عيون تنظر ولا ترى
ليس هو بالأمر الجديد أن يقال لنا عن الإنسان إنه يتأثر — دون أن يدري — بالطريقة التي نشأ عليها عند إبداء الرأي فيما يعرض له من مسائل، ولقد قيلت في ذلك تشبيهات كثيرة، فقيل — مثلًا — إن الإنسان يعيش في كهف كامن بين ضلوعه، يحجب عنه الرؤية المباشرة لما يحدث حوله في العالم الخارجي، فتراه ينضح أفكاره من ذلك الكهف المعتم، وهو يظن أنه إنما يستمد تلك الأفكار من خبراته بحقائق العالم الواقع، وما ذلك الكهف الكامن بين ضلوعه، الذي يمدنا — خلسة — بالرأي كلما أبدينا رأيًا، إلا عوامل النشأة وقد تكدست في أجوافنا، وأقامت لنفسها أبراجًا من فولاذ، هيهات أن تنال منها عوامل الحياة المتدفقة المتجددة بعد ذلك، ومن هنا يتضح لماذا تتفاوت الآراء بين الناس كل هذا التفاوت البعيد، عند النظر إلى موضوع مشترك.
وقيل كذلك أن الإنسان قلما ينظر إلى الأشياء والمواقف من حوله، بعينه العارية وهي على طبيعتها وحيادها، بل تراه ينظر وكأنما قد وضع أمام عينه منشورًا من زجاج، يعكس الأشعة الوافدة من الخارج، وينحرف بها عن مسارها المستقيم، وبهذا تصل الصورة إلى المتلقي مختلفة في نسبها وفي تكوينها، عن الحقيقة الخارجية كما وقعت بالفعل، فإذا ما عرضت أمرًا على شخصين تطلب منهما الرأي فيه، فيكاد يستحيل على أيٍّ منهما أن يبدي لك رأيه إلا انعكاسًا لما قد اختزنه في نفسه من تلك الصور التي كان تلقاها مغلوطة النسب ملتوية التكوين.
تشبيهات كثيرة كهذه قيلت في وصف الطريقة التي تميل بالإنسان شيئًا فشيئًا إلى وجهة معينة للنظر، يستخدمها بعد ذلك في رؤيته لمواقف الحياة ومشكلاتها، لكنها كانت كلها — كما ترى — تشبيهات أقرب إلى التصور الأدبي، مما قد يثير الريبة في صدقها، إلى أن جاء في أيامنا هذه نفر من المشتغلين بعلم النفس التجريبي، وجعلوا طريقة الإدراك هذه موضعًا للبحث العلمي الدقيق، لعلهم يقعان على أنواع التحريفات التي تحدث في عملية الإدراك، وكيفية حدوثها، وكان من أحدث هذه البحوث حالات ست لمكفوفين بالولادة، ثم أمكن خلق الأبصار فيهم بوسائل الطب، بعد أن قطعوا من شوط الحياة مرحلة طال أمرها عدة سنين، وتعلموا خلالها بمثل ما يتعلم كفيف البصر عن الأشياء التي حوله باللمس.
وهنا ركز الباحث تجاربه العلمية، ليرى كيف ينتقل الكفيف الذي كشف عنه الغطاء، في طريقة علمه بالأشياء، وأول ما لوحظ في هؤلاء أنهم عند تحولهم المفاجئ من العمى إلى البصر أصيبوا جميعًا بحالة ظاهرة من الاكتئاب والإحباط، كأنما قد وجدوا أنفسهم في عالم لا هم فيه مع المكفوفين، فيشاطرونهم الخبرة المعينة الخاصة بهم، ولا هم م المبصرين فيشاركونهم دنياهم التي ألفوها على ضوء أبصارهم.
وهنا يأتي الجانب الأعجب، وهو أن الباحث قد وجد في هؤلاء الستة جميعًا، أنهم لم يستطيعوا أن يروا من الأشياء التي حولهم، إلا ما كانوا قد عرفوه منها باللمس أثناء كف البصر! فما لم يكن قد وصل إليهم عن طريق اللمس، لم تعد أعينهم قادرة على رؤيته عندما أتيح لها الإبصار، نعم كان هنالك أشياء سهل عليهم أن يغيروا طريقتهم في إدراكها، كالقراءة مثلًا، فبعد أن كانت الطريقة باللمس أصبحت بالنظر، وأما الأشياء البصرية الصرف، التي لم يكن لها سبيل تصل خلاله إليهم وهم في حالة العمى — كالألوان — فقد لبثت مجهولة لهم كما كانت، إذ يبدو أنه لا يكفي أن تنظر العين إلى اللون الأزرق — مثلًا — فترى الأزرق؛ لأن المسألة هنا مرتبطة بالعلاقة بين الاسم اللغوي وما يشير إليه.
أثارت عندي هذه الحقيقة العلمية الجديدة — إن صدق ما قرأته عنها — شيئًا من التفكير، إذ ربطت بينها وبين التشبيه بالكهف، والتشبيه بالمنشور الزجاجي، اللذين قدمناهما؛ لأن النتيجة في كل هذه الحالات واحدة، وهي أن الإنسان مقيد في طريقة تفكيره بأسلوب نشأته، ومن هنا يظهر الخطر الجسيم في ثقافتنا القومية إذا نحن تركناها موزعة مقسمة بين أساليب مختلفة من النشأة والتعليم، فليس ثمة من شك في وجود اختلاف ملحوظ بين مجموعات المعاهد والجامعات، مما يؤدي آخر الأمر إلى التباين الشديد بين الأطراف إذا ما طرحت مشكلاتنا النظرية أو العملية لإبداء الرأي.
ولقد خبرت في حياتي الشخصية مواقف كثيرة من اختلاف الرأي بيني وبين غيري، كنت في معظم الحالات أشعر بما يقرب من الذهول، كلما رأيت محدثي عاجزًا عن رؤية ما أراه، ورأيتني عاجزًا عن رؤية ما يراه، فماذا يكون ذلك إلا أن في صدري، وفي صدره، كمنت شياطين النشأة الأولى، لتحول بيننا وبين أن نرى الحقيقة كما هي واقعة؟
ولا غرابة أن تكون النظرة «الموضوعية» التي يتطلبها الفكر العلمي، من أشق الأمور على الناس، ولا يكسب العلماء شيئًا منها إلا بعد تدريب طويل، فليس من اليسير على من لم يأخذ نفسه بالمران المنهجي الصارم، أن يتخلص من هواه، أعني أن يخرج من كهفه الكامن بين ضلوعه، أو أن يزيح من أمام عينيه المنشور الزجاجي الذي وضعته نشأته هناك، فحرمته من أن يرى أشعة الضوء كما هي على حقائقها، والحق أني لا أعرف كيف تتم لنا الثورة في نظم التعليم عندنا، إذا لم تكن الخطوة الأولى هي أن نحدث انقلابًا في «منهج» النظر، لنأخذ أبناءنا بالتدريب المتصل القاسي، الذي لا نكل من عنائه، ولا نمل من معاودته وتكراره، على أن يتجردوا من أخطبوط الأهواء والميول الذاتية، التي — لو تركت حيث أقيمت في نفوسنا — لرأينا الدنيا بضلالها، لا بالحق الذي تبحث عنه النظرة العلمية.
كل ذلك لا يعني أن نخلع من نفوسنا وجدانها وهواها؛ لأن في حياة الإنسان ساعات طويلة يكون المدار فيها على الوجدان والهوى، والصعوبة التي تتطلب من التربية أن تذللها، هي التفرقة بين مجال ومجال، فحيثما يكون المجال مجال رؤية للواقع الكائن خارج جلودنا، ينبغي للنظرة العلمية الموضوعية المنزهة أن تسود، وأما ما عدا ذلك فلكل أن يتجه الوجهة التي يشاء.
أذكر نقاشًا دار بيني وبين عالم كان من أبرز علمائنا في الكيمياء، وكانت له في حياتنا الثقافية مكانة عالية تتكافأ ارتفاعًا مع مكانته في علمه الذي تخصص فيه، وأدى بنا النقاش إلى اختلاف في النظر، وكان الموضوع المطروح هو هذا: إذا رأينا عصفورًا يغذي فرخه الصغير بما ينقله إليه من طعام، ألا يكون ذلك دليلًا على العناية الإلهية؟ إن الفرخ الصغير ليفتح منقاره من تلقاء نفسه لتضع فيه الأم ما حملته من غذاء، فكيف يتم ذلك بغير تلك العناية؟ كان ذلك هو رأيه، وكان رأيي هو أن من حقنا أن «نؤمن» بوجود العناية كما شئنا، لكننا — من الوجهة العلمية الصرف، والتزامًا بالمنهج العلمي المجرد — لا يكون من حقنا أن «نستدل» هذه من ذاك، فقد يستطيع عالم لا «يؤمن» بالعناية الإلهية، أن يضطلع بالبحث العلمي من أوله إلى آخره، فيما يختص بالعلاقة بين العصفور وفرخه، دون أن تكون عليه مؤاخذة منهجية.
وإني لأسوق هذا المثل برغم دقته، لأبين به كيف يمكن أن يكون أحد المتناقشين على خطأ وهو لا يرى، فأحدنا قد أعد على صورة تبيح له أن يمزج جانب الإيمان بجانب العلم، والآخر قد أعد على نحو آخر، هو أن يفصل هذا عن ذاك، برغم تمسكه بهما معًا، لكنه يجعل لكلٍّ منهما مجاله الخاص، فربما كان الصواب مع صديقي، أو كان الصواب معي، ففي كلتا الحالتين تكون وجهة النظر «الخاصة» قد منعت صاحبها من رؤية الحق في موضوعيته المجردة.
لقد قام ناقد فني حديثًا — في إنجلترا — ببحث أثار به اهتمام المثقفين، وهو أن عرض لوحات من روائع الفن، على أشخاص راعى في اختيارهم أن يكونوا على درجة عليا من الثقافة، مع تخصص معين في دنيا العمل، كأن يكون أحدهم طبيبًا، والآخر رجلًا من رجال الأعمال، والثالث من رجال التأمين، والرابع من رجال الدين، وهكذا، وطلب منهم أن يعلقوا على تلك الروائع الفنية مهتدين بحسهم النقدي، وعندما أخذ يحلل التعليقات، كان من أوضح ما رآه ارتباط وثيق بين وجهة النظر النقدية التي اصطنعها كل منهم بالمهنة التي يؤديها، وحقًّا إنك لتعجب للتفصيلات الدقيقة التي تتسلل إلى مجال من مجال آخر، برغم البعد البعيد بين المجالين، مما جعل الناقد الفني الذي اضطلع بالبحث يسأل هذا السؤال المهم: من ذا يكون صاحب الحق في إصدار الحكم على قطعة فنية؟ إن لرجال الفن أنفسهم أسسًا يذكرونها عن أعمالهم، ليست هي الأسس التي يبني عليها مختلف الأشخاص أحكامهم على تلك الأعمال؟ وإذن فالطريق الأسلم هو أن نختار من مجموعة الأحكام المتباينة ما يناسب كل مجال على حدة.
وفي هذا السياق من الحديث، يجوز لي أن أذكر خطابًا أرسله قارئ إلى أديبنا الرائد الأستاذ توفيق الحكيم، فبعد أن أشاد بفنه الأدبي إشادة هو أهلٌ لها، قال: «أتعرف متى التقيت بك لأول مرة؟ كان ذلك في المدرسة الثانوية، حين قالت لنا وزارة التعليم: ادرسوا «عصور من الشرق»، ثم أعطونا «العصفور»، وقد كتبوا على غلافه «طبعة مدرسية» وكان معنى ذلك أنهم حذفوا ما يروق لنا، وأبقوا على ما يروق لهم، حذفوا الفقرات التي رويت فيها حديث القلب والجسم وكأنه عورة، وأبقوا على الفقرات التي رويت فيها حديث العقل والفكر، وكم كان غامضًا حديث كهذا على عقل فتى في الخامسة عشرة من عمره».
هكذا قال القارئ موجهًا حديثه إلى الأستاذ توفيق الحكيم، فوجدت هذا الجزء من خطابه يثير سؤالًا ذا أهمية بالغة في ميدان التربية، وهو: هل من حق رجال التربية أن يغيروا بالحذف من قطعة أدبية يقدمونها إلى الطلاب؟ وبعد قليل أجبت نفسي بالإيجاب؛ لأن رجل التربية ليس ملزمًا أن ينظر إلى القطعة الفنية نظرة الفنان، فهو رجل تربية، وواجبه أن ينظر من زاوية ما يربي الناشئ على ما يريد له هو أن ينشأ عليه، وكان جوابي هذا موضع تردد مني في بداية الأمر، لكني قربت من اليقين فيه بعد أن اطلعت على البحث التجريبي الذي أشرت إلى إجرائه في مجال العلاقة بين مهنة الناقد الفني والأحكام التي يصدرها على الأعمال الفنية والأدبية.
إن تحديد الفوارق بين مجالات النظر، حتى لا يخلط الفكر بين مجال ومجال، مسألة قد تدق على العين العابرة، لكنها مسألة تفرض نفسها علينا فرضًا محتومًا، عندما نستهدف التفكير العلمي المنهجي السليم.