حارة الأقزام
كثيرًا ما لجأ الكاتبون إلى تشبيه الناس بالعمالقة حينًا وبالأقزام حينًا، فالناس في أعين الكتَّاب عمالقة إذا رأوا فيهم ما ظنوه فخامة وضخامة، وهم في أعين الكتاب أقزام، إن رأوا فيهم ما يدعو إلى التصغير والتحقير.
ومن أقوى الأمثلة التي شهدتها آداب العالم لهذا التصوير بالعمالقة أو بالأقزام تلك القصة التي لبثت منذ ظهورها (في سنة ١٧٢٦م) مصدر متعة أدبية، للكبار والصغار على حدٍّ سواء، وأعني قصة «رحلات جلفر» التي كتبها جوناثان سويفت، وهو إنما كتبها ليسخر بها من أوضاع الحياة في وطنه — بريطانيا — إبان عصره، فلما رآها قد انقلبت وسيلة يتسلى بها القراء، خشي أن يكون قد ضاع عليه الهدف المقصود، فكتب لأحد خلصائه يقول ما معناه: لقد استهدفت بالقصة أن أبث القلق في صدور الناس، لا أن أُسرِّي عنهم الهموم.
وموضوع القصة — كما هو معروف — وصف لرحلات «جلفر» في أرض الأقزام، ثم في أرض العمالقة، أما وهو مع الأقزام، فقد وجد نفسه كالمارد، يستخف بهم ويضحك من سخافاتهم، حتى إذا ما انتقل إلى بلد العمالقة، انعكس الأمر، وأدرك كم هو تافه وضئيل.
وواضح أن الكاتب قد أراد بالأقزام، بني وطنه في عصره، ليسخر من قلة شأنهم وخفة أوزانهم، وأنه أراد بالعمالقة تصويرًا للنفوس حين تكون كبارًا، وللآمال الناضجة حين تبعد آفاقها وتعلو.
خذ مثلًا هذه الصورة الآتية التي صور بها الكاتب نموذجًا لما يهتم به الأقزام في أرضهم، لترى معه كم كانوا صغار الشأن في حياتهم، وهي صورة يقول فيها: كانت الطريقة التقليدية لكسر البيض عند أكله، هي أن تكسر البيضة من طرفها العريض، لكن حدث ذات يوم لجد جلالة الملك، عندما شرع يأكل بيضة — وكان عندئذٍ لم يزل بعد صبيًّا — أن جرحت أصبعه وهو يكسر البيضة على الطريقة التقليدية المألوفة، فلم يلبث أبوه الإمبراطور أن أصدر مرسومًا يأمر به أبناء الشعب جميعًا، أن يغيروا التقليد القائم، فيكسروا البيض من طرفه الدقيق لا من طرفه العريض، وإلا تعرضوا للعقاب الأليم، فغضب الشعب، ووقف من الإمبراطور الظالم موقف المعارضة وينبئنا التاريخ أن ست ثورات شعبية أشعلها الناس لهذا السبب، وفي تلك الثورات المتتالية، قتل أحد الأباطرة، وضاع التاج من آخر، ولقد كتبت مئات الكتب في موضوع الخلاف، غير أن أنصار كسر البيض من طرفه العريض قد صودرت مؤلفاتهم كما حرموا بحكم القانون أن يتولوا شيئًا من مناصب الدولة العليا.
فماذا يصنع الزائر الرحالة — إزاء هذه التفاهة — إلا أن يضحك ساخرًا؟ لكنه لا يكاد يزهى بنفسه بالنسبة إلى أولئك الأقزام، حتى يريد له الله أن يحد من زهوه، وذلك حين انتقل إلى بلد العمالقة، وهناك عرف كم هو صغير ضئيل، إذا قيس إلى هؤلاء الكبار — لا في ضخامة أجسامهم فقط — بل الكبار كذلك في نفوسهم وعقولهم وطرائق عيشهم.
أعود فأقول إن تشبيه الناس بالعمالقة حينًا وبالأقزام حينًا، أمر مألوف في التصور الأدبي، ولكني — علم الله — حين أردت أن أكتب هنا عن حارة الأقزام لم أرد ما أراده أصحاب التصوير الأدبي كلما أرادوا التصغير والتحقير، وإنما هي واقعة حقيقية حدثت، وأردت أن أرويها كما حدثت، لا أزيد عليها حرفًا من عندي، ولا أحذف حرفًا.
والواقعة كما حدثت هي أن صديقًا أهدى إليَّ منظارًا يضخم الأشياء إذا ما نظرت من إحدى جهتيه، ثم هو يصغر الأشياء إذا ما نظرت من جهته الأخرى، وهو إذ يضخم الأشياء، يبديها قريبة كذلك، وإذ يصغر الأشياء، يبديها وكأنها ازدادت منك بعدًا.
وكان صديقي ذاك، قد سمع مني مرارًا، رغبتي الشديدة في أن يكون عندي مثل هذا المنظار الذي يضخم الأشياء ويقر بها (ولم أكن أعلم وقتئذٍ أن المنظار نفسه إذا ما انعكس اتجاهه، فهو يصغر الأشياء ويبعدها عن الرائي)، أقول إن صديقي ذاك كان قد عرف عني هذه الرغبة الشديدة، حتى لقد سألني يومًا: لماذا لا تشتري لنفسك ما ترغب فيه؟ وأذكر أني أجبته بقولي أن هنالك أشياء كثيرة مرغوبًا فيها، لا تجيء إلى الراغبين إلا عن طريق الإهداء، وأبدًا هي لا تأتي عن طريق الشراء، ومرت سنوات بعد ذلك الحديث العابر، وإذا به يفجؤني بهديته.
كانت فرحتي بالمنظار كفرحة الطفل بلعبته، وحملته على كتفي كما يفعل السائحون، وأخذت أسير به في الطرقات أنتقي منها مواقف معينة فأقف لأنظر إلى الشارع بما فيه ومن فيه، أنظر إليها وإليهم في اتجاه التكبير مرة وفي اتجاه التصغير مرة، ولكم كانت نشوتي كلما أبصرت واحدًا من خلق الله السائرين في زحمة الطريق، مرة وهو في ضخامة رمسيس الثاني في تماثيله الضخام، ومرة ثانية وهو يحبو وكأنه الطفل الصغير.
لم يكن في الأمر — إذن — شيء من خيال، إنما هو المنظار أنظر خلاله إلى شارع حقيقي وإلى ناس من لحم وشحم يسيرون فيه، فالشارع الطويل العريض مرة يزداد طولًا وعرضًا، ومرة أخرى يصغر ويقصر ويضيق، حتى كأنه حارة أو زقاق، والناس السائرون فيه، يظهرون حينًا وهم عمالقة، ويظهرون حينًا آخر وهم أقزام، ولم يكن في أي شيء من هذا التباين الحاد غرابة أدهش لها، فهكذا كان المنظار وهكذا كان فعله بتركيب عدساته.
لكن ذلك المنظار اللعين — ليت صديقي ما أهداه، فأساء من حيث أراد الإحسان — قد أفسد عليَّ حياتي إفسادًا لم أعد أرى كيف السبيل إلى النجاة منه؛ وذلك لأنه قد عوَّدني هذه العادة السيئة، وهي أن أنظر إلى الناس بالنظرتين، النظرة التي تبديهم عمالقة، والأخرى التي تردهم أقزامًا، فيهولني الفرق البعيد بين الرجل الواحد وهو في نظرة التعظيم، وبينه هو نفسه منظورًا إليه من وجهه الآخر، ولطالما جزعت لتلك الفروق البعيدة بين النظرتين إلى الرجل الواحد في حالتيه من عظمة هنا وصغار هناك، لكني كثيرًا ما طمأنت نفسي من جزعها، إذ ليس الذنب في ذلك كله ذنبي، ولا ذنب منظاري، فهكذا حقائق الناس والأشياء، لا حيلة لي فيها.
وفيمَ الجزع إذا رأيت الرجل كبيرًا هنا صغيرًا هناك؟ لقد كنت أنت الواهم — هكذا حدثت نفسي — حين ظننت الكبير كبيرًا في كل حالاته، والصغير صغيرًا في كل حالاته، ثم جاءك هذا المنظار بوجهيه، فتعلمت منه الدرس المفيد، وليس هو بالشيء الجديد، أن ترى الرجل أسدًا عليك، وأن تراه هو نفسه في الحروب نعامة؛ لأن ذلك الازدواج لم يفُتْ حتى الشاعر العربي القديم أن يراه، ولكن الذي ثقل على ضميري، ليس هو المنظار في ذاته وأفاعيله بالأشياء والناس، بل هو الشيطنة التي لمحتها في طبيعتي، حين حملت منظاري وذهبت به إلى شارع العلماء، فهو من أضخم شوارع المدينة، أوشك أن يكون مقصورًا على أصحاب التخصص العلمي، فلقد حلا لي أن أرى كم يكون الفرق عند هؤلاء بين حالتي التعظيم والتصغير، فإذا هو فرق بعيد بعيد، أبعد منه في أي موقف آخر — أو هكذا خيل لي — نظرت إلى أحدهم في حالة عظمته، فكأنني نظرت إلى مصارع من الوزن الثقيل برزت فيه العضلات بروزًا مخيفًا، فقلبت له المنظار، فإذا هو القليل الضئيل، وطاف برأسي سؤال أضحكني سخافته، إذ سألت نفسي قائلًا: أي هذين الحجمين يا ترى سيبقى للرجل في تاريخ العلوم؟ إنه لو بقي له حجمه الضخم لملأ من التاريخ مجلدات، وأما إذا غدرت به الأيام، وأبقت له حجمه الضئيل، فالأغلب ألا يجد لنفسه في السجل صفحة واحدة، بل ربما لم يجد فيه سطرًا واحدًا.
هكذا أخذت أنقل منظاري إلى عالم بعد عالم، ولا بد أن أثبت هنا واقعة أذهلتني وظننتها من خوارق الأجهزة الآلية التي لا تؤتمن في كل الظروف، وتلك هي أنني وقعت في شارع العلماء على أفراد بدت ضخامتهم من أي الوجهين نظرت إليهم كما وقعت أيضًا على أفراد بدت ضآلتهم من أي الوجهين نظرت إليهم، فبدأت طريق عودتي وأنا أقول بخواطري الصامتة أنه لا بأس في هذه الدنيا، في أن يكون العظيم عظيمًا؛ لأنه عظيم دائمًا، وكذلك لا بأس في أن يكون الصغير صغيرًا؛ لأنه صغير دائمًا، لكن البأس المخيف هو في أن يصغر العظيم، أو أن يعظم الصغير، لا لسبب سوى طريقتها في النظر، والذي قد يزيد من هول الفاجعة هو أننا ربما رفعنا أسماء أو محونا أسماء، لا بناءً على نظرة مجردة منزهة من انحراف عدسات المنظار، بل بناءً على عادات خلقتها فينا عدسات المناظير، ولا تلبث أن تصبح تلك العادات آلية، تتحكم في عضلات اللسان وأحبال الصوت بحيث «نكر» القوائم بأسماء العظماء، وكأننا نسمِّع (بتشديد الميم) قصيدة حفظناها عن ظهر قلب، بلا وعي بمعاني ألفاظها.
إننا لنقول — مثلًا — شوقي وحافظ ومطران، نقولها ونحن فيما يشبه الغيبوبة؛ لأن اقتران هذه الأسماء هو اقتران محفوظ، لا اقتران أقمناه بعد دراسة، نعم قد يكون في ذكر هذه الأسماء إنصاف كل الإنصاف، لكن الذي أريد أن أقوله هو أننا غالبًا ما نصدر فيه عن عادة آلية، لا عن وعي بمضمونه وكأننا في هذا التلاحق الآلي في حركات الصوت، أشبه بفئران التجارب العلمية حين تنطلق داخل المتاهات المعدة لها، انطلاقًا تنعرج به هنا وتستقيم هناك بغير أخطاء على الطريق، لا لأنها «علمت» بعد جهل، بل لأنها «اعتادت» كيف تسير، ومن هنا كان الحرص الشديد ممن يحرصون على بلوغ الشهرة العلمية أو الأدبية، على أن يسلكوا أسماءهم في «مسبحة» الأسماء، التي يذكرها الحافظون بدفعة آلية صرف، فإذا وفق أحدهم في أن يضع اسمه على حبات المسبحة، ضمن عندنا ما يشبه الخلود.
ويبدو أن العادات الحركية التي تتقاطر بها حبات المسابح في دنيا الأدب والعلم، لا تقتصر علينا وحدنا، فكما نقول نحن بحكم العادة الآلية: جرير والفرزدق، البحتري وأبو تمام، الأفغاني ومحمد عبده، العقاد وطه حسين، فكذلك يقولون في بلاد الغرب: راسين وكورني، كيتس وشلي، جيته وشلر، شو وولز.
وهكذا، وأعيد القول بأن هذه الاقترانات بين الأسماء، لو أقيمت على حسن فهم لأفادت؛ لأنها قد تنفع في تحديد المعالم داخل حركة أدبية أو فكرية، لكنها في حارة الأقزام — كما رأيتها بمنظاري — اقترانات ببغاوية محفوظة، تضر وقلما تفيد.