راشومون والحقيقة الضائعة
كنت دائمًا أحرص مع طلابي أشد الحرص، على أن أبين لهم الفارق الذي يستطيعون به أن يميزوا الأحكام الذاتية من الأحكام الموضوعية، كلما اقتضى الأمر من الإنسان أن يقول رأيًا في شيءٍ مطروح للآراء، وقد كان مصدر ذلك الحرص مني على التفرقة بين النوعين، علمي بأن الخلط بينهما كثيرًا ما انتهى بنا إلى خطأ في الفكر، وإلى ظلمٍ بالناس.
إن كلا النوعين من الأحكام: الأحكام الذاتية والأحكام الموضوعية مطلوب في حياة الإنسان، لكن لكل منهما مجاله الخاص، والخلط إنما ينشأ حين يتشاكل علينا الأمر، فنصدر الحكم الذاتي فيما كان ينبغي أن يوزن بميزان موضوعي صِرْف، لا دخل لذواتنا فيه، أو أن نصدر الحكم الموضوعي فيما هو من حق النظرة الذاتية التي نعبر بها عن الرغبة والهوى.
إنني — وهذا مثل أسوقه للتوضيح — أحب ساعة الغروب، وخصوصًا إذا كان المشهد منبسطًا فسيحًا من أرضٍ خضراء أو من الصحراء أو من البحر، ولقد عجبت ذات يوم حين قرأت لكاتبة مصرية أنها تكره ساعة الغروب، بل تخشاها وتفر منها، وهي تُرجِع هذا الخوف إلى مواقف في طفولتها، فها هنا لا صواب ولا خطأ في نظرتي أو في نظرتها؛ لأن النظرة في هذه الحالة ذاتية خاصة، نشأت عن ظروف فردية، ولحسن الحظ أن أمثال هذه النظرات الذاتية إلى الأشياء لا دخل لها في شئون الناس العامة، كما أنه لا دخل لها كذلك في تكوين الأحكام العلمية على الأشياء والأشخاص والمواقف.
لكن افرض أن المسألة المعروضة ليست غروبًا تحبه أو تكرهه، إنما هي مسألة تمس حياة الناس، فعندئذٍ لا يكون الحكم قائمًا على ميلٍ هنا ونفور هناك، بل لا بد أن تلتمس له الأسس الموضوعية التي لا شأن لها بالنظرات الفردية الخاصة، حتى لو كان كل فرد يعبر بنظرته عن جزءٍ من الحق، هو الجزء الذي يراه.
ولقد تصعب التفرقة الدقيقة التي تميز ما هو ذاتي عما هو موضوعي، على اعتبار أن الإنسان إنسان على كل حال، وهو إذا نظر إلى أمرٍ فهو إنما ينظر من خلال نفسه، لكن ذلك لا يمنعنا من اتخاذ الحيطة خوفًا من أن تستبد بنا الأهواء ونحن لا ندري، وأذكر أني كنت أسوق عادةً هذا المثل الآتي لبيان التفرقة بين الموقفين: إذا حدثت حادثة في الطريق، ورآها عدة شهود، ثم طُلب من هؤلاء الشهود أن يُدلوا أمام القاضي بما رأوا، فقد يروي كل شاهد جزءًا من الحق، وهو الجزء الذي شهده وعلق بذاكرته «وسأفرض فيهم الصدق»، وسيجد القاضي نفسه أمام عدة صور جزئية، كل صورةٍ منها تشترك مع الباقية في أشياء وتختلف في أشياء، ماذا هو صانع؟ إنه يحاول أن يستخلص من مختلف الصور صورة مركبة، هي التي تصور الواقع كما وقع، وعلى هذه الصورة يُصدِر حكمه آخر الأمر، فالصور الفردية المتعددة ذاتية، لا تصلح أي منها لإقامة حكم عادل، وأما الصورة الشاملة للموقف بكل جوانبه فهي الموضوعية، وهي التي تقام عليها الأحكام الصحيحة، ولقد تعمدت في هذا المثل ألا أجعل الأفراد يحكمون بالأهواء، بل إن كل فرد فيهم يحكي عما قد رآه بالفعل، لكنه مع ذلك لم يكن موضوعيًّا بالقدر الذي يصلح للحكم العادل؛ لأنه شهد من الموقف جانبًا دون سائر الجوانب.
وهنا تأتي المناسبة التي أذكر فيها مسرحية «راشومون» للكاتب الياباني «ريونوسوكي أكوتاجاوا»، «نقلها إلى العربية عن الإنجليزية عبد الحليم البشلاوي»، ولقد مات هذا الكاتب الياباني منتحرًا سنة ١٩٢٧م، وهو في مسرحيته «راشومون» يبني على أساس حادثة وقعت في اليابان منذ ألف عام فيما زعم.
والقصة هي أن رجلًا من طبقة المحاربين «الساموراي» كان مع زوجته، يسيران في غابة، فقطع عليهما الطريق لص، وانتهى أمره معهما بأن اغتصب الزوجة وقُتل الزوج (بضم القاف)، وشاءت المصادفة أن يمر حطَّاب، فيرى ما قد حدث، فيسرع إلى مركز الشرطة عند بوابة راشومون، فيكون التحقيق، ويؤتى بالشهود: قاطع الطريق، والزوجة، والحطاب.
فكان العجب؛ لأن كلًّا من هؤلاء روى ما حدث كما رآه أو شارك فيه، فإذا نحن أمام شهاداتٍ مختلفة كل الاختلاف، فقاطع الطريق يؤكد أنه القاتل، والزوجة تؤكد أنها هي القاتلة، والحطاب يشهد بأن الرجل قد قتل نفسه بسيفه.
يبدأ التحقيق باتهام يوجهه النائب العام إلى قاطع الطريق، فمن سواه وهو من هو بحياته المليئة بالجرائم، حتى لقد شاع أمره بين الناس؟
ويسأل قاطع الطريق، فيعترف بأنه القاتل ويقص القصة، لقد كان مسترخيًا للراحة حين رأى الزوج وزوجته، الزوج يرتدي عباءة الساموراي «المحاربين»، ويحمل سيفًا ذا مقبض نفيس، وعلى ظهره حمل جعبة السهام، وكان الزوج يقود حصانًا أبيض تمتطيه الزوجة بثيابها ذات الألوان الناصعة، وعلى رأسها قبعة كبيرة من الخوص، يتدلى معها نقاب على وجهها فيخفيه، ولولا أن هبة من الريح جاءت خلال الغصون، فأزاحت النقاب، لما شهد منها ذلك الجمال الفاتن.
لكن الهواء رفع عن وجهها النقاب فبهره جمالها، وصمم على أن يظفر بها، حتى لو أدى به ذلك إلى قتل زوجها، «فليس القتل عندي أمرًا ذا بال، إنما هو مقيت عندكم أنتم أيها المهذبون، فأنتم تكرهون سفك الدماء، لأنكم تؤثرون القتل بطرقٍ أخرى، فتقتلون لا بالسيف، ولكن بسلطانكم وبأموالكم، والعجب أنكم تزعمون أنكم إنما تقتلون من تقتلونهم لصالح هؤلاء القتلى، فهم بوسائلكم لا يتألمون ولا يصرخون ولا ينزفون دمًا.»
اعترف قاطع الطريق بأنه قتل الرجل ليغتصب منه امرأته، فقد كانت هذه طريقته دائمًا، لكن الأمر العجيب في هذه الحالة، أنه لم يكن راغبًا في قتل الزوج، بل أراد بادئ الأمر أن يزيحه عن الطريق، حتى يقضي مع الزوجة وطرًا، فأغراه بأن يعرض عليه مقابض سيوف ثمينة مرصعة بالأحجار الكريمة، ووقع الرجل في الفخ، فربطه على جذع شجرة، حتى فرغ من إثمه، لكن الزوجة هي التي أرادت أن تنتقم لنفسها، فحاولت قتله، غير أنه أمسك بذراعها وشل حركتها، فتحدته أن يفك وثاق زوجها لينازله انتقامًا من الزوج لشرفه الضائع، ففعل، وكانت المبارزة، وانتهى الصراع بقتل الزوج، ولا يفوت قاطع الطريق هنا أن يتهكم على طريقة القتال التقليدية التي تعلمها الزوج بطريقة رسمية، أما قاطع الطريق فقتاله قتال الخبرة المحنكة بضرورة الدفاع الفطري الذي تدافع به النفس عن حياتها في غابة محفوفة بالمخاطر، على أنه بعد أن قتل الزوج، بحث عن المرأة فلم يجدها.
وجاء دور الزوجة تؤدي الشهادة، فكانت لها رواية أخرى، إن هذا الوغد بعد أن ظفر ببغيته اغتصابًا، راح يتودد إلى المرأة مزهوًا بنفسه، فرفسته وأرادت معه صراعًا، لكنه اختفى في الغابة، فاتجهت إلى زوجها تستعطفه عن إثم لم تقترفه مختارة، لكن الزوج قذفها بنظرات ازدراء، فأخذها الهم الحزين، وناولته سيفه، قائلةً له: «خذ سيفك، اقتلني إذا كان هذا هو ما أصبحت تشعر به إزائي، اقتلني ولكن لا تنظر إليَّ بهذا الاحتقار.» وتمضي الزوجة في شهادتها فتقول: ولا أدري ماذا حدث، فلعلني قد أغمي عليَّ من هول الموقف، فلما صحوت من إغماءتي، وجدت زوجي مقتولًا بسيفه، والسيف لم يزل مغروزًا في صدره، فأيقنت أني لا بد أن أكون قد قتلته في سورة الغضب من حيث لا أعي.
وتأتي شهادة الحطاب، فيروي كيف سمع وماذا شاهد أن قاطع الطريق يجثو أمام الزوجة متوسلًا أن تصاحبه في فرار يهرب به من حياة الجريمة إلى حياة عمل شريف، فلما أن ألح، وأصرت هي على رفضها، ظن أن وجود زوجها حيًّا هو الحائل الذي لا بد من إزالته، ولمحت الزوجة في قاطع الطريق رغبته، فقالت له إنها لن تتزوج من قاتل، لكنه لو فك وثاق زوجها ونازله، وانتصر عليه فعندئذٍ تصحبه زوجة له؛ لأنها ستكون زوجة لمنتصر في القتال، لكن العجب هو أن قاطع الطريق وقد فك قيد الزوج، رفض الزوج أن يقاتل رجلًا من السفلة المجرمين؛ لأن شرف سيفه يأبى عليه، كما رفض قاطع الطريق من ناحيته أن يقاتل من أجل امرأة سمع لتوه من زوجها، وهو يعير زوجته بماضيها، قائلًا لها إنها لو كانت من الطبقة النبيلة لما فعلت فعلتها، لكنها — كما تعلم هي — كانت ابنة خادمة في منزل أسرته، رفعها إلى منزلة النبلاء فلم ترتفع، سمع ذلك قاطع الطريق، فأبت عليه نفسه أن يقاتل من أجل امرأة هذا أصلها، فجن جنون المرأة من الرجلين معًا، وراحت تلقي إليهما الاتهام بالجبن ونقص الرجولة، ولقد شق على الزوج أن يعيش بعد هذا كله، فانتحر بأن أغمد سيفه في صدره.
وهكذا ضاعت الحقيقة بين الشهود الثلاثة، إن أحدًا منهم لم يتعمد الكذب، وكل ما في الأمر أنه رأى الموقف من خلال عينيه وأذنيه تارة، ومن خلال ظنونه وأوهامه تارة أخرى، فالجانب الموضوعي في هذا كله هو أن المحارب النبيل قد وُجد مقتولًا بسيفه، وأما حواشي الروايات الثلاث، فنظرات ذاتية امتزج فيها حق بباطل.
تلك هي خلاصة مسرحية «راشومون» التي قرأت ترجمتها العربية عند أول صدورها منذ أكثر من عشر سنوات، فلماذا تذكرتها الآن، وكيف تذكرتها، اجتمع عندي ثلاثة من الأصدقاء، وأخذ يتنقل بنا الحديث، حتى وقع على موضوع طال معنا الحوار فيه، وهو خاص بكاتب مشهور مذكور في حياتنا الأدبية، فلفت انتباهي أن كلًّا من الثلاثة الأصدقاء، ذكر الكاتب من إحدى نواحيه، فوجده غير جديرٍ بشهرته، ولما طلبوا مني الرأي، قلت: ربما كانت كل ناحية مما ذكرتم لا تجعل الرجل حقيقًا بما قد ظفر به، ولكن ماذا لو جمعتم فيه النواحي الثلاث؛ لأنها بالفعل مجتمعة فيه؟
إن الحق لا يوصل إليه بنظرات جزئية خاطفة، فأنصفوا الحق وأنصفوا الناس بأن تمسكوا عن الحكم، حتى تكتمل الرؤية ليكتمل النظر.