علمية الدراسة الأدبية
لو كان هذا الخلط مقصورًا على عامة الناس، لالتمسنا الأعذار، ولكنه خلط رأيناه عند خاصة الخاصة من «العلماء»! فما أكثر ما نسمع أو نقرأ لواحدٍ من هؤلاء العلماء قوله: لقد كنت في صباي مولعًا بكتابة القصة أو قرض الشعر، وأردت الالتحاق في المرحلة الجامعية بكلية الآداب، لولا أن والدي قد أرادني على دراسة الطب أو الهندسة أو غيرهما من فروع العلم، نسمع ذلك من خاصة الخاصة كأنهم نظروا حولهم، فوجدوا كلية الآداب — أو إن شئت فقل الكليات الأدبية عامة — تخرج للناس زمرًا من القصصيين والشعراء، وكأن مثل هذا الإبداع الأدبي ليس موهبة إلهية يوهبها الله من شاء من عباده، بغض النظر عن طريق التعليم كيف سار بصاحبه! نعم يقولون ذلك، كأنهم نظروا حولهم فلم يروا كلية الآداب تخرج لهم دارس الجغرافيا الذي لا تكاد تعرف أين يقع الخط الفاصل بينه وبين دارس الطبيعة أو الجيولوجيا أو الاقتصاد، أو هم لم يروها تخرج لهم دارس التاريخ ودارس الآثار اللذين يعملان مع وثائق وحفائر هي أبعد ما تكون عن كتابة القصة وقرض الشعر، أو تخرج لهم دارس الفلسفة الذي تدربه دراسته على التحليل العقلي، وإقامة البرهان على ما يراد له قبوله من مذاهب وأفكار، تدريبًا كثيرًا ما تضيق له صدور المتخصصين في العلوم الطبيعية، إذ يرون أنفسهم أكثر منه تساهلًا في منطق العقل، لا بل إن أقسام اللغات التي قد توهم الغرباء بأنها قد أقيمت لتخرج لهم الأدباء، إنما هي أقسام تدرس اللغات في نحوها وصرفها واشتقاقها وتاريخها، درسًا قد تبلغ به خشونة الجفاف العلمي حدًّا لم يألفه سائر الدارسين، وهي إن درست الأدب — ولا بد لها أن تفعل — فهي تدرس النتاج الأدبي كما يدرس الكيماوي عناصره، والجيولوجي طبقات أرضه، ولم أقل شيئًا عن علوم «أدبية» كعلم النفس وعلم الاجتماع، التي ألحظ ما يشعر به أصحابها من ضيق؛ لأنهم يجدون أنفسهم في منزلة وسطى بين المنزلتين، فتراهم أحيانًا يتشنجون من غضب — ولهم كل الحق — إذا نُسبت دراساتهم إلى «الآداب»؛ لأنها ليست من الأدب في قليل أو كثير، ولكنهم إذا أرادوا أن يطرقوا أبواب «العلوم» المعترف بعلميتها، وجدوا تلك الأبواب موصدة في وجوههم.
أساس العلة خلط في التقسيم، وهو خلط قد ترى منه صورًا مختلفة في البلاد المختلفة، لكنه — فيما نعرف — لا يتخذ في أي مكانٍ آخر مثل هذه الصورة الجادة التي يتخذها عندنا، وهو يقينًا لا يخلق عند الناس في سائر البلدان ما يخلقه عندنا من الوهم بأن دارس الآداب «أديب»، وأعجب العجب هنا، هو أن من الأدباء والشعراء عندنا، عددًا يلفت النظر من أصحاب الدراسة العلمية، فهذا طبيب يكتب القصة، وذلك مهندس يقول الشعر، وكانت هذه الظاهرة وحدها كافية لتصحح الخطأ، ولكنها لم تفعل! حتى لقد حدث لي ذات يوم أن التقيت برجل ذي صوتٍ مسموع في تدبير حياتنا، فما هو إلا أن دار بيني وبينه حديث عن الأدب والأدباء، فسألني هذا السؤال العجيب: من أين يتخرج أديب كتوفيق الحكيم؟ هل يتخرج من جامعة الأزهر، أو من كليات الآداب في الجامعات الأخرى؟ وإذا دهش القارئ — كما دهشت — لسؤال كهذا يلقيه رجل كذاك، فليكن على يقين بأنني صدقت له الرواية، وله بعد ذلك أن يدهش ما أراد.
إلى هذا الحد البعيد بلغ الخلط في أذهاننا، فكيف أطمع في أن أقنع الناس بأن «العلم» طريقة في البحث، سواء كان موضوع البحث من الكيمياء أو من التاريخ؟
«العلم» منهاج في النظر، فإما اتبعناه في الدراسة — كائنًا ما كان موضوعها — لتكون دراسة علمية، وإما تنكَّرنا له، فلا تكون الدراسة عندئذٍ جديرة باسمها، ولئن تعذر على عامة الناس أن يدركوا الأساس المشترك — من حيث طريقة البحث — بين دارسي الآداب ودارسي العلوم، فلا يجوز أن يتعذر ذلك على خاصة الناس، والتفرقة هنا بين عامة وخاصة، لا تعني أكثر من التفاوت في درجة التعليم.
لكن ماذا أقول وبعض القائمين على فروع من الدراسة «الأدبية» أنفسهم قد تفوتهم الفوارق بين أن يكون الطالب «دارسًا» لمادة علمية معينة، وأن يكون ممارسًا لها بوجدانه في حياته الخاصة، قد تفوتهم الفوارق بين أن تدرس الأدب وأن تكون أديبًا، بين أن تدرس الفلسفة، وأن تكون فيلسوفًا، بين أن تدرس الدين، وأن تكون معتنقًا له، بين أن تدرس التصوف، وأن تكون متصوفًا، وهكذا، فقد رأيت من أمثال هؤلاء نفرًا اختلط عليه الأمر في دراسته، فأدخل الخلط في رءوس طلابه مما زاد الناس ضبابًا في الرؤية على ضباب.
وكانت نتيجة خلط كهذا، أن ساد الظن بأن «العلم» مطلوب عندما يكون الموضوع جانبًا من الطبيعة الحية أو الجامدة، أما إذا كانت المشكلة العارضة ماسة بحياة الإنسان، من حيث هو إنسان، كأن تكون مشكلة خاصة بالشباب أو بالمرأة، أو بالنسل، فعندئذٍ يكون الركون إلى شيءٍ آخر غير العلم وطرائقه، لماذا؟ لأنهم يظنون أن الإنسان ومشكلاته من طبيعة خاصة، تداخلها المشاعر والدوافع والقيم، وما إلى ذلك من أمورٍ قد تستعصي على مخابير المعامل وأرقام الإحصاء، فنتج عن هذا الظن الخاطئ أن اتسعت الهوة بين درجة التقدم في العلوم الطبيعية، ودرجة التقدم في معالجة المشكلات البشرية، حتى لقد قيل — وهو قول شائع — إن مدَنية هذا العصر مدنية عرجاء، تسير على قدمٍ واحدة، فبينما بلغنا الأوج في المعرفة العلمية بالطبيعة، نزلنا إلى الحضيض في العلاقات الإنسانية بكل ضروبها.
وإزاء هذا الفارق البعيد بين أوج هناك وحضيض هنا، ترى الناس ما ينفكون يسألون: ماذا نصنع للارتفاع بالأخلاق، التي هي مدار العلاقات الإنسانية؟ وهنا تتعدد الإجابات تعددًا يشير لنا في صراخ إلى إحدى النتائج الخطيرة التي تولَّدت لنا من الخلط في مجال العلوم الإنسانية بين موقفين: موقف الدارس العلمي من جهة، وموقف الممارس للحياة ومشكلاتها من جهةٍ أخرى، فلقد تسمع قائلًا يقول: إنه لا خلاص للإنسان من أزمته الراهنة إلا بالعودة إلى قوة الإيمان الديني، وقائلًا آخر يقول: بل إن السبيل الأنجح هو سبيل الفن والأدب. وهكذا كأن هنالك تناقضًا بين القولين!
فإذا سألتني: وبماذا تجيب أنت عن هذا السؤال؟ كيف نعالج مشكلات الإنسان في طرائق معاملاته، وقد أصابها ما أصابها من عطب وسقوط؟ أجبتك بأن هذه المشكلات — كغيرها — إنما تُحَل بطرائق العلم التي تعرفها العلوم الطبيعية، إذ ليس للعلم سواها، وهي مهمة يجب أن تقع بأكملها على عاتق القائمين بالدراسات التي توصف بأنها «أدبية»، فإذا كانت كليات الطب والهندسة والزراعة والعلوم تضطلع بجوانب العلم الطبيعي، فكليات الآداب والتجارة والحقوق والاقتصاد والعلوم السياسية، تضطلع بجوانب العلم الخاص بعلاقات الناس بعضهم مع بعض، على أن يكون مفهومًا بأن منهج البحث في كلتا الحالتين واحد، وإن بدا للعين العابرة أنه ليس كذلك.
بهذا نوسِّع رقعة الفكر العلمي، بقدر ما نضيِّق مساحة «الرأي»، ولسنا بحاجةٍ إلى التوكيد بأن هذا التوسيع لرقعة الفكر العلمي، والتضييق لمساحة «الرأي» لا يمس أقل مساس بالجوانب الوجدانية من حياة الإنسان، فله أن يشتد في إيمانه وأن يقوى بوجدانه، وإلا ضاع منه الجوهر الأصيل الذي يجعل منه إنسانًا، لكن ذلك أمر يختلف عن معالجة المشكلات الاجتماعية التي تكتنف حياة الناس، والتي يراد لها أن تزول، فنحن ما زلنا — ولعل ذلك يشيع في العالم كله بدرجات تقل أو تزيد — ما زلنا نفكر في أمثال هذه المشكلات بطرائق السحرة في غابر العصور، فماذا كان يصنع الساحر ليحل للإنسان مشكلاته؟ كان يلفظ له بكلمات، أو يكتب له كلمات، حاسبًا أن مجرد النطق بتلك الكلمات أو كتابتها، كافٍ لمجلبة الخير ودرء الخطر، وهكذا نفعل اليوم.
إننا — مثلًا — نقول إن الشباب منحرف (وإن كنت لا أدري في وضوح عن أي شيءٍ قد انحرف؟) فما العلاج؟ العلاج عندنا مزيد من خطب تقال، ودروس تلقى، ومقالات تكتب، وإذاعات تذاع، وكتب تنشر، وهي كلها «كلام في كلام في كلام» — كما يقول هاملت — وإلا فهل نقاوم جراثيم المرض، أو نقص الموارد الغذائية، أو الفقر في خصوبة الأرض بأمثال هذه الوسائل الكلامية؟ أو ترانا نتناول هذه الظواهر بمنهج آخر؟
نعم، إن الإنسان مختلف بمشكلاته عن هذه الظواهر وأمثالها، وقد يقال إنه لهذا الاختلاف يعالج بطريقةٍ أخرى، لكنني أخشى أن يكون في هذا القول خلط آخر، هو الخلط بين ما هو «هدف» وما هو وسيلة تؤدي إلى هذا الهدف، فتحديد الأهداف هو الذي لا دخل للعلم فيه، وإنما يحدد الإنسان لنفسه أهدافه معتمدًا على جوانب أخرى من ثقافته وتقاليده وعقائده وقيمه، فإذا ما فرغ من تحديد تلك الأهداف لم يكن أمامه إلا العلم بطرائقه في البحث، ليهتدي به إلى أنسب الطرق المؤدية إليها، فلقد تجد — مثلًا — جماعة من الناس، هدفها أن تزيد من النسل، وجماعة أخرى هدفها أن تحد من النسل إلى هنا والعلم يقف ينتظر، حتى يتقرر الهدف المطلوب لكل جماعة، فيتقدم باقتراح الوسائل النافعة في سبيل الوصول إلى ذلك الهدف.
إنه على غرار ما يقال من أن أخطار الحرية تعالَج بمزيدٍ من الحرية، أقول إن الأخطار التي نشأت عن تقدم العلوم الطبيعية وتقنياتها في عصرنا، تعالَج بمزيدٍ من استخدام الطريقة العلمية في مجال الدراسة «الأدبية»!