ولم يكن هذا المشهد في قاعة الامتحان حالة فريدة شاذة، بل إن الازدواج في معايير الأخلاق على هذا النحو الغريب يكاد يكون هو القاعدة السارية في حياتنا، لا فرق في ذلك بين جامعة وشارع عام.
ألم أقرأ منذ نحو عامين في صحفنا شكوى جماعة من طلاب الدراسة العليا في إحدى كلياتنا، خلاصتها أن أستاذًا كان وقتئذٍ يشغل أعلى منصب في أعلى هيئة شعبية. كان قد حرص على أن يبقى له نصيب من العمل الجامعي، فاختار لنفسه بنفسه أن يوكل إليه موضوع معين في قسم الدراسة العليا، لكن الطلاب المساكين لبثوا ينتظرون شهرًا بعد شهر، ثم شهرًا ثالثًا فرابعًا فخامسًا، وصاحبنا لا يظهر أمامهم مرة لينطق بكلمة، لماذا؟ لأنه مشغولٌ بما هو أهم من وجهة نظر الخدمة الوطنية، إذن فلماذا لم تتخذ الكلية إجراءً حاسمًا سريعًا، لا أقول بمحاسبة الأستاذ — لأن ذلك فوق طاقة الجامعة فيما يبدو ما دام الأمر يتعلق برجل من ذوي المناصب العليا — بل يكفيني الآن أن أقول إن الإجراء الحاسم الذي كان ينبغي اتخاذه إنقاذًا للطلاب، هو تغيير الأستاذ بمن هو أقل انشغالًا بالمناصب الكبرى، لكن لا، حتى ولا هذا اجترأت الكلية على فعله إبراءً لذمتها أمام الضمير العلمي.
وهنا يفرض السؤال نفسه علينا رغم أنوفنا، وهو: ما هي القيم التي يخرج بها الطلاب من مثل هذا المناخ الجامعي؟ هل يمكن لطالب طموح فيه ذرة من إدراك سليم، أن يفوته بأن الأهم هو البحث عن طريق الصعود إلى المناصب، وليس هو البحث في قضايا العلوم؟ إنه إذا ما بلغ المنصب المنشود كان له بذلك ما يشبه خاتم سليمان في أصبعه، يحكه على وسادته، فإذا الدنيا بأسرها تنحني أمامه لتقول: لبيك، بما في ذلك درجات العلم ومنازله.
كنت قد انقطعت لبضع سنوات عن المحاضرة بجامعة القاهرة، وهي سنوات قضيت بعضها مسافرًا ومحاضرًا في غير مصر، وقضيت بعضها الآخر في غضبة قلمية نثرت بعض شواظها في كتب ومجلات وصحف، والحق أن شيطانًا كان وسوس لي عندئذٍ بأن مثلي لم يعد له مكان لا محاضرًا ولا كاتبًا، وحاول ذلك الشيطان الخبيث أن يدس في نفسي شعورًا مضللًا، هو الشعور بأنني قد أديت واجبي، وقلت كلمتي، ولم يبقَ أمامي إلا أن أترك الميدان وأمشي، أخذًا بالجملة المشهورة التي جعلها الأديب اللبناني أمين الريحاني شعارًا له في كتابه «الريحانيات» وهي: «قل كلمتك وامشِ»، لكن أمرًا حدث (وكان على غير هواي أول الأمر، ويا لعجبي فقد علمت فيما بعد أنه كان كذلك على غير هوى طائفة من الأصدقاء الألداء، أول الأمر وآخره معًا) أقول إن أمرًا حدث فتغيَّر الطريق، وعدت إلى المحاضرة، وإلى الكتابة، لأستأنف كلمتي.
ولئن كانت لي كلمة قلتها بأضوائها وظلالها في غضون السنين، فهي كلمة أردت بها التفرقة في حياتنا بين عقل وقلب، فلكل منهما طريق وطريقة، وهي تفرقة أرادها لنا البارئ حين صورنا عقلًا ووجدانًا، ولم يرد لأيٍّ من الجانبين أن يستقل وحده بالزمام، ولكن ماذا تقول لقوم يريدون منك حلف اليمين إذا زعمت لهم بأن الشتاء يعقبه الربيع، وأن الليل يتلوه النهار! نعم، إنهم لا ينكرون عليك هذه القسمة في طبيعة الإنسان بين منطق عقلي في ناحية، وشعور بغير منطق في ناحية أخرى، هم لا ينكرون هذه القسمة طالما انتصرت بها على مجرد الألفاظ، أما أن تجاوز مجال اللفظ لتبدأ في التطبيق، كي تجعل ما للعقل للعقل، وما للقلب للقلب، فها هنا يأخذهم الفزع، خشية أن يضيع عليهم ذلك الخلط اللذيذ، ثم لا تعجب إذا سمعت بأنهم قد نشروا خلطهم ذاك في كتب ومقالات، فبيع في الأسواق، وعاد عليهم بما يملأ الجيوب مالًا، والصدور انشراحًا.
ونختم بالسؤال الذي بدأنا به: ماذا تكون الجامعة إذا لم تجعل من نفسها حامية تذود عن دولة العقل، حتى لا يعتدي عليها خصومها بهدم حصونها، وحتى لا يأخذ الضعف من رجالها، فيستسلمون لهجمات المعتدين؟