المستقبل المحسوب
حدث إبان العشرينيات من هذا القرن، أن اضطلع ناشر — في إنجلترا — بمشروع طموح ونافع، وهو أن طلب من مائة عالم وباحث وأديب، أن يتعاونوا على إخراج عدة كتب — كلٌّ في فرع تخصصه — تُصوِّر ما سوف تكون عليه حياة الناس بصفةٍ عامة، وفي إنجلترا بصفةٍ خاصة، بعد خمسين عامًا من ذلك التاريخ، وكان في ظنه أن تقديم هذه الصورة المستقبلية تتيح لكل من يهمه أمر أن يتدبره قبل وقوعه، وكان المفروض — بالطبع — أن يُدخِل هؤلاء المؤلفون في حسابهم ما عساه أن ينشأ خلال تلك الفترة من عوامل تؤثر في تشكيل الصورة المراد تصويرها.
وصدرت بالفعل تلك المجموعة من الكتب في حينها، وها هي الخمسون عامًا قد مضت، فنحن الآن في السبعينيات، فإلى أي حدٍّ يا ترى جاءت حقيقة الواقع مصداقًا لما رسمه رجال العلم والأدب والفكر بصفةٍ عامة؟ لقد كتب كاتب منهم منذ عام تقريبًا، تحليلًا لما احتوت عليه تلك المؤلفات المستقبلية، ليقارن صدق البحوث النظرية على الواقع الفعلي، فوجد أنه برغم ما وقع في تقديرات المؤلفين من أخطاء، فإنهم قد بلغوا من دقة الحساب حدًّا يلفت النظر، كان منهم مَن توقع وصول الإنسان إلى القمر، وحدد لذلك تاريخًا كاد أن يكون هو التاريخ الذي حدث فيه هذا الوصول، وكان منهم مَن توقع انهيار الاقتصاد البريطاني وانحلال الإمبراطورية البريطانية، وحدد لهذا كله تواريخ توشك أن تطابق ما حدث بالفعل، وكانت هنالك البحوث الخاصة بتطورات علوم الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا، وإننا لنذكر في سياق الحديث نبوءة أثبتها عندئذٍ باحث في علم السياسة، إذ تنبأ بقيام دولة إسرائيل، ثم تنبأ هو نفسه بسرعة انحلالها، معللًا هذا الانحلال السريع بأن عقدة الاضطهاد التي توقع عندئذٍ أن تكون سببًا في الإسراع بنشأة الدولة الإسرائيلية، سوف تزول وبالتالي تزول نتائجها معها.
وإنه ليقال إن أولدس هكسلي، حين رسم صورة المستقبل فيما بعد ١٩٨٠م، في روايته «عالم جريء طريف» (ترجمها إلى العربية محمود محمود) كان قد استوحى تلك المؤلفات، واستقطب منها وجهة النظر التي رأى منها مصير الإنسان، في ظروف الحياة الجديدة المتوقعة، كيف يُنتظَر له أن يكون.
كل ذلك ولم تكن «المستقبلية» — أو علم حساب المستقبل — قد أصبحت علمًا ذا ضبط ودقة، يشبهان ما نعهده من ذلك في سائر العلوم، فمن المعطيات القائمة في أي جانبٍ من جوانب الحياة، يمكننا بالاستدلال العلمي الصحيح أن نتنبأ بما عساه يحدث في مستقبلٍ قريبٍ أو بعيد، إلا إذا تجاوز بعده الزمني حدود ما يستطيع الاستدلال الوصول إليه بدرجة كافية من الصواب.
لقد بات في وسعنا اليوم — إلى حدٍّ كبير — أن نكتب للمستقبل «تاريخًا» كما نكتب تاريخ الماضي، برغم أن الماضي قد تم حدوثه وعُرفت تفصيلاته، وأن المستقبل ما يزال غائبًا، فكما نعرف كم كان سكان مصر سنة ١٩٠٠م، يمكنا أن نحدد كم سيكونون سنة ٢٠٠٠م، وكما نعرف كيف كان التعليم وكم كانت نسبته، وكيف كانت الزراعة، وكم، وكانت الصناعة، وكانت جوانب الحياة الأخرى، يمكننا أن نحدد — بدرجةٍ كبيرةٍ من الدقة — كيف يُنتظَر لهذه وهذه وتلك أن تكون، ولولا ذلك لما جاز لنا أن نتحدث عن «التخطيط» لسنة قادمة، أو لخمس سنوات، أو لعشر، أو كيفما تكون الخطة ومداها.
وكلما ازدادت القدرة على حساب المستقبل ورؤيته قبل وقوعه، على أسس علمية صحيحة في رصد الوقائع، وفي استدلال النتائج، نقصت الأوهام والمخاوف، فقد سألني سائل في سياق حديث بيننا: أمتشائم أنت أم متفائل بالنسبة إلى المستقبل؟ فسألته بدوري: في أي جانبٍ من جوانب الحياة تريد؟ قال: أردت المستقبل بصفةٍ عامة، فقلت له: إن التعميم هنا يُفقِد القول معناه؛ لأن التشاؤم والتفاؤل إنما يكونان في المواقع التي لم نحسب لها حسابها.
والتشاؤم والتفاؤل كلاهما ينتجان عن جهل الإنسان بمجرى الأحداث في حاضرها أو في مستقبلها، ولو علم الإنسان بتلك الأحداث كيف تجري وماذا يتولد عنها، لما تفاءل ولا تشاءم، إذ كل ما يطلب منه عندئذٍ هو أن ينظر إلى الأمور الواقعة — أو التي سوف تقع — ليراها كما هي في حقيقتها، فيبني على علمه بهذا الواقع المرئي خطة سيره، وأما إذا كان في الأمر المعروض جانب نجهله كل الجهل أو بعض الجهل، فنحن مضطرون في هذه الحالة إلى أن نركن إلى مجرد الشعور بالخوف أو بالطمأنينة حسبما تكون الحال، لقد حفظت فيما حفظته أيام الصبا، عبارة قال لي معلمي يومئذٍ إنها حديث نبوي شريف، وقد يكون كذلك، وهي عبارة تقول إنه «لا طيرة في الإسلام ولا فأل»، والطيرة هي التشاؤم، فإذا كان الإسلام يدعو الناس ألا يركنوا في حياتهم إلى تشاؤم أو تفاؤل، فمعنى ذلك أنه يدعوهم إلى حساب المستقبل حسابًا علميًّا ليعرفوه قبل وقوعه.
المستقبل المدروس المحسوب، يصبح كالحاضر مرئيًّا للعين، فيخطو السائرون إليه وهم على علم بمواضع أقدامهم، إذ يتحول الأمر عندئذٍ إلى كتاب مفتوح، وما كذلك الحال بالنسبة إلى السائرين في متاهة المجهول.
ولقد كان المستقبل المجهول دائمًا مثيرًا للمخاوف، ولم تكن كذلك نظرة الإنسان إلى ماضيه؛ لأن الماضي قد وقعت حوادثه وتكشَّفت، فلا غرابة أن كان الماضي موضع أمن، فكثر الداعون إلى العودة إليه، بدل المغامرة في عالم مجهول العواقب، ولكم اشتدت رغبة الإنسان في أن يكشف الغطاء عن مستقبله، ولم يكن بين يديه علم يركن إليه، فلجأ إلى حاسب النجوم، وقارئ الكف، وضارب الرمل، وفاتح الودع … إلى آخر أعضاء هذه الأسرة غير الكريمة ممن زعموا العلم بما هو مُغيَّب مجهول.
في مثل هذه الحالات التي يمتزج فيها علم بجهل، وظاهر بخبيء، تلحظ صنفين من الناس، صنف يفر من المستقبل المخوف، ليلوذ بالماضي وقواعده وأوضاعه؛ لأنه مجرب معروف، وصنف آخر يغامر نحو الجديد؛ لأن هذا الجديد، وإن يكن مجهولًا، إلا أنه — لكونه مجهولًا — باعث على الأمل، وإن هذا الفريق الثاني، الساعي نحو مستقبل جديد، ليرفض حجة أنصار القديم المجرب المأمون، قائلًا ما ملخصه إن الماضي إذ تكشفت حقيقته، فإنما تكشفت عن ظلم وذل وفقر ومرض وجهل، فلماذا لا نعلق رجاءنا بمستقبلٍ جديد، ربما جاء فبدل لنا هذه الشرور بأضدادها؟
هذان الصنفان من الناس — بصفةٍ عامة — هما اللذان نطلق عليهما حينًا أنصار القديم وأنصار الجديد، وحينًا آخر نطلق عليهما الرجعيين والتقدميين، وحينًا ثالثًا حزب اليمين وحزب اليسار، وحينًا رابعًا، وحينًا خامسًا … والفكرة في كل هذه الحالات واحدة، وهي: أن المستقبل لم يكشف لنا عن نفسه بعد، فهل ننجو بجلودنا من شر المجهول لنلوذ بالماضي المعلوم المجرب، أو نغامر نحو جديد مقبل لعله ينقذنا مما نحن فيه من صنوف الشر والأذى؟
إنه مع علمي بأن اليسار يختلف عن اليمين في الأهداف البعيدة، والتي من أهمها أن يكون الجمهور العريض هو محور مشروعاتنا، لا القلة القليلة المحظوظة، وهو أساس لم يعد بيننا مواطن يتنكر له، أقول إنه مع علمي بهذا الفارق، الجوهري بين الفريقين، إلا أنني كذلك أعتقد بأننا كلما ازددنا علمًا صحيحًا بالعالم من حولنا، وعلمًا صحيحًا بمشكلتنا، ورؤية واضحة لمستقبلنا ولأهدافنا ازداد الفريقان اقترابًا أحدهما من الآخر؛ لأن التفرقة بينهما أساسها — إلى حدٍّ كبير — الجهل بما سوف يكون، أما إذا سلطنا نور العلم على الصورة التي سوف يجيء عليها المستقبل في ظل مشروعاتٍ بعينها، زالت من تلقاء نفسها أهم مبررات الاختلاف.
خذها مشكلة مشكلة أخذًا علميًّا، أخذًا يحصي الواقع إحصاءً سليمًا، ويحلل المشكلات تحليلًا علميًّا وافيًا، وينظر إلى الحلول كما ينظر العلماء حين يعالجون ما يعالجونه في بحوثهم، أفتستطيع عندئذٍ أن تدري بحقٍّ إذا كنت من أهل اليمين أو من أهل اليسار «خذ مشكلة التعليم — مثلًا — من الأمية وضرورة محوها، إلى الجامعة وضرورة إصلاحها، فماذا أنت قائل في محو الأمية حين تكون من أهل اليمين، مما لا تقوله فيها وأنت من أهل اليسار؟ أو خذ مشكلة التعليم الجامعي، متمثلًا في كليةٍ بعينها، ككلية الطب على سبيل المثال، وما تعانيه من كثرة العدد وقلة الوسائل، فماذا أنت قائل في ذلك إن كنت من أهل اليمين، مما لا تقول مثله وأنت من أهل اليسار؟ أليس يتفق الموقفان طالما أنت منشغل بالمشكلة وطرائق حلها؟»
هكذا ترى — فيما يبدو لي — أن المهم في جميع الحالات هو أن يكون بين أيدينا الأهداف الواضحة والعلم الصحيح في طريقة الوصول إليها، وأكرر كلمة «العلم» لأؤكد هنا معنى العلم كما يمارسه العلماء في معاملهم وإحصاءاتهم واستدلالاتهم، ولو عاش الناس في مجتمعٍ تكنوقراطي توضع فيه تصاريف الأمور في أيدي علميين فنيين، لزال جانب كبير من تلك التقسيمات التي أشرنا إليها، ما دام الهدف البعيد متفقًا عليه، وهو أن تكون الأولوية لما يخدم الكثرة الغالبة من جمهور المواطنين.
إنه المستقبل المحسوب بدقة العلم، هو الذي يجمع في ساحةٍ واحدةٍ من زعمنا أنهم أضداد.