المثقف الجديد
دار بي الزمان دورته، حتى جاءت اللحظة التي أتلقى فيها خطابًا من طالب بإحدى كليات الهندسة في جامعاتنا، فوجدته في خطابه قد أجلس نفسه على كرسي الأستاذية، وأجلسني عند قدميه لأستمع بما يأمرني به من أوامر التعليم وتوجيهات التثقيف، مقرونة — تلك الأوامر والتوجيهات — بضروب شتى من عبارات التقريع والتوبيخ، فلقد قرأ سيادته كلامًا منسوبًا إليَّ في إحدى المجلات، كان في الأصل حديثًا مذاعًا، ثم نقله ناقل — أو نقل خلاصة له — في تلك المجلة، فثارت ثورة أستاذي الطالب لهذا الضلال الذي أعماني بصرًا وبصيرة، ثم شاء فضله أن يهديني بحكمته سواء السبيل بعد ضلال.
إني في رأي سيادته إنسان لا يعتز بإسلامه ولا بشرقيته ولا بعقله (وأنا أنقل ألفاظه بنصها، حتى لا أحرم القارئ من الدرس النفيس) وإنني متأثر بالغرب، فبدل العمل على إزالة الغبار الذي تراكم على قيمنا الشرقية ومناهجنا الحضارية وماضينا المشرف، أرتمي في أحضان الغرب الذي يثير الاشمئزاز بما يدعيه من التحرر، فلماذا أعلق آمالي بالعقل وهو عاجز؟ فلو علمنا ما أراده الله وما رسمه لنا في الحياة، لعلمنا أنه لم يأتِنا من الغرب إلا الإظلام، وأنه ليجب عليَّ أن أعلم بأنني مهما أظهرت نحو الغرب من حب، ونحو حضارته من إعجاب بكل ما فيها من عيوب ونقائص، كأنني — من وجهة نظر هذا الغرب — ربيب أمة متخلفة، تقبع في ذيل الأمم، تستجدي من هنا وهناك، وأداة طيعة لنشر الظلام … ثم أخذ أستاذي الطالب بعد ذلك يرسم لي طريق السير كما ينبغي أن يكون، ومنهاج العمل كما ترتضيه حكمته، ووقع في نهاية الخطاب باسمه كاملًا صريحًا، وبعنوان منزله في البلد الذي يقيم فيه، وبصنعته وهي أنه طالب بكلية الهندسة في مدينة كذا.
ولست أدري لماذا كان ابن المقفع بكتابيه «الأدب الكبير» و«الأدب الصغير» هو أول ما جاءني بعد أن فرغت من قراءة الخطاب؟ أيكون ذلك لنصح موجه إلى شاب، كنت قرأته في أحد الكتابين منذ زمن بعيد، ناصحًا له بأن يكون «على أن يسمع أحرص منه على أن يقول»؟ خصوصًا إذا كان بين القائل والسامع مسافة من العمر كالتي بيني وبين طالب الهندسة الذي أراد لي الهداية بخطابه، وليأذن لي سيادته بأن أؤكد له أن مسافة العمر التي بيني وبينه — وهي في أقل التقدير خمسون عامًا — قد ملئت كلها بالعمل الجاد عامًا بعد عام، وشهرًا بعد شهر، ويومًا بعد يوم، وكدت أقول كذلك ساعة بعد ساعة، فما كان أحرى به أن يأخذ بنصح ابن المقفع، وهو أن يكون — والحالة هذه — «على أن يسمع أحرص منه على أن يقول» لكي لا يصدق عليه حكم ابن المقفع أيضًا بأنه «قائل باغٍ، وسامع عياب».
اسمع يا بني: لقد أراد لي الله أن أحترف التعليم خلال أعوام زادت على الأربعين، بدأته شابًّا، وما زلت أضطلع بواجباته إلى يوم الناس هذا، فمن حقي عليك أن أقول، ومن واجبك نحوي أن تسمع، فإذا لم يعجبك ما تسمعه اقتضاك خلق الإسلام أن تعارض في أدب عرفه المسلمون وعرفته «قيمنا الشرقية ومناهجنا الحضارية وماضينا البعيد المشرف» وهي كلها أصول أشرت عليَّ في خطابك أن أعتصم بها.
والذي أريد قوله لتنتفع وينتفع معك سواك، هو أنني إذ أدعو لثقافة تساير العصر، فذلك لعلمي بأن الثقافة قد تغيرت معانيها مع تعاقب العصور، وليست هي كالعنصر من عناصر الكيمياء، يظل ذا صفة تميزه فلا يتغير مع الزمن ولا يتبدل، فما كان شرطًا ضروريًّا للمثقف في مرحلة معينة، لم يعد كذلك في مراحل أخرى جاءت بعد ذلك.
ولنأخذ تاريخ المسلمين نفسه مثلًا نوضح به ما نريد: كانت الثقافة قبل أن يجيء الإسلام لا تعني إلا رمح المحارب، فذلك الرمح كانت تطلب له قناة مثقفة، أي مسواة مقومة مستقيمة، فما هو إلا أن ظهرت الدعوة الإسلامية بكل ما جاءت به من بحر زاخر في مبادئ الأخلاق الفردية والاجتماعية جميعًا، حتى قفز معنى «الثقافة» قفزةً هائلةً نقلتها من ميدان الرماح وقنواتها، إلى فطنة العقل وذكائه، وكانت النقلة على يدي أديب العربية الجبار أبي عثمان عمرو الجاحظ، لم تعد الثقافة تسوية العود الذي يركب عليه سنان الرمح ليصلح للقتال، بل أصبحت في استعمال الجاحظ لها (ذلك في القرن التاسع الميلادي) تسوية الفكر ليصبح بفطنته وذكائه قادرًا على حل مشكلات الحياة، والذي أدى إلى هذا التغير الهائل في وجهة النظر هو التغير الحضاري الذي شمل الناس بعد الإسلام.
على أن تثقيف العقل بما يتفق مع الحضارة الجديدة يومئذٍ، كانت له وسائله الضرورية من وجهة النظر السائدة، وأولى تلك الوسائل وأهمها هو دراسة اللغة بكل ما تستلزمه تلك الدراسة من علوم النحو وقواعد الاشتقاق، وإيراد الشواهد من الشعر الجاهلي أو من النص القرآني الكريم، ولماذا جعلوا أهم سمات المثقف يومئذٍ إلمامه باللغة إلمامًا جيدًا؟ كان ذلك لسببين ظاهرين؛ أولهما: أن يتأكدوا من قدرة المثقف على فهم الكتاب الكريم فهمًا صحيحًا — وعلى مثل هذا الفهم الصحيح يتوقف الفقه الإسلامي كله — وثانيهما: أن يكون للحُكَّام المسلمين في البلاد التي دخلت الإسلام (كمصر وإيران مثلًا) ما يعتزون به في الحياة الثقافية إذا ما واجهتهم ثقافة تلك البلاد التي يحكمونها.
كان ذلك كله عندما كان الحكم للمسلم الذي هو من أصل عربي، فلما جاءت الدولة العباسية ومعها سياسة جديدة، وهي أن يكون الحكم للمسلم عربيًّا كان أم غير عربي، دخلت «الثقافة» في مرحلة جديدة من مراحلها، وأصبح المثقف إنسانًا لا يقتصر علمه على اللغة وملحقاتها، والفقه الإسلامي ومذاهبه، بل اقتضى الأمر إضافة جديدة تتناسب مع الوجه الحضاري الجديد، وتلك الإضافة هي الإلمام بتراث الحضارات الأخرى، وفي مقدمتها حضارة اليونان الأقدمين، وهنا — كما لعلك تعلم يا بني — أقام الخليفة المأمون دارًا لترجمة التراث اليوناني العقلي، من فلسفة وعلم (ولم يعنوا بنقل الأدب والتاريخ).
وسرعان ما أصبحت هذه الجوانب المنقولة عن اليونان شروطًا أساسية لا بد من توافرها فيمن أراد أن يسلكه الناس في زمرة المثقفين، وإذا شئت — يا بني — أن تثق من صدق هذا الذي أقوله، فدونك معاجم الأعلام (وما أكثرها) التي دونها أسلافنا، لترى كيف كان التفوق الفكري في شتى ميادينه مقرونًا بدراسة المنطق اليوناني والفلسفة اليونانية والعلم اليوناني، مضافًا ذلك كله إلى الأساس الإسلامي والعربي من فقه ولغة.
وكان هذا التحول في معنى «المثقف» أمرًا طبيعيًّا، ما دامت ظروف المرحلة الحضارية الجديدة (في ظل الدولة العباسية) قد رفعت مكانة المسلمين من غير العرب، فكيف تقصر هؤلاء على دائرة فكرية لا تشمل فيما تشمله أصول الحضارات الأخرى، ولعلنا نحسن الاختيار لو ضربنا مثلًا للمثقف في أوائل الدولة العباسية ابن المقفع الذي قبست لك منه عبارتين في أول هذا الحديث، فابن المقفع فارسي، بلغ من البلاغة العربية ما لعلك قد عرفت شيئًا منه عندما قرأت له «كليلة ودمنة»، فبرغم بلاغته في الكتابة العربية إلى درجة لا تعلوها درجة، فلقد قدم للناس بهذه البلاغة كلها «ثقافة» لم يكن لها علاقة بالتراث العربي القديم، إذ جاوز بتلك الثقافة الجديدة حدود القومية الضيقة إلى حيث اغترف من الينابيع الجديدة، فترجم عن الهندسية كليلة ودمنة، وكتب كتابيه «الأدب الكبير» و«الأدب الصغير» وغيرهما، ليملأها بفكر سياسي وغير سياسي مما لم يكن للتراث العربي القديم عهد به.
وحتى لا يطول بنا الحديث، سنطوي قرونًا من الزمان، لنقف معًا في مراحل تاريخنا عند مشارف القرن الماضي، ثم إلى ما أعقب تلك المشارف إلى يومنا هذا، أفتريد — يا بني — أن نجد أنفسنا في غمرة من حضارة العصر الجديدة، فلا نكيف أنفسنا لها، ولا نغير من مفهومنا القديم عن «المثقف» الجديد؟ ماذا كنت أنت لتدرس في كلية الهندسة، إذا أنت لم تقبل عن طواعية فكر الحضارة الجديدة؟ ومن أدراني؟ لعلك عند هذه النقطة تتربع أمامي على كرسي الأستاذية مرةً أخرى، وتجلسني عند قدميك لأستمع إلى إرشادك الناضج، فتلفت نظري إلى الحقيقة التي غابت عني، وهي أن علم الهندسة الذي تدرسه في الجامعة شيء، وأما تقاليدنا «الثقافية» فشيء آخر، «قيمنا الشرقية وماضينا البعيد المشرف» (كما ورد في خطابك)، لكني أقسم لك بالذي بسط الأرض، ورفع السماء أن ذلك لم تفتني رؤيته، غير أني أفهم فيما أفهمه من «ماضينا البعيد المشرف» أن أسلافنا قد اخترقوا الآفاق بشجاعة منقطعة النظير، ألم تسمع بعنوان كتاب المسعودي: «نزهة المشتاق لاختراق الآفاق»؟ نعم، كانت نزهة من اشتاق منهم إلى حياة المثقفين، هي في أن يخترق الآفاق إلى بلاد غير بلاده، حتى يعيش عصره كاملًا، والولاء لآبائنا — يا بني — هو أن نخترق الآفاق كما اخترقوا، لنحيا عصرنا كاملًا.
لكن هذا الاختراق للآفاق، لا ينبغي أن يضيع مني ركنين أساسيين، وهما عقيدتي الدينية، ولغتي العربية، إن عقيدة أسلافنا لم تنقص مثقال ذرة حين اخترقوا الآفاق ليعبوا من حضارة الهند ومن حضارة اليونان ومن غيرهما، فلماذا يسبق إلى ظنك أن عقيدتي لا بد أن يصيبها الضعف إذا شربت حضارة عصري كما شرب أسلافي المسلمين حضارة عصرهم.
وتبقى اللغة، فإني لمن المؤمنين إيمانًا لا تهزه العواصف العاتية، بأن دخولنا حضارة عصرنا ليس له إلا معنى واحد، وهو أن نسكب تلك الحضارة في لغتنا العربية، وبقدر ما سكبنا نكون قد ساهمنا في حضارة العصر وعشناها، هذا ما فعله آباؤها بالنسبة للحضارات الأخرى، وهذا ما يجب علينا فعله، ولن أسمح لأذني أن تسمع إلى الهراء الذي يقوله نفر منا، بأن بعض «العلوم» يستعصي عليَّ النقل إلى العربية، وهو هراء مرده إلى العجز، هذا هو موقفي، فهل ما زلت — يا بني — تراني «إنسانًا لا يعتز بإسلامه ولا بشرقيته ولا بعقله» إذا كنت مصرًّا على شتائمك توجهها إلى من هو في مكانة أستاذك وأبيك، تأدبت أنا بأدب القرآن الكريم فقلت: «لكم دينكم ولي دين».