جماعة المثقفين
لست أذكر كم مرة تحدثت في الاجتماعات العامة عن الثقافة والمثقفين، ولست أذكر كذلك كم معنًى طرحته في تلك الأحاديث — أو فيما كتبته — لأحدد به ما يراد بالثقافة أو بالمثقفين، ذلك أني كنت — وما زلت — كلما تناولت الموضوع بالحديث أو بالكتابة، رأيت له جانبًا يناسب السياق أكثر من سواه، فأختاره للمناسبة الراهنة، حتى لقد انتهيت آخر الأمر إلى رأي أعتقد الآن في صوابه، وهو أن الثقافة هي من تلك المعاني التي يكون المعنى الواحد منها كالقصر المسحور، فيه غرف لا حصر لعددها، لا تمتاز منها غرفة على غرفة، وكل ما عليك أن تفعله هو أن تتخير الغرفة التي تناسب الساعة المعينة من ساعات النهار أو الليل.
مرة وجدت أن أنسب تعريف للمثقف (أقصد أنه كان أنسب تعريف بالنسبة للسياق الذي كنت يومئذٍ أتحدث فيه) هو أن المثقف شخص يحمل في ذهنه أفكارًا، من إبداعه هو أو من إبداع سواه، ويعتقد أن تلك الأفكار جديرة بأن تجد طريقها إلى التطبيق في حياة الناس، فيكرس جهده لتحقيق هذا الأمل، كأن يتصور — مثلًا — نظامًا اشتراكيًّا محدد التفصيلات، فيجاهد في إخراجه من عالم الفكر المحض إلى عالم التنفيذ، وأما أن يحمل الإنسان أفكارًا لم يقف منها موقف الحافظ لها، لا يخطو بها خطوة إلى دنيا الوجود المحسوس، فمثله مثل الذين تقول عنهم الآية الكريمة بأنهم حُمِّلوا التوراة ثم لم يحملوها.
ومرة أخرى وجدت سياق الحديث يقتضي تعريف المثقف تعريفًا آخر، فجعلته هو الشخص الذي يروج للقيم العليا — أخلاقية أو جمالية — وفي هذا يكون الفرق بين من تخصص في فرع من العلوم، ووقف عند تخصصه، وبين المثقف؛ لأن مجرد التحصيل العلمي لا يدل بذاته على أي الأشياء وأي المواقف يكون أفضل لحياة الإنسان، أما المثقف فهو الذي لا ينشر الفكر لمجرد أنه فكر وكفى، بل ينشره لأنه في نظره هو الفكر الذي ينتج حياة أفضل أو أجمل، إن العالم الأكاديمي الذي يحيط علمًا بالنظريات السياسية أو الاقتصادية — مثلًا — ثم لا يدري أيها أنسب لجماعة معينة من الناس، تعيش في ظروف معينة، إنما يكون عالمًا، ولا يضمن له علمه ذاك أن يكون مثقفًا؛ لأنه لم يعرف به ترتيب الأوضاع إلى ما هو أعلى وما هو أدنى.
ومرة ثالثة وجدت أن التعريف الذي يناسب ما كنت بصدد الحديث فيه، هو أن المثقف يتميز بربطه بين الماضي والحاضر، فافرض أن طبيبًا درس كل ما يقوله علم الطب المعاصر عن الدورة الدموية، دون أن يدري حرفًا عن التطور التاريخي الذي انتهى إلى هذا العلم المعاصر الذي يعرفه، فهو عندئذٍ يكون عالمًا في موضوع تخصصه، لكنه ليس مثقفًا، فإذا ما وقف وقفة يقلب فيها صفحات الماضي ليعرف منها كيف صار الأمر إلى ما صار إليه، فعندئذٍ فقط يدخل دنيا الثقافة، بمقدار ما حاول أن يربط الماضي بالحاضر في تيار متصل، ولا غرابة بعد ذلك أن نقول إن الكليات الجامعية التي يسمونها كليات نظرية، هي أدخل في الثقافة من الكليات العلمية؛ لأن الدراسة في الأولى يغلب فيها دائمًا اللفتة إلى ما كان، ليضاف إلى ما هو كائن، ومِن ثَم فهي بحق دراسة «إنسانية» كما يطلق عليها أحيانًا، ومن هنا أيضًا ترتفع الدعوة في كل أرجاء العالم المتقدم، بضرورة أن تدخل الكليات العلمية إلى موادها شيئًا من الدراسة الإنسانية، لتكتمل فيها صورة الثقافة.
ومرة رابعة اقتضى سياق الحديث أن أقول عن جماعة المثقفين: إنهم هم الذين يختزلون حقيقة الإنسان وحقيقة الكون في صيغة محكمة مترابطة، وخير مثل على ذلك ما نراه فيما تصنعه الفلسفة ويصنعه الفن ويصنعه الأدب، فالفيلسوف يحاول أن يختصر الإنسان والكون في تصور عقلي يجمع أطرافهما المتشعبة، كأن يقول لك مثلًا إنهما في تطور جدلي ينموان به صعودًا إلى الكمال، أو إنهما متغيرات مادية تصبو نحو صورة نموذجية عقلية، وهكذا، والفنان كذلك — شاعرًا أو موسيقيًّا أو مصورًا أو نحاتًا — يختزل في القطعة التي ينتجها ملايين التفصيلات التي يشتمل عليها الواقع الحسي، ولذلك فهو بمثابة من يقدم لك حقيقة الإنسان، أو حقيقة الكون مختصرة منظمة منسقة، إن كاتب القصة أو كاتب المسرحية، وهو يصور لك إحدى شخصياته، فهو لا يعب بيديه حفنة من أحداث الحياة في حياة الإنسان كيفما اتفق، بل يأخذ من الحياة الواقعة أجزاء يختارها ليركبها كما يهديه فنه في تركيبها، وكأن الحياة الواقعة عنده أشبه بالقاموس الذي يحتوي على المجموعة الكاملة من ألفاظ اللغة، ثم يأتي الكاتب أو المتكلم، فيختار من المجموعة ما يحتاج إليه من كلمات يرتبها في الجمل التي يكتبها أو يقولها، وهذا هو المعنى الذي قصدت إليه عندما عرفت المثقف المبدع بأنه هو الذي يختزل لنا حقيقة الإنسان وحقيقة الكون في صياغة مبتكرة من عنده.
ومرة خامسة اخترت تعريف المثقف بأنه يتميز عن عامة الناس بأنه هو الذي يدرك الفوارق الدقيقة الكائنة بين ظلال الفكرة الواحدة، فإذا قيل — مثلًا — «اشتراكية» كان المثقف أسرع من سواه في إدراك الفوارق بين الصور المختلفة التي تندرج كلها تحت هذا الاسم، وهكذا الأمر بالنسبة لكثير جدًّا من المعاني العامة التي تتمايز عند التطبيق.
وحسبي هذا القدر من التعريفات الكثيرة للثقافة وللمثقفين، وهي تعريفات لا تتعارض ولا تتناقض، بل ينضم بعضها إلى بعض في تغطية الرقعة الفسيحة المتعددة الجوانب والأركان.
ولقد ورد على ذهني هذا التشعب كله في حقيقة الثقافة والمثقف، حين حاولت معرفة الحدود المقصودة، عندما جعلنا «المثقفين» فئة من الفئات الخمس، التي منها يتألف التحالف بين قوى الشعب العاملة، وليس معنى ذلك بالطبع أني كنت أتطلب من الواضعين لبنائنا السياسي أن يعتصروا الكلمات توضيحًا لمعانيها على هذا النحو، ولكني مع ذلك أتطلب حدًّا أدنى من المعالم التي توضح لنا المقصود بفئة المثقفين في التحالف.
فمن هم المثقفون؟ ما هي الصفة أو الصفات المميزة لهذه الفئة، التي وضعناها في اعتبارنا عندما قسمنا القوى العاملة المتحالفة إلى خمس، وكان المثقفون إحداها؟ أنقول إن التحديد المطلوب يأتي عن طريق استبعاد الفئات الأخرى، بمعنى أن يكون المثقفون هم من ليسوا بفلاحين ولا عمال ولا جنود ولا من أصحاب الرأسمالية الوطنية؟ إننا لو فعلنا ذلك، وطرحنا من القوى العاملة أربع فئات، ثم قلنا إن فئة المثقفين هي «ما ليس كذلك» لم نضمن ألا يكون لدينا في باقي الطرح عدة أنواع مختلفة لا تجانس بينها.
أم هل نحدد فئة المثقفين بدرجة معينة من «التعليم»؟ لكن ذلك لا ينتهي بنا إلى تحديد واضح؛ لأن أية درجة من التعليم نقررها في تحديد المثقفين، سنجدها متحققة في الفئات الأخرى، وخصوصًا في فئة الجنود، وفئة الرأسمالية الوطنية.
أنقول — إذن — إن المثقفين هم المهنيون، كالأطباء والمهندسين والمدرسين … إلخ؟ لكننا سنجد أن الشطر الأعظم ممن ندرجهم في فئة المثقفين هم من غير المهنيين، كموظفي الأعمال الكتابية والإدارية في دواوين الحكومة وفي مكاتب الأعمال العامة والخاصة على اختلافها.
وعلى ذلك فما يزال السؤال قائمًا: من هم «المثقفون» الذين قصدنا إليهم عند تقسيم القوى العاملة؟ لقد كان من الطريف أن أقع ذات يوم على مناقشة دارت بين طائفة من الكتاب في الغرب حول «المثقفين» من هم؟ فكان بين هؤلاء الكتاب من وسع المعنى ليقول — وهو جاك بارزان — أنهم هم «حملة حقائب الأوراق» مشيرًا بذلك إلى جماعات الموظفين ورجال الأعمال ورجال الصحافة إلخ، وبالطبع كان بينهم كذلك من ضيق حدود المعنى لينحصر في رجال الفكر والفن على مستوى الإبداع.
وليس من قبيل المماحكة في الجدل، أن أسأل هنا عن وضع المرأة في تقسيمنا نحن: أين يكون؟ إنه إذا كانت المرأة العاملة في المهن أو في الدواوين معدودة من فئة المثقفين، فأين نضع المرأة التي هي ربة بيت؛ ظفرت بدرجة من التعليم أو لم تظفر؟ إنها ليست من الفلاحين، ولا من العمال، ولا من الجنود، ولا من أصحاب الرأسمالية الوطنية، فهل يا ترى نضيفها «بالجملة» إلى جماعة المثقفين، حتى ولو لم يكن لها حظ من التعليم؟
الفئات الأربع الأخرى تحددها طبيعة «عملها»، وأما فئة المثقفين، فتحديدها — فيما يبدو — يكون بطريقة «تفكيرها»، ومن هنا نشأت الصعوبة؛ لأن الجماعة التي توحدها طريقة تفكيرها، قد تشتمل على ما ليس له حصر من ضروب العمل، مما قد يمنع المشاركة في المصالح، ولذلك كان من الممكن — نظريًّا على الأقل — أن تتكون نقابات أو جمعيات للفئات الأخرى، وأما جماعة المثقفين بمعناها المبهم العائم الذي نراه، فمن غير المتصور أن تتألف لهم نقابة شاملة أو جمعية تضمهم جميعًا، ولذلك تكونت نقابات أو جمعيات للفروع المتجانسة كالأطباء، والمهندسين، والمعلمين، ورجال الصحافة … إلخ، ثم بقيت الأغلبية العظمى من المثقفين غير المهنيين، لا يعرفون لأنفسهم رباطًا يربط بينهم، ولا رباطًا يربط بينهم وبين تلك النقابات الفرعية لجماعات المثقفين الأخرى.
وما دامت فلسفة التحالف هي التي تقرر أن تظل قائمة — ولو إلى حين — فما الذي يمنع من مراجعة الحدود التي تحدد كل قوة من القوى الخمس بخصائصها المميزة؟! لقد حدث أن راجعنا بالفعل تعريف الفلاح وتعريف العامل، فما الذي يمنع من محاولة التعريف بالنسبة لفئة المثقفين؛ لأنها وحدها — فيما أرى — هي التي يكتنف مفهومها كثير من اللبس والغموض.