رسالة الكاتب
أقلقتني فكرة لمحتها متضمنة فيما نشرته الصحف منذ قريب عن «الثقافة» ودورها وحدود الواجبات التي ينبغي للدولة والأفراد المثقفين أن يضطلعوا بها في المجال «الثقافي»، وليست هذه الفكرة التي أقلقتني حديثة العهد بيننا، إنها لم تولد أمس ولا أول أمس، بل ظهرت بكل قوتها منذ بضع سنين، خلاصتها هي أن الحياة الثقافية — حيثما كانت — لابد لها من الالتزام بمجموعة من المبادئ العليا التي لا يجوز مناقشتها في حد ذاتها، وكل الذي يجوز لصناع الثقافة أن ينتجوه، إنما هي الحركة تحت هذا السقف وفي ظله، وأما السقف نفسه — أعني تلك المبادئ العليا — فلا يجوز اختراقه، ولو أمعنت النظر في هذا التصور، وجدته يعني آخر الأمر أن مبدعي الثقافة هم أناس يحسنون العرض لما ليس من صنعهم، كأنما شأنهم هو شأن عارضي الأزياء، ليست الأزياء نفسها من غزلهم ونسجهم، بل هي ليست أزياءهم من حقهم أن يأخذوها معهم إلى ديارهم بعد فراغهم من عرضها، وإنما المهمة الوحيدة الموكولة لهم هي عرضها على الناس أحسن ما يكون العرض لعل هؤلاء الناس يقبلون على شرائها، وعلى ضوء هذا التصور، يكون الكاتب — مثلًا — هو الرجل الموهوب في صياغة الكلمات، فهو يجيد سبكها ويحسن عرضها، وأما الأفكار نفسها التي يتولى سبكها وعرضها، فلا يلزم بالضرورة أن تكون أفكاره هو معبرة عن وجهة نظره هو، بل إن «خاماتها» لتهبط عليه ليتولى هو صنعها، كما نعطي القطن الخام والصوف الخام لمصانع الغزل والنسيج لتتولى غزلها ونسجها تمهيدًا لبيعها قماشًا جاهزًا في الأسواق.
أقول إن هذه الفكرة أقلقتني، لا لأنني أتصور كاتبًا أو فنانًا يمكنه المضي في عمله بغير «سقف» يظله، أي بغير مبادئ أولية يفترض قيامها لتكون هي الهادية له فيما يكتب وما يبدع، فمثل هذا التصور مستحيل على العقل، حتى في البناءات العلمية الخالصة في ميادين الرياضة والعلوم الطبيعية ذاتها، إذ هو مستحيل على الباحث العلمي، كائنًا ما كان ميدانه، أن يخطو خطوة واحدة دون أن يكون أمامه نقطة يبدأ منها السير، يسمونها هناك «فروضًا» أو «حقائق مسلمًا بها»، ومن تلك «الفروض» أو «المسلمات» يبدأ الباحث العلمي خطواته على الطريق، ولو زعمنا أن الباعث العلمي يبدأ غير مقيد بما يبدأ به، لكنه كمن يزعم للطائر القدرة على الطيران بلا جناحين.
لم تكن الفكرة التي أقلقتني — إذن — هي القول بأن صناع الثقافة لا بد لهم من مبادئ عليا يلتزمون بها في صناعتهم، تأسيسًا على أن كل خطة قومية للثقافة — في مفهوم العصر الذي نعيش فيه — يتحتم عليها أن تدور في إطار النظرية السياسية والاجتماعية السائدة في الأمة المعينة، لا، لم تكن فكرة البدء الحتمي من إطار نظري معين هي الفكرة التي أقلقتني؛ لأن ذلك — كما قلت — هو الطريق الوحيد لكل فكر، بما في ذلك التفكير العلمي المنهجي نفسه، بل إن ذلك هو الطريق الوحيد أمام الناس إذا ما أرادوا أن يتعايشوا في مجتمع واحد، ففي كل جماعة من الناس، منذ عرفت هذه الدنيا حياة للجماعات، أسس مشتركة لا بد للأفراد من احترامها، وهي ما يسمونه بالنظام العام، فإذا ما تواضع الناس على «عُرف» معين، تحتم على الأفراد مراعاته في سلوكهم العلني، مهما يكن من أمر ما يضمرونه في أنفسهم من رفض لذلك العرف.
ومرة أخرى أقول: إنها إذن لم تكن هي الفكرة التي أقلقتني، أن يقال بوجوب التزام الحياة الثقافية لإطار نظري معين، هو الذي ارتضاه الناس أساسًا لحياتهم بعضهم مع بعض، لكن الذي أقلقني حقًّا هو أن يحدث خلط في الأفهام، فلا نفرق بين مستويين من الإبداع الثقافي؛ أحدهما: يجعل مهمته التفنن في عرض الإطار النظري المعترف به، والثاني: يجعل هدفه تعديل ذلك الإطار ذاته، على أن يكون مفهومًا — بالطبع — أن الهادفين نحو التعديل لا بد لهم من احترام النظام القائم إلى أن يتم تعديله أو تغييره عن طريق الإقناع والاقتناع.
ولست أعرف في ذلك أبلغ مما ورد على لسان سقراط في محاورة «أقريطون» حين جاء إليه وهو في سجنه ينتظر تنفيذ الحكم بإعدامه، تلميذه أقريطون يعرض عليه الهرب من السجن بخطة رسمها وأحكم تدبيرها مع آخرين من أتباع سقراط، وهنا أجابه سقراط بخطاب طويل هو من أسمى ما خاطب به أستاذ تلاميذه، في وجوب أن يطيع المواطن قوانين أمته ونظمها، حتى ولو كان من رأيه أن تتغير تلك القوانين والنظم؛ لأن الطاعة تظل واجبة إلى أن يتم التغير المطلوب بالطريق المشروع، ولقد ساق سقراط خطابه هذا سياقًا جميلًا، إذ تصور أنه إذا ما هرب مع أقريطون، فقد يواجهه القانون ويسائله — مع تجسيده للقانون وكأنه شخص متعين يتكلم ويناقش — فيقول القانون المشخص لسقراط شيئًا كهذا، أتظن يا سقراط أن دولة يمكن أن تقوم لها قائمة إذا عصي المواطنون أحكامها؟ إذا كنت قد رأيت وجوب إعدامك، أفيكون من حقك أن تجازيني إعدامًا بإعدام؟ أتلوذ بالهرب، فلا أنت أطعتني كما قطعت على نفسك عهدًا بأن تفعل، ولا أنت أقنعتني بوجوب أن أتغير؟
فالفكرة التي أقلقتني مما لمحته متضمنًا في المنشور عن «الثقافة» وتخطيط الدولة لها، هي — كما أسلفت — أن يختلط الأمر في الأذهان فلا نفرق بين كاتب وكاتب، أو بين فنان وفنان، فهنالك من يقتصر جهد الإبداع فيه على الدوران حول الإطار الاجتماعي والسياسي المفروض، وهو أمر مطلوب وله أهميته القصوى في مجال التعليم والتثقيف، لكننا لا بد أن نفسح المجال كذلك أمام الكاتب أو الفنان الذي يجاوز نشاطه الإبداعي هذه الحدود، ويرى ضرورة التعديل أو التبديل فيما هو قائم، دون أن يكون هذا التعديل أو التبديل حقًّا متروكًا للسلطة وحدها، تجريه إذا شاءت، وتمنع عنه إذا لم تشأ.
ولقد انتهى الحوار بيني وبين نفسي إلى طرحه سؤالًا من الأساس: ما هو الكاتب؟ لكني ما كدت أطرحه حتى تبين لي أن الأمر أعقد من أن يجاب عليه بجواب بسيط ومختصر، فأول ما يرد إلى الذهن في هذا الصدد، هو أن العصور المختلفة لم تتفق على مفهوم واحد للكاتب، فقد خلفت لنا حضارة المصريين الأقدمين صورة للكاتب — في تمثال «الكاتب» المعروف — رجلًا جلس متربعًا على الأرض، ناشرًا صحيفة على ركبتيه، وممسكًا قلمه بيده، ومنصتًا بأذنيه انتظارًا لما يمليه عليه سيده.
ولم يكن «الكاتب» في الثقافة العربية القديمة صاحب رأي، بل كان عاملًا في دواوين الحكم، يكتب الرسائل للرؤساء، وحتى إذا اشتهر بعضهم بجودة الصياغة الأدبية، فذلك لا ينفي عنهم صفتهم الرئيسية، وهي العمل في الدواوين، بما كان يتميز به ذلك العمل عادة من سطحية يندر لها أن تنشئ عقولًا تأخذ بنصيب في الحركة الفكرية.
قلت لنفسي: إنه إذا كان معنى «الكاتب» يتغير بتغير العصور على هذا النحو، أفلا يكون من حقنا أن نسأل عن المعنى الذي يقره عصرنا نحن؟ فمن هو الكاتب في عصرنا؟ وهنا ازدادت المشكلة أمامي تعقيدًا؛ لأنني وجدت المعنى ما يزال يتغير بتغير القائل، فبعض البلاد ذات المذهبيات السياسية المحددة، تشترط مضمونًا معينًا في كتابة الكاتب ليكون كاتبًا، على حين أن بلادًا أخرى لا يعنيها مثل هذا الإلزام، وذلك اختلاف متوقع ومعروف، لكن الذي لم أتوقعه ولم أكن أعرفه، هو أني وجدت نوعًا آخر من اختلاف الرأي عما يجعل الكاتب كاتبًا، حتى في داخل البلد الواحد من البلاد التي لا تلزم أحدًا بمضمون فكري معين، وهو اختلاف رأيته بين اتحادات الكتاب من جهة، والكتاب المبدعين أنفسهم من جهة أخرى.
أما اتحادات الكُتَّاب (أو ما يشبهها) فعندما وقعت في حيرة التعريف والتحديد، التمست لنفسها الأمان، فقالت إن الكاتب هو كل من خط بالقلم! أو بعبارة أخرى استعملها القائمون على تلك الاتحادات، إن الكاتب هو صانع كأي صانع آخر، وكل ما يمزيه عن سواه هو أنه «صانع كلمات»، أنه «عامل» وغاية ما في الأمر من فوارق تفصله عن سائر «العمال» أن مادته الخامة التي يشكلها ليست خشبًا ولا نحاسًا، بل هي كلمات تعلم كيف يصوغها.
قال ذلك بعض اتحادات الكتاب (في ألمانيا الغربية مثلًا، وفي الولايات المتحدة الأمريكية أحيانًا) حين وجدوا أن أي شرط يضعونه لتمييز «الكاتب» قد يجد من يعارضه ممن لا يتحقق فيهم هذا الشرط، فإذا أنت أبعدت كل ما يمكن أن يختلف عليه أصحاب الكتابة، وجدت الجانب المشترك الوحيد بينهم جميعًا هو «القلم»، فما دمت حامل قلم، فأنت كاتب في تعريف تلك الاتحادات، مما يجعلني — حين قرأت هذا — أسأل نفسي: ترى أيكون هذا جزءًا من المعنى الذي أرادته الآية القرآنية الكريمة حين جاء القسم ﺑ «القلم» متبوعًا بما يسطره حاملوه؟
لكن الكاتب المبدع الأصيل إذ يتحدث عن نفسه، لا يتصور أبدًا أن أمر صناعته يقف به عند صياغة الكلمات بغض النظر عن مضمونها، بل هو يصر على أنه كاتب أصيل؛ لأنه صاحب فكرة، أي إن أصالته وإبداعه ناشئان من أنه صاحب رسالة، وهو كاتب لأنه لا يطيق حبس فكرته في رأسه، ولا يكفيه أن يكتب ما يكتبه ليضعه في أدراج مكتبه، إنها رسالة، والرسالة لا بد أن تنشر في الناس، ولهم بعد ذلك أن يقبلوها أو يرفضوها، وذلك معناه أن الكاتب لا يكون كاتبًا إلا إذا قراه قارئون، حتى ولو جاء هؤلاء القارئون في عصور تالية.
لو كانت مهمة الكاتب الأصيل مجرد الدوران في نسق فكري لم يكن من خلقه، لما استحق أن يوصف بالأصالة، فلكي نضمن طريق الإبداع لكتابنا، يجب أن نجعل الأمر واضحًا بأنه من حق صاحب الفكرة أن يعلنها، حتى ولو جاءت على شيء من التعارض مع الإطار الفكري القائم، على أن الكاتب — إلى جانب الرسالة الفكرية التي يوجهها إلى قرائه — هو كذلك بالطبع «صانع»، ومادة صناعته هي اللغة، إنه فنان تشكيلي بالإضافة إلى كونه كذلك فنانًا تعبيريًّا؛ لأنه — إلى جانب دعوته الفكرية — يعنى بتشكيل اللفظ كما يُعنى المصور بتشكيل اللون، وكما يعنى سائر العاملين بتشكيل الخشب والمعدن والزجاج وغيرها، وهو كأي صانع ماهر، يتمنى لصناعته أن تدوم دوام الدهر، فدوام البقاء هو من أخص خصائص الجمال الفني، إن جمال الأهرامات هو في دوامها وصمودها، وهكذا قل في كل صنع جميل.
لكن هذا كله لا يصرفنا عن لب الموضوع إذا ما كان الصانع «كاتبًا» فها هنا يقوم شرط جوهري، وهو أن تنصب صناعته على فكرته هو، على رسالته هو، لا على أفكار الآخرين ورسالاتهم، والكاتب الحق هو من يتحدث عن أمته — أو ربما عن الإنسانية كلها — في الوقت نفسه الذي يتحدث فيه عن فكرته، وأن الكاتب الحق ليستمد قيمته، لا من مقدار كسبه المالي أكثيرٌ هو أم قليل، ولا من اتساع جمهوره، أهو شامل للعد الأكبر أم منحصر في العدد الأصغر، وإنما يستمد قيمته من جوهر فكرته التي يعرضها، ومدى اتصالها بنبض العصر الذي يعيش فيه، أو المستقبل الذي يريد أن يمهد العقول لإقامة بنائه.