أين عمق الشاعر؟
لست أريد بهذا السؤال شعرًا ولا شعراء، وإنما أردت سؤالًا عن حياتنا الثقافية بصفة عامة، فلقد خيل إليَّ — عندما استعرضتها بلمحة من خيال — أنها حياة عائمة على سطح الماء، ككرة من المطاط أو من الفلين! إنها تهتز مع الموج، ولكنها في مكانها لا تقترب من شاطئ تستهدف الوصول إليه، والذي ينقصها هو عمق كالذي تتميز به حياة الشاعر، فأدباء التراجم يؤكدون لنا أن أصعبها على أقلامهم هي الترجمة لشاعر الشعراء؛ لأن له عمقًا لا تجد له مثيلًا في رجال السياسة أو رجل الأعمال، فالمسافة بين سطح الحياة الظاهر وعمقها الباطن، أبعد مدًى في الشاعر منها في سائر الناس، بل الشعراء — كما قال أحمد شوقي — هم الناس: «أنتم الناس أيها الشعراء»، وأما سائر الناس فيستمدون صفتهم الإنسانية بمقدار ما يقتربون في طراز حياتهم من طراز الحياة التي يحياها الشاعر، أعني بمقدار ما يكون لهم وراء السطح من أعماق.
الناس في حياتهم اليومية ينشطون مع الأحداث، فيختلفون إلى الأسواق بيعًا وشراء، أو يقصدون إلى مقار أعمالهم على اختلاف صنوفها، حتى إذا ما فرغوا من ذلك كله، كان ذلك هو الختام، وأما الشاعر فهو بعد أن يخوض مع الآخرين في بحر الحياة اليومية، لا يكون ذلك خاتمة الطريق عنده، بل يغوص وحده إلى العمق العميق الساكن، ليصوغ خبراته شعرًا، فكأنما هي شيء جديد خلق هناك، ليس بينه وبين الخبرة العملية عند السطح شبه قريب، وصدق من وصف هذا التحول بأنه «صياغة»؛ لأن الحلية الذهبية بعد أن يصوغها الصائغ، تكاد تفقد شبهها بأصلها ساعة خروجه من المنجم، وهكذا ترى الشاعر — أو قل الأديب أو الفنان بوجه عام — غير منعزل عن أحداث الحياة العملية، حتى وهو في عزلته هناك عند الأعماق أنه يغوص إلى عمقه مزودًا بأحداث الحياة العملية كما خبرها مع الآخرين على سطح الحياة، لكنه لا يتركها على صورتها الخامة، بل يغزلها خيوطًا، وينسج الخيوط قماشًا، حتى لكأن هذا القماش المنسوج ليس هو فروة الصوف التي رأيناها على ظهور الغنم، ولا هو ثمار القطن كما شهدناها على أشجارها يوم القطاف. وبهذا المعنى نقول إن مادة الفن هي نفسها مادة الحياة العملية، لكن بعد أن يحولها الفن بصولجانه السحري.
ولقد بدت لي حياتنا الثقافية الراهنة، وكأنها هي نفسها أحداث الحياة الجارية، لم يمسسها أحد بسحر الفن لتتحول من أحداث يتناقلها المتحدثون وترويها الصحف، إلى «ثقافة»، والحق أننا قد غالينا في تسطيح الثقافة في تصورنا لها، حتى اختلط علينا الأمر، بين «دردشة» يدردش بها الكاتب كيفما اتفق، وصياغة يصوغ بها الأديب مادة حياته الفكرية عن عمد وتدبير، اختلط علينا الأمر بين تلك الدردشة وهذه الصياغة، حتى كدنا لا نفرق بين ما نسميه «ثقافة الجماهير» التي يقصد بها ألوان من التعبير والتصوير، يتسلى بها جمهور الناس، تسليةً تصاحبها منفعة، وبين الثقافة التي تخلق لتدوم.
هنالك صورة للإنسان كما تصوره فرويد، إذ تصوره وكأنه جبل الثلج، تسعة أعشاره غائصة تحت سطح الماء، لا تراها الأبصار، وعُشر واحد منها هو البادي أمام الأعين، وهي صورة أراد بها صاحبها أن يقول إن حقيقة الإنسان لا تقتصر على هذا القليل الذي يبدو منه على سطح المعاملات، بل إن تلك الحقيقة لتعمق وتتضخم فيما هو خاف في طبقات اللاشعور الغائرة في طبيعته، ولست أريد أن أتعرض لهذه الصورة الآن في ذاتها من حيث الصواب والخطأ، ولكني أريد أن أنتفع بها فيما أنا بصدد الحديث فيه، لأقول إن حياتنا الثقافية الراهنة كما ظهرت أمام عيني، هي كجبل الثلج المقلوب، تسعة أعشارها حوادث الحياة الجارية في الشارع والسوق والمزرعة والمصنع، مما لا يكاد يولد حتى يموت، وعُشر واحد هو الذي اختار العمق ليستكمل نضجه فيه.
وإذا شئت برهانًا على صدق هذه الدعوى، فبرهاني قريب: اختر من شئت من الكتاب أو من أصحاب الفنون الأخرى، واسأل كلًّا منهم هذا السؤال: ماذا قال بكل ما أنتجه للناس؟ فلو كانت له حقًّا رسالة ثقافية، لكان الذي أنتجه، على تنوعه وكثرته، يلتقي عند هدف يمكن للناقد التحليلي أن يستخرجه من تحت الركام، وأما إذا حاول الناقد التحليلي جهده، فلم يجد أمامه إلا مقالات تتعاقب، ومسرحيات تتتابع، وقصصًا يقفو بعضها بعضًا، ثم لا هدف، عرفنا أن الرجل لم تكن له حياة فنية ممتدة متماسكة في هوية بعينها، لها طابعها الذي يميزها، بل كانت حياته الفنية كحياته العملية أحداثًا تتلاحق ظهورًا وخفاءً.
هذه ناحية، وناحية أخرى هي أن تختار من تراهم يمثلون الجوانب المختلفة من حياتنا الثقافية، أي إن تختار لنفسك شاعرًا، وكاتب مسرحية، وكانت قصة، ومصورًا، وموسيقارًا، وبدل أن تسأل هذه المرة عن كل واحد منهم على حدة: ماذا قال بكل ما أنتجه؟ ليكن سؤالك عنهم مجتمعين: هل يتكاملون في حياة واحدة؟ هل مؤثرات عصرهم وظروف مجتمعهم قد جعلت منهم فرقة واحدة متناغمة، برغم اختلاف الوسائل والأدوات؟ بعبارة أخرى: بماذا تجيب ناقدًا جاءك من بلد آخر ليسألك: ما هو الاتجاه العام المشترك الذي تتجه إليه الحياة الثقافية في مصر الآن؟ أغلب الظن عندي أنك لن تجد الجواب! لأنه بينما الشاعر الآن منشغل بالقلق الذي يصيبه في حياته الخاصة، ترى كاتب المسرحية منشغلًا بقضية سياسية، وكاتب القصة باحثًا عن النماذج البشرية التي ذهب زمانها وأوشكت على الزوال، فأراد أن يثبتها قبل أن تفنى، والمصور إما في رحلة مع أهل الريف في تصوراتهم الشعبية، وأما في رحلة مع أهل أوروبا في تجريداتهم، والموسيقار حائر بين العربي والأوروبي لا يدري أيختار أحدهما أم يمزجهما معًا؟ ونعود إلى السؤال: ما هو الاتجاه العام المشترك الذي تتجه إليه الحياة الثقافية في مصر الآن؟ وأكرر الرأي بأنك في أغلب الظن لن تجد الجواب.
إن النبات والحيوان — ودع عنك الإنسان — إذا ما اتحد حوله المناخ تعددت أشكاله، ولكنه مع ذلك اجتمع كله في خصائص تميزه، وإلا لما استطاع دارس أن يفهم معنى عبارة تقول: «نبات المنطقة الحارة» و«حيوان المنطقة الباردة» وما إلى ذلك من عبارات تلخص المميزات المشتركة بين الكائنات الحية في كل إقليم، والحياة الثقافية لا تبعد عن ذلك كثيرًا، فهنالك من فلاسفة النقد الأدبي والفني من يؤكد لنا بأن عملية الإبداع عند الفنان هي هي بعينها عملية الخلق في كائن طبيعي كالنبات، إذ هو يعتمل في داخله ليورق ويثمر، ففي الحالتين تفاعل منتج بين شكل الحيوان أو شكل النبات من جهة، والطاقة الداخلية المبذولة من جهة أخرى. ومعنى ذلك أنه كان من الطبيعي أن نجد رجال الفن والأدب — ما دامت تحيط بهم ظروف مشتركة — يلتقون في روح واحد واتجاه واحد، على وجه التعميم الذي لا ينفي قيام نفوس شوارد تستقل وحدها على الطريق.
إن صميم الحركة الفكرية في بلد ما، إبان عصر معين، هو التماس الروابط التي تصل سطح الحياة كما هي معايشة في الشوارع والأسواق بأعماقها، ماذا تصنع الفلسفة سوى أن تبحث عن «المبادئ» الأولى العميقة الخافية وراء أستار الظواهر؟ لماذا اختلفت الاتجاهات الفلسفية في الأقاليم المختلفة، إلا أن يكون الفكر الفلسفي متأثرًا — في الإقليم المعين أو في العصر المعين — بظروف متميزة بطابع خاص؟
كثيرًا ما نقول عن شبابنا اليوم — بحق — أنهم فيما يشبه الضياع، فلماذا؟ سر ذلك هو تعدد الاتجاهات في محصولنا الثقافي، فهم إذا ما تشربوا ذلك المحصول عن طريق القراءة أو أية وسيلة من وسائل التوصيل، وجدوا أنفسهم مشدودين إلى الماضي مرة، وإلى الغرب مرة، ووجدوا أنفسهم يتمثلون الروح المحلي الإقليمي حينًا، ويتمثلون الروح الإنساني العالمي حينًا آخر، فإلى أين يتجهون؟
المُثل العليا التي من شأن الثقافة أن تشيعها في الناس بطرق غير مباشرة تفقد تأثيرها إذا كانت مبتورة الصلة بترًا تامًّا مع الحياة الواقعة، إذ المفروض في أنك المثل أن تجيء امتدادات لفضائل الحياة العملية كما يعترف بها الناس في معاملاتهم، وأما إذا نظر الشباب إلى حياتهم الواقعة، ثم استمعوا إلى ما تشيعه فيهم ثقافتنا، وجدوا الهوة سحيقة كمًّا وكيفًا، فهل نعجب بعد ذلك أن نعلم عن هؤلاء الشباب أن بعضهم يستسلم لأحلام يقظته يشبع بها ما يستحيل على حياته الواقعة أن تحققه له، وأن بعضهم الآخر يرتمي في مذهبيات تعده بما ليس هو في سبيله إلى أن يراه محققًّا في حياته، وأن بعضهم الثالث يكفر بالمبادئ التي تشيعها فيهم الثقافة كذبًا، فيلجأ إلى انتهاز الفرص كيفما سنحت وأينما، وإلى الزيف والنفاق؟ ولو كانت حياتنا الثقافية صادقة في ربطها بين سطح الحياة وأعماقها، لأحس المتقبلون للناتج الثقافي بتلك الرابطة، وعاشوا حياة يحدوها أمل رشيد في السير على الطريق الصحيح، لا تضللها آمال هي أقرب إلى الأحلام.
حياتنا الثقافية لا تنطوي في مجموعها على معنًى محدد للوجود الإنساني، ولا على معنًى محدد للتقدم المنشود كيف يكون، كان رجال الثقافة العليا فيما مضى — أعني عند أسلافنا من العرب الأقدمين — لا يترددون في أن يكون معنى الوجود الإنساني هو أن يصل بصاحبه إلى سعادة الحياة الآخرة، وأن التقدم الحقيقي هو مزيد من التقوى، وأما نحن اليوم فربما وافقنا الأقدمين على هذه المعاني المحددة نفسها، مع إضافة جديدة، هي أن الطريق الموصل إلى تلك النهايات، هو نفسه طريق له قيمته، نعم أننا قد نكون سائرين على جسر لنعبر به إلى الشاطئ الآخر، لكن هذا الجسر نفسه يحتاج إلى من يقيمه، ويتطلب من السائرين عليه أن يمعنوا فيه النظر لذاته، ومهما يكن الأمر في ذلك، فحياتنا الثقافية تخلو من التحديد لمعنى الحياة وأهدافها، فأصاب شبابنا ما أصابهم من ضياع.