حديث عن الثقافة والإعلام
إني لا أحمل أحدًا على أن يأخذ بحرف مما أقول، لكنني أقوله لأنني أراه، وأول الرؤية عندي فيما أنا بصدد الحديث فيه الآن، هو أن بين الإعلام والثقافة من الفرق النوعي البعيد ما يعرضنا للخطر إذا نحن جمعناهما في ساحة مشتركة، ووضعناهما تحت عنوان واحد، مما قد يوحي بأنهما شقيقان ينتسبان إلى والد واحد، مع أن العلاقة بينهما هي — على أحسن الفروض — لا تزيد عن العلاقة بين أبناء الخالات، لكل ابن منهم والده المستقل، ولذلك فكل منهم ينتمي إلى أسرة ليست هي أسرة ابن خالته، ولكي أوجز الفرق بين الإعلام والثقافة في بداية حديثي، أقول إن الإعلام يصور لنا الحياة كما يراد لها أن تعاش، وأما الثقافة فتصور الحياة كما هي معاشة بالفعل، ولكنها تصورها بعد عجنها وخبزها في أفران الأدب والفن وما يلحق بالأدب والفن من ضروب الصياغة.
والناس عادةً لا يختلفون على معنى «الإعلام»؛ لأن معناه واضح من منطوق اسمه فهو توصيل معلومات إلى الآخرين، رغبةً في أن تتكون لديهم وجهة نظر نريد لها أن تتكون، والبراعة هنا مقصورة على طريقة التوصيل: ماذا تكون وأين ومتى وكيف تكون؟ لكن خلاف الدنيا والآخرة ينشأ حين نتعرض لمعنى «الثقافة»، ولست أريد هنا أن أناقش هذا المعنى مناقشة نظرية مجردة؛ لأنني لو فعلت ذلك خسرت قضيتي منذ اللحظة الأولى؛ وذلك لأن كل من دب على وجه الأرض من أفراد البشر يزعم عندئذٍ أن له الحق في المشاركة بالرأي، فلا تدري ساعتها كيف تفرق لهم بين الخطأ والصواب، لكنني سأعرض قضيتي بطريقة الأمثلة الجزئية المحسوسة، التي لا تدع مجالًا فسيحًا للأخذ والرد بغير طائل.
إنه مهما اختلفت وجهات النظر في فهم «الثقافة» وما تعنيه، فهناك أرض مشتركة لا ينازع فيها أحدٌ أحدًا، ومن هذه الأرض المشتركة أبدأ الحديث: فليس ثمة من يعارض بأن بين صناع الثقافة كاتب القصة وكاتب المسرحية، فلنحصر حديثنا فيهما، ما داما موضع اتفاق بين الجميع، وإذن فسؤالنا بعد هذا التحديد يصبح هكذا: ماذا نريد من كاتب القصة أو كاتب المسرحية؟ أنريد لأيهما أن يعرض على القراء وقائع وقعت وأحداثًا حدثت كما تفعل الصحف؟ أنريد لأيهما أن يشرح للأمهات كيف يضبطن النسل، وكيف يطعمن الأطفال كما يفعل أصحاب التوعية الصحية؟ أنريد لأيهما أن يشرح للمزارعين متى يحسن للبذور أن تبذر وللأرض أن تروى؟ أنطلب من أيهما أن يكتب مقالًا في السياسة الخارجية أو في شئون الاقتصاد؟ إن أحدًا لا يجرؤ على القول بأن تلك وأمثالها هي مهمة الأديب، فهذه كلها وسيلتها «الإعلام».
وننتقل خطوة قصيرة إلى الأمام فنسأل: إذا كان من طبيعة رجل الإعلام أن يتلقى من رؤسائه المادة التي يراد منه التدبر في طريقة نشرها، فهل هي كذلك طبيعة الأديب أن يتلقى من الرؤساء قيمًا وأفكارًا ليتدبر طريقة صياغتها في قصة أو في مسرحية؟ ولعل هذا الموضع من سياق حديثنا أن يكون مناسبًا لتوضيح نقطة في موضوع الثقافة، وأعني بها التفرقة بين صناع الثقافة ومستهلكيها (إذا جازت هذه الكلمة في هذا المعنى)، فكاتب القصة وراسم اللوحة وواضع اللحن والموسيقى هم صناع ثقافة، وأما قارئ القصة والناظر إلى اللوحة والمستمع إلى اللحن الموسيقي معزوفًا، فهؤلاء مستهلكون للثقافة، أي إنهم منتفعون بما صنعه الأولون، وحديثنا هنا مقصود به الصناع المبدعون.
ونعيد سؤالنا مرةً أخرى وبعبارة أخرى: هل نريد لصناع الثقافة هؤلاء أن تهبط عليهم خامات المضمون الفكري ليتولوا صنعها، كما نعطي القطن لمصانع الغزل والنسيج لتتولى غزلها ونسجها تمهيدًا لبيعها قماشًا جاهزًا في الأسواق؟ أو أن الأصح هو أن تكون الخامة الفكرية نفسها وليدة ملاحظة الأديب لما يدور حوله، ووقع هذا الذي يلاحظه في نفسه، إنه إذا قيل: لا بد من توجيه عام، حتى في ميادين الخلق الأدبي والفني، سألنا بدورنا: من ذا يا ترى «وجه» توفيق الحكيم نحو مضمون «عودة الروح» و«أهل الكهف»؟ ومن الذي «وجه» نجيب محفوظ في «ميرامار» و«ثرثرة على النيل»؟ من ذا الذي زوَّد محمود حسن إسماعيل بمادة شعره، والذي طلب من صلاح عبد الصبور أن يكتب عن الحلاج؟!
لكنه سؤال مشروع أن نسأل: من الذي يمد رجال الإعلام بالخطوط الرئيسية التي يجب التزامها في عملهم، أما في مجال الثقافة وصانعيها فليس السؤال واردًا، وهنا نخطو بالقارئ خطوة قصيرة وأخيرة، فنقول إنه إذا كان الأدب والفن محتومًا عليهما بحكم طبيعتهما نفسها أن ينطويا على قيم، كالقيم الخلقية مثلًا، فهل يحق لوزير الثقافة أن يضع سياسة خاصة بالقيم الخلقية التي ينبغي لصناع الثقافة أن يلتزموها في إبداعهم الأدبي والفني؟ وحتى لو زعمنا أن الوزير والكاتب والفنان جميعًا على اتفاق تامٍّ في ذلك، بحكم اشتقاقنا لتلك القيم من تراثنا وأسلوب حياتنا، فهل يحق للوزير أن يضع خطة لطرائق التنفيذ، لكي يبين لهم أي تلك الطرائق يليق وأيها لا يليق؟
إنني لا أقول جديدًا إذا قلت أن الكاتب — بالمعنى الأدبي الخالص لهذه الكلمة — ليس من شأنه أن يقدم للناس أحكامًا عامة على سلوكهم، إنه لا يقول لهم: عليكم بهذا الفعل المعين؛ لأنه محمود، وإياكم وذلك الفعل؛ لأنه قبيح، لا، ليس هذا من شأنه، وإنما الذي من شأنه هو أن يحلل المجتمع وأخلاقياته تحليلًا أقرب إلى تحليل الكيموي لقطع من المادة في مخابيره، إنه يقتطع شريحة من المجتمع؛ ليعرضها على الناس في سلوكها الحقيقي على أرض الواقع، فإذا كانت عينة مريضة، فليس من شأنه أن يقدم «روشتة» العلاج، ولكن مهمته الأولى والأخيرة تشريح وتشخيص لما هو كائن بالفعل، فالأحداث في عرض الأديب لها وسبكه إياها، هي التي تنبئ عن نفسها، دون أن ترد في السياق نفسه عبارة إرشادية واحدة، وحسبنا نحن القراء أو المشاهدين أن نخرج بانطباع الساخط الثائر، إذا كان المعروض أمامنا حقيقًا منا بالسخط والثورة.
لا، ليس في وسعنا أن نحدد للأديب الخلاق طريقة تحليله وعرضه لما تناوله هو بالعرض والتحليل، ومن يدري؟ لعله أن يحقق فضيلة العفة التي نريدها عن طريق العري السافر للأجساد، إذا كان هذا العري مدعاة للتقزز والنفور، وكثيرًا ما يحدث، إنه لم يكن فجورًا من رجال الفن حين نحتوا ما نحتوه، أو رسموا ما رسموه من أجساد عارية، ولم يكن فجورًا من أديب مثل د. ﻫ. لورنس حين كتب ما كتبه من أدب مكشوف ليدعو به الناس إلى حياة طبيعية أرادها لهم من خلقهم بشرًا فيهم طبيعة البشر، كلا ولا هو من قبيل الفجور ما يعرض على مسارح أوروبا من صور الانحلال والعبث؛ لأن حياة هذا العصر التي تهتكت إذا لم تعرض على هذا النحو، فكيف تعرض؟ أنضع المرآة أمام القرد لنرى على صفحتها غادة حسناء؟
إنه إذا كان مرادنا رسالة في الأخلاق أو في السياسة، فلماذا نلف وندور في قصة أو مسرحية أو غيرهما من ألوان الفنون؟ لماذا لا نطلب من الباحثين أن يكتبوا لنا تلك الرسائل، معتمدين فيها على مراجع معينة نحددها لهم؟ لقد أراد برناردشو بمسرحياته أن تكون وسيلة للإصلاح الاجتماعي على نموذج الاشتراكية التي كان يؤمن بها، لكنه كان أديبًا يعرف أصول الفن الأدبي، فحرص حرص الفنان الموهوب على ألا ترد في سياق المسرحيات نفسها عبارة واحدة تتناول الموضوع المقصود تناولًا مباشرًا، لكنه في الوقت نفسه كان حريصًا على توضيح مذهبه، فعمد إلى كتابة مقدماته الطويلة المعروفة؛ ليقدم بها مسرحياته، شارحًا فيها رسالته الفكرية شرحًا صريحًا بلا حرج.
لقد كان برنارد شو ينظر إلى الأدب والفن نظرة شبيهة بنظرة أفلاطون إليهما من وجه، لكنها مختلفة عنها من وجه آخر، فكلاهما يجعل النفع الاجتماعي هو الأصل، وأما الجمال في الأدب والفن فهو وسيلة تؤدي إلى ذلك النفع المقصود، لكن الرجلين يختلفان بعد ذلك في أن أفلاطون قد استغنى في «جمهوريته» عن رجال الأدب والفن اتقاء لنزعاتهم الهدامة، اعتقادًا منه بأن النفع الاجتماعي المطلوب يمكن تحقيقه بوسائل أخرى غير وسيلة الأدب والفن، وأما برنارد شو فقد رأى غير ذلك، إذ رأى ضرورة أن يظل الأديب والفنان — وهو نفسه واحد منهما — داخل البناء الاجتماعي ليصلحاه، وكيف يصلحانه؟ يصلحانه بفضح حقيقته كما هي.
إنني أذكر يومًا من أيام شبابي الباكر، حين اصطحبنا أستاذ الرسم إلى أحد المعارض الفنية، وكنت واحدًا من جماعة قليلة العدد أظهرت ميلًا نحو الفن، فأراد أستاذنا أن يكافئنا بهذه الزيارة إلى متحف الفن المذكور، وهناك وقفنا أمام لوحة لامرأة لطخت وجهها بالأصباغ في غير ذوق، ولونت شعرها بالأصفر الفاقع، الذي يتنافر تنافرًا واضحًا مع سواد الكحل في عينها، وعلق الأستاذ على اللوحة قائلًا: ربما كان هذا هو الجمال عند الفنان، فاعترضته بقولي: لا أظن ذلك، بل لعله أراد للمشاهد أن يتقزز فينفر من البغايا؛ لأن هذه هي طريقتهن في التجمل.
ويذكر لنا فيلسوف الفن «كولنجوود» في ترجمة حياته الذاتية، كيف أنه كان وهو طالب يمر خلال إحدى الحدائق في لندن، ذهابًا إلى معهده، وإيابًا إلى منزله، فيرى هناك تمثالًا منصوبًا على قائمة متوسطة الارتفاع لرجل غاية في دمامة الوجه وقبح التكوين، ولم يكن كولنجوود الشاب يمر يومًا بذلك التمثال إلا ويحار في أمره: لماذا نحت المثال هذا التمثال في مثل تلك الدمامة كلها؟ وأخيرًا طافت برأسه فكرة هي: من أدراك ماذا أراد الفنان بتمثاله ذاك؟ ألا يجوز أن يكون قد قصد به إلى تصوير القبح الناشئ عن اضطراب النسب الصحيحة للأشياء؟ ومن هنا وضع كولنجوود إحدى قواعده في عملية النقد الفني، وهي ألا نحكم على العمل إلا على ضوء الغاية التي أرادها صانعه، فيكون ذلك العمل قريبًا من الجودة أو بعيدًا عنها بمقدار ما استطاع أن يحقق لمبدعه ما أراد أن يقوله للناس.
المصلح الاجتماعي والفنان رجلان مختلفان في الوسائل، حتى وإن اتحدا في الغايات، فبينما المصلح الاجتماعي يهمه أن تتخذ الوسائل الفعالة المباشرة لمحو الجانب اللاأخلاقي من حياة المجتمع، لتصبح الصورة المرئية عن الإنسان ملائكية في نقائها، ترى الفنان ينتهج سبيلًا آخر، فهو يعطينا المناظير المكبرة لنرى الطبيعة البشرية بكل مقوماتها، فنرى فيها الطيب إلى جانب الخبيث، ونعلم أن ذلك هو الإنسان، ولنا بعد ذلك أن ننظر في دخائل نفوسنا لنتعهد الطيب بالنماء، ولنتعقب الخبيث بالكبت أو بالتسامي.
ونعود بعد هذا كله إلى التفرق الجادة بين الثقافة والإعلام، لنقول إن ما يجوز هنا لا يجوز هناك، فصاحب الإعلام هو كبائع سلعة يريد لها الرواج — وسلعته هي أفكار واعتقادات ووجهات نظر بعينها — وعليه أن يدعو إلى ترويجها بالإعلان، فالإعلام إعلان بكل ما يقتضيه فن الإعلان من وسائل يعرفها المختصون، وأما صناع الثقافة، فليس هذا شأنهم، إنهم أقرب إلى الرحالة في أرض مجهولة عليه أن يثبت في مذكراته كل المعالم التي تصادفه في الطريق، فإذا مر بمستنقع نتن ذكره ووصفه بكل ما وسعه من دقة وأمانة.
من حق وزير الإعلام أن يوجه الإعلام، على أن يكون مفهومًا أن ما اصطلحنا على تسميته بوسائل الإعلام، إنما هي أيضًا وسائل للثقافة، فوحدانية الوسيلة لا تمنع تعدد الغايات، فإذا كان من حق وزير الإعلام أن يوجه الجانب الإعلامي من تلك الوسائل، فليس من حقه أن يوجه الجانب الثقافي منها بنفس المعنى، إذ تكون مهمته عندئذٍ تهيئة الفرصة أمام صناع الثقافة ليعرضوا أمام الناس حقيقة حياتهم من ظاهر ومن باطن، فيكون هذا العرض الأمين هو أول الطريق إلى الإصلاح.