الإنسان العادي
دفع بائع الصحف بما دفعه منها تحت الباب، كما يفعل كل صباح في موعد معلوم، فجلست من بيتي في المكان اليومي المألوف أقرؤها، وبعد فترة قصيرة دق جرس الباب، وكان بائع الخبز، ثم دق الجرس وكان بائع اللبن، ومضت ساعتان، ودق الجرس مرة ثالثة وكان موزع البريد، دورة تتكرر كل يوم، لكنها اليوم استلفتت نظري إلى تصور جديد.
بلمحة سريعة من الذاكرة، استجمعت أهم العاملين الذين يدخلون حياتي اليومية أو الدورية، فيكونون جانبًا من أشد جوانبها حيوية وضرورة: البواب والطاهي والبقال والجزار وبائع الخضر والفكهاني وشرطي المرور … إلخ، هؤلاء جميعًا هم النسيج الحي الذي لولاه لما استقامت لي الحياة يومًا واحدًا، كلهم يدور في فلكه دءُوبًا رتيبًا، لا يكاد يتخلف عن مساره المنظوم يومًا. كأنه الكوكب يجري في مداره على نسق معلوم، فنعرف ساعات ظهوره وساعات اختفائه، ونرتب حياتنا على هذا النظام من ظهور أو اختفاء.
والعجب أن يكون لهؤلاء الناس في حياتهم العادية المطردة، كل هذه الخطورة في حياتنا الجارية، ثم تفتح الصحيفة اليومية، فلا تجد لأحد منهم ذكرًا، وتقرأ الأدب قصة ومسرحية وشعرًا ومقالة، فتوشك ألا تجد لأحد منهم أثرًا؛ وذلك لأنهم «عاديون»! أما إذا شذ واحد منهم في سلوكه، فتخلف عن الظهور في أوانه، وأتلف علينا اطراد الحياة الذي ألفناه، فها هنا تبدأ أبواب الصحافة وأبواب الأدب تنفتح لدخوله، ويتسع انفتاح الأبواب أو يضيق، وفقًا لدرجة الشذوذ والانحراف عن جادة الطريق.
المحظوظون بجذب الانتباه في وسائل الإعلام كلها — صحافة وغير صحافة — وفي الأدب قصة ومسرحًا، بل وفي التاريخ بصفة عامة، ليسوا هم «العاديين» من الناس الذين على أكتافهم تدور عجلة الحياة، بل هم الخارجون على المألوف ارتفاعًا أو انخفاضًا، فاللص يشد الانتباه بنفس الدرجة التي يشده بها البطل، بل إن رجال الصحافة — مثلًا — ليجاهرون في صنعتهم بمبدأ يتخذونه قاعدة للعمل في مجالهم الصحفي وهو مبدأ اشتقوه من عبارة قالها علم من أعلام الصحافة في غير بلادنا، وهو أن الحدث الذي يستحق الذكر في الصحيفة هو الحدث الشاذ، وليس هو الحدث المألوف، فإذا عض كلب إنسانًا فلا شيء في هذا مما يعني الصحيفة، وأما إذا عض إنسان كلبًا، فهنا تفسح الصحيفة صدرها للتسجيل.
هل يمكن أن يرد ذكر في صحيفة أو في غيرها من طرائق الأعلام لفلاح عادي قضى نهاره منذ فجره إلى مسائه عاملًا في زراعته، أو لزوجة ذلك الفلاح، وقد سبقت زوجها بساعة على الأقل، وتأخرت عنه في المساء بساعات، تطهو وتغسل وتنظف وتنقل الطعام والماء من هنا إلى هناك، وتصنع مئات الأشياء التي لا ترد لنا نحن الكاتبين على بال أو على قلم؟
هل يمكن أن تعلن صحيفة يومًا بأن طبيبًا يعالج مرضاه، ومعلمًا يعلم تلاميذه، ومهندسًا زراعيًّا يشرف على إحدى مناطق الريف؟ إنها لا تفعل ذلك، ولا نتوقع لها نحن أن تفعل؛ لأن هذه كلها هي من أمور الحياة «العادية»، وكأن الجانب غير العادي من الحياة أهم وأجدى. وتمضي بعد ذلك السنون، ويأتي بعد ذلك المؤرخون، فيطالعون صحف العصر على أنها الوثائق الوثيقة لصورة الحياة، مع أنها في حقيقتها العميقة هي الصورة بعد أن طرحنا منه الحياة الفعلية اليومية كما تعيشها أنت وأعيشها أنا ويعيشها غيرنا من عباد الله «العاديين».
إن الوسيلة المعيَّنة من وسائل الإعلام إذا أرادت أن تقدم لجمهورها صورة للرأي العام في موضوع ما، طاب لها أن تسأل الممثل أو الممثلة عن الممثل الآخر أو الممثلة الأخرى فهؤلاء هم «النجوم» التي يجب أن يلمع وميضها في دنيا الآراء، كما لمع في دنيا السينما والمسارح، ولكنها لا تسأل بائع البطيخ عن زميله بائع البطيخ؛ لأنه إنسان «عادي» لا يستحق أن يسمع له رأي.
ولماذا نوجه اللوم؟ لا، بل إني هنا أقرر ما أظن أني أراه ولا ألوم، فلعل ما أراه هو جزء من طبيعة البشر، التي ليس لنا منها مفر، وإلا فلماذا دار الأدب العالمي كله فيما مضى — إلا نادرًا — على شذاذ الناس لا على العاديين منهم؟ لماذا كان أبطال شيكسبير جميعًا هم من أمثال: الملك لير الذي تنكرت له بناته بالعقوق الذي لم نسمع بمثله في حياة الناس الجارية، حتى لقد أصيب هو بالجنون. هاملت الذي قتل عمه أباه ليتزوج من أمه. ماكبث الذي قتل الملك الجالس على العرش مدفوعًا بزوجته الطامحة العنيدة، ليجلس مكانه. عطيل الأسود البشرة الذي تملكته الغيرة على زوجته البيضاء فقتلها. رتشارد الثالث ذي الظهر الأحدب، الذي جعل يقضي على كل ما هو حائل في سبيل وصوله إلى الملك … إلخ إلخ، فليس هنالك بطل واحد عند شيكسبير هو من قبيل بائع الخبز، وبائع اللبن، وموزع البريد والبواب والطاهي والبقال، الذي هم النسيج الحي من وجودنا اليومي.
هذه مناسبة طيبة أذكر فيها خلاصة لحديث جرى في هذا المعنى بيني وبين جماعة من الأصدقاء الأدباء أو المتأدبين، وكان ذلك منذ أمد طويل، إذ أذكر أن أحدنا قد طرح سؤالًا كهذا، فكان من أبرز ما ورد في المحاورة جوابًا عن هذا السؤال رأيان، أحدهما رأي رفض به صاحبه مشروعية السؤال من الأساس، إذ قال إنه لا ينطبق على الأدب المعاصر على الأقل، فأديب مسرحي مثل يوجين أونيل يختار لمسرحياته أشخاصًا عاديين يعيشون في ظروف عادية؛ وذلك لأن معنى المأساة قد تغير في عصرنا عما كان عليه في العصور الماضية، فلم تعد هناك ضرورة، كالتي كانت في عصر شيكسبير مثلًا، لأن يكون البطل ذا مكانة عالية من المجتمع، وذلك نتيجة للديمقراطية الجديدة التي سوت بين الناس من حيث الكيان الاجتماعي، حتى وإن اختلفوا في الثروة والمنصب.
وأما الرأي الثاني فقد هاجم به صاحبه كل هذه «التقاليع» الجديدة في المسرح المعاصر، قائلًا: إننا لم نعد نكتب المأساة على نحو ما كتبها شيكسبير، عجزًا منا عن إدراك ذلك المستوى، لا لأن الظروف الاجتماعية قد تغيرت، إن المأساة لا يتم لها معناها إلا إذا كان البطل ذا رفعة ثم هوى؛ وذلك لأن في الفطرة الإنسانية نزوعًا نحو الرفعة، ومن هنا ترانا نعجب بالسمو، ونأسى له حين يهوي، إنني إذا قرأت عن مأساة رجل مثلي، فكل ما يحدث هو أن أعطف عليه وأشاركه الشعور بالأسى، لكن الوجدان الأساسي في المأساة الأدبية هو ما يحدث لنا عند سقطة الرفيع، وليس هو مجرد المشاركة مع المنكوب في حزنه.
خذ مثلًا مسرحية هنري الرابع لشيكسبير ففيها صورة لرجل عادي هو فولستاف وصورة للملك هنري الرابع، فهل كان يمكن للشاعر أن يجعل فولستاف بطلًا لمسرحيته دون هنري الرابع؟ إن ذلك مستحيل عليه؛ لأنه لو فعله كان بذلك هادمًا لفكرة المأساة من أساسها، فمصير فولستاف — مهما ساء — لا يشبع فينا ما يشبعه مصير هنري الرابع، كأنما المتفرج يقول لنفسه، فولستاف هو مثلي، فليس مصيره مما يهمني، أما هنري الرابع ففي عالم أعلى، وأود أن أتعقبه في صعوده وفي هبوطه.
ولعل مثل هذا الرأي الثاني هو الذي ساد، بل لعله هو الذي ما يزال سائدًا إلى حدٍّ بعيد بالنسبة إلى الإنسان «العادي»، إننا قد لا نقولها صراحة، لكنها واضحة من سلوكنا، فكأننا في جملتنا نقول إن مثل هذا الإنسان العادي لا يصلح أن يكون بطلًا في الأدب، ولا يصلح كذلك أن يكون مدار أخبار في الصحف وغيرها من وسائل الإعلام، بل إنه لا يصلح أن يكون مادة للتاريخ، فحتى الذين يؤمنون بأن التاريخ قوامه حركات الجماهير، لا القادة الأبطال الأفذاذ، حتى هؤلاء إذا هم كتبوا التاريخ بالفعل، فلن تجد على صفحاتهم أمثالي وأمثالك من سواد الناس.
أين يجد الإنسان العادي صورته في وسائل الأخبار أو على صفحات الأدب؟ آه! كأنني أرى هنا شبح فرويد أو أحد دارسيه، كأني أرى هذا الشبح ينتفض أمامي قائلًا: لقد يبدو لك الشخص المرسوم في الأدب أو في صحف الأخبار إنسانًا شاذًّا، لكنه هو الإنسان العادي الذي تبحث عنه، بعد أن ظهرت بواطنه.
فالذي ظننته بادئ الأمر إنسانًا عاديًّا: بائع الصحف وبائع الخبز وبائع اللبن وموزع البريد، إنما هو إنسان يجري في فلكه مطردًا يومًا بعد يوم، لكنه يخفي في صدره ما يخفيه من أشكال الصراع، فإذا رأيت أديبنا توفيق الحكيم — في الأغلب — لا يكتب عنك وعني، وإنما يكتب عن أهل الكهف وأوديب وشهريار والسلطان الحائر، بل وعن الحمار والصرصار، وإذا رأيت أديبنا نجيب محفوظ يكتب عن زقاق المدق، ويروي حكايات عن حارته، مما تحسب أن ظاهر الناس العاديين الذين تراهم في عرض الطريق يختلف عن الصور التي يقدمها إليك، وإذا رأيت إحسان عبد القدوس يكتب عن فتيات مراهقات من صنف يختلف عن ابنتك وابنتي، فاعلم أن كل هؤلاء إنما يقدمون لك الإنسان العادي الذي تريده، لكنهم يقدمونه مقلوبًا باطنًا لظاهر حتى تراه على حقيقته.
وبمناسبة هذا التباين بين ظاهر وباطن أذكر أن أستاذًا للفلسفة أمريكيًّا، جاء من بلاده في إجازة دراسية ليدرس القيم الجمالية في رسوم المعابد الفرعونية «هو أستاذ في علم الجمال بمعناه الفلسفي»، ولقد زارني، فلما وجد مسكني قريبًا من حديقة الحيوان، طلب مني أن أصحبه في جولة هناك، وبعد الجولة التي أرادها، جلسنا في جزيرة الشاي، حيث يسبح البط هادئًا في البحيرة الساكنة! وقد كنت ساعتها مكدودًا، فقلت: ما أسعد هذا البط في هدوئه، لا تزعجه شواغل الحياة، بل لا يعكر صفوه تنازع على القوت؛ لأن الطعام أمامه يكفيه، ولكني لم أكد أختم عبارتي، حتى دارت معركة بين البط لم أدر سببها، فأخذ يلاحق بعضها بعضًا ضاربًا بأجنحته ضربًا عنيفًا، صارخًا زاعقًا، فضحك صديقي الفيلسوف، وقال: انظر، لقد جاءك الجواب مسرعًا فهدوء الهادئ يخفي وراءه ما يخفيه.
نعم هذا كله صحيح، ولأنه صحيح نريد للإنسان العادي أن يظفر بمكان يتناسب مع حجمه، في الصحافة وفي الأدب وفي الإذاعة مرئية ومسموعة، والحق أننا كثيرًا ما نفعل، لكنني أحس بأننا نتلف ما نفعله، حين نحاول أن نجعل الرجل العادي الذي نصوره في الحقل أو في المصنع، يتكلم ويتصرف كأنه بطل، مع أنه «عادي» وأهميته كامنة في أنه من جمهور الناس.
الأكثرية الغالبة من الناس عاديون بكل ما تحمله هذه الكلمة من ظاهر وخبئ، لكنها أكثرية ما تزال في وسائل التسجيل باهتة الصورة خافتة الصوت.