الفكر والثورة في مصر
إننا نعيش «النهضة» التي تخرجنا من قروننا الوسطى، نعيشها منذ أوائل القرن الماضي وإلى يومنا هذا، وما زلنا على طريق النهضة في صعود، ونوجه الأنظار هنا إلى هذا المعنى: وهو أن «النهضة» لم تكن حركة عامة شملت كل أجزاء العالم دفعة واحدة، كأنها ستار رفعناه في لحظةٍ معينة، فظهر لنا المسرح كله في لمحة، بل إن لكل بلدٍ نهضته التي سبقت سواها من النهضات أو لحقت بها، كانت النهضة في إيطاليا أسبق منها في فرنسا، وفي فرنسا أسبق منها في إنجلترا، وفي غرب أوروبا بصفةٍ عامة أسبق منها في الروسيا، وفي أوروبا، كلها بصفةٍ أعم أسبق منها في بلادنا، وبنفس المعيار تختلف مواقع «القرون الوسطى» باختلاف البلاد، فإذا كانت القرون الوسطى بالنسبة إلى أوروبا قد انحسرت في القرن اﻟ ١٦، فإنها لم تنحسر عن الروسيا إلا في القرن اﻟ ١٩، أما في مصر فإننا ما نزال نعيش نهضتنا ممزوجة بمخلفات من عصورنا الوسطى، لكننا ماضون على طريق الصعود.
وماذا نعني بالعصور الوسطى؟ ما هما الطرفان اللذان تأتي بينهما تلك العصور أو القرون المظلمة، فنقول عنها إنها «وسطى»؟ الطرفان هما وعي حضاري في البداية، أعقبه خمود، ثم عاد الوعي الحضاري من جديد، فمرحلة الخمود هي العصور الوسطى بين العهدين، وبالطبع لا تكون هذه القرون الوسطى الخامدة موحدة في أرجاء العالم كله، بل إن أوروبا عندما كانت تجتاز عصورها الوسطى، كنا نحن في عهدنا الحضاري الأول، وأما عصورنا نحن الوسطى، فهي القرون الثلاثة التي امتدت من السادس عشر إلى التاسع عشر، وهي قرون كانت أوروبا خلالها قد جاوزت نهضتها إلى عصرها الحديث.
أقول: إننا نعيش النهضة منذ أوائل القرن الماضي وإلى يومنا هذا، لم نجاوزها بعد إلى ما يصح أن يسمى في تاريخنا بعصر حديث، لكن هذه الفترة الطويلة — التي طالت أكثر مما كان ينبغي لها — لم تكن كلها مسطحًا واحدًا متصلًا، بل كانت متدرجة في مسطحات ثلاثة، كل منها يرتفع على سابقه بدرجة، كالعمارة الإسلامية حين كانت تجعل الطابق الثاني من البناء أوسع رقعة من الطابق الأول، ثم تجعل الطابق الثالث أوسع رقعة بدوره من الطابق الثاني، فبرغم ما بين الطوابق الثلاثة المتعاقبة من استمرارية تجعلها عمارة واحدة، كانت بينها فروق في السعة، كل منها أوسع من سابقه.
وكان كل مسطح من تلك المسطحات الثلاثة في مسار نهوضنا، ينتهي بثورة تنقلنا إلى المستوى الأعلى، لكن تلك الثورة كانت تجيء نتيجة لازمة للمخاض الفكري السابق عليها، فثورة عرابي هي نهاية المرحلة الأولى، وثورة ١٩١٩م هي نهاية المرحلة الثانية، وثورة ١٩٥٢م هي نهاية المرحلة الثالثة، وما ثورة التصحيح إلا جزء في قلب هذه الثورة الثالثة، تصحح مسارها على المسطح الحضاري نفسه، بغير ارتفاع إلى مسطح أعلى.
كان رفاعة الطهطاوي هو باذر البذور في المرحلة الأولى، وهي البذور التي أخذت تنبت نباتها، حتى استنفدت طاقاتها، فجاء ختامها ثورة عرابية، والبذور التي بذرها إنما هي فكرة الحرية في صورتها الجنينية الأولى، وإن فكرة الحرية لهي المعيار أدق معيار لقياس درجات الصعود، فكلما ازدادت الحرية عمقًا ازداد ارتفاعنا على طريق النهضة درجة بعد درجة.
- (١)
حرية طبيعية يتمتع بها الإنسان في الأكل والشرب وما إليها.
- (٢)
حرية سلوكية يتمتع بها الإنسان في إطار مبادئ الأخلاق.
- (٣)
حرية دينية تكفل حرية العقيدة والرأي والمذهب بما لا يتعارض مع الدين.
- (٤)
حرية مدنية تنظِّم التعامل بين الناس.
- (٥)
حرية سياسية ومعناها أن تكفل الدولة لكل مواطن أن يتمتع بالحريات.
تلك كانت البذرة الأولى التي بُذرت في طريق النهوض، وواضح من الحريات المذكورة أنها لم تجعل الحرية السياسية شاملة لمشاركة الشعب في الحكم، كأنما هذه المشاركة من الشعب في الحكم، كانت عند رفاعة الطهطاوي أملًا بعيد المنال، على أننا لا بد أن نلحظ — من جهة أخرى — أن الطهطاوي في تحليله السابق للحرية، جعلها تتضمن «المساواة»، فكل أنواعها الخمسة التي ذكرها تنصرف إلى جميع المواطنين على حدٍّ سواء، إنه لم يفرق في تلك الحريات بين رجل وامرأة، ومِن ثَم فيمكن اعتباره أول من دعا إلى حرية المرأة دعوة انتهت إلى ذروتها عند قاسم أمين، وهو في تسويته بين جميع المواطنين أمام الدولة يعد بشيرًا أول بشير بالديمقراطية السياسية التي صاغها — فيما بعد — لطفي السيد.
بل كان رفاعة الطهطاوي بمثابة الصيحة الأولى نحو «الإصلاح الزراعي» بالمعنى الاشتراكي الذي نفهمه اليوم، وكان ذلك في فصلٍ آخر من الكتاب المذكور فيما سبق، عنوانه «مطلب في تقسيم الأرض بين مالكها وزارعها»، وفيه يبين أن ملاك الأرض هم الذين يظفرون بأكبر نصيب من غلة الأرض، فهم «لا يعطون للأهالي إلا بقدر الخدمة والعمل، وعلى مقدار ما تسمح به نفوسهم في مقابل المشقة».
وجاء الأفغاني بعد ذلك — وكما لم نزل في المسطح الأول من المسار — ليجد التربة المصرية قد أصحبت صالحة للثورة، بفضل التنوير الذي أحدثه الطهطاوي بتعاليمه، يقول أحمد أمين في كتابه «زعماء الإصلاح»: «جرب الأفغاني أن يبذر بذورًا في فارس والأستانة فلم تنبت، ثم جربها في مصر فأنبتت.» ونحن نسأل: لماذا أنبتت في مصر ولم تنبت في غيرها؟ والجواب هو أن مصر كانت قد سارت بضع خطوات في طريق النور، بفضل الطهطاوي.
لكن الأفغاني، وإن يكن قد اضطلع بدوره على الضوء الذي ألقاه رفاعة الطهطاوي من قبله، فقد ارتفع بفكرة الحرية درجة على المسطح الأول نفسه، وهي حركة تشبه حركة التصحيح في مرحلتنا الحاضرة؛ وذلك لأنه نقل الولاء للحاكم الذي افترضه الطهطاوي ولم يجعله موضع جدال، نقله الأفغاني ليجعله ولاءً للشعب لا للحاكم.
وهكذا اشتدت الإرهاصات الفكرية في المرحلة الأولى، حتى تمخضت آخر الأمر عن ثورة عرابي، التي كانت أول من رفع الشعار المنادي بأن تكون مصر للمصريين، لكن ذلك الشعار كان مقصودًا به معناه الضيق الذي لا ينفي أن يكون إلى جانب المصريين في مصر أتراك وجراكسة، وأن يكون لكل من هؤلاء حقوقه وامتيازاته، فكأن ثورة عرابي قد اكتفت بإزالة الحرمان عن المصري، دون أن تشكك في حقوق الفئات الدخيلة.
وعلى كل حال، جاء المستعمر البريطاني ليخنق الثورة العرابية، لكنه بهذا بدأ لنا مرحلتنا الثانية في طريق النهضة.
نحن الآن على المسطح الثاني، حيث نرى على مسرح الفكر عمالقة تشد الأبصار والأسماع: محمد عبده يناضل ليحرر حياتنا الدينية مما علق بها من خرافة، ولينجو بعقول الناس من ظلمة الجهل، وكان ذلك على عقيدة منه بأن محاربة الاستعمار البريطاني بطريقٍ مباشر هي أطول الطرق نحو الهدف، وأما أقصر الطرق فهو تنقية الحياة الدينية من شوائبها، وتنوير العقول من جهالتها، وعندئذٍ يجيء الهدف السياسي من تلقاء نفسه.
وعلى المسرح من العمالقة قاسم أمين ودعوته إلى تحرير النصف المستعبد من الأمة، أعني المستعبد مرتين، فهو مستعبد للرجل أولًا، ثم هو والرجل مستعبدان معًا للمستعمر، ومصطفى كامل وزعامته السياسية نحو طرد المستعمر، ولطفي السيد وإصراره على أن تقيد الحكومة من سلطانها، بحيث لا تسيطر إلا على ما تدعو الضرورة إلى سيطرتها عليه، وهو ثلاثة: الجيش والبوليس والقضاء، «وفيما عدا ذلك من المرافق والمنافع، فالولاية للأفراد والمجاميع الحرة»، وكان من أبرز مبادئ الحركة الليبرالية التي قادها لطفي السيد مبدأ أن تكون السيادة للقانون لا للأشخاص، وأن يحكم الحاكم بإرادة الشعب لصالح الجمهور كله، لا لصالح طبقة معينة أو فرد بذاته، ثم مبدأ أن تكون مصر للمصريين، ولكنه هذه المرة أوسع معنًى مما كان عليه في شعار الثورة العرابية؛ لأن معناه هذه المرة هو أن تستقل مصر عن الأتراك مع استقلالها عن الإنجليز، وكان من مبادئه أيضًا أن حرية الوطن لا تتحقق إلا إذا تحققت حرية المواطن، على أن حرية المواطن لا تتحقق إلا في ظل حريةٍ سياسيةٍ يكون معناها «أن يشترك كل فرد في حكومة بلاده اشتراكًا تامًّا كاملًا»، وهذا هو معنى ما نسميه سلطة الأمة، وهنا نلحظ الوثبة الهائلة التي انتقلنا بها من المعنى الضيق للحرية السياسية كما فهمها الطهطاوي إلى معناها كما حددها لطفي السيد، هذا كله فضلًا عما سعى إليه لطفي السيد من تطوير التعليم الذي أراد له أن يكون تنمية للحرية الفكرية بعد أن كان منحصرًا في إعداد الموظفين للحكومة، وكذلك أيَّد لطفي السيد دعوة قاسم أمين في حرية المرأة، لكنه هنا أيضًا قفز بالمعنى المقصود قفزة عالية، فبعد أن كانت حرية المرأة عند قاسم أمين تعني أن تكشف المرأة عن وجهها برفع الحجاب، أصبحت عند لطفي السيد تعني حق المرأة في التعليم حقًّا مساويًا لحق الرجل فيه.
بهؤلاء الرواد — في المسطح الثاني من مسيرة النهضة — تنوعت أبعاد الحرية التي طالبوا بها، وازدادت عمقًا، وكان الذي تمخضت عنه هذه الإرهاصات الفكرية هذه المرة، هو ثورة ١٩١٩م، والتي انتقلنا بها إلى درجةٍ أعلى.
لقد شهدت سنوات العشرينيات والثلاثينيات من الزخم الفكري والفني ما تنقطع عنه الأنفاس، إذ شهد أبعادًا جديدة للحرية لم تطرأ للسابقين على خاطر، فها هنا العقاد يدعو إلى تحرر الشعر والفن بصفةٍ عامة، إلى الحد الذي يمكِّن الفرد من توسيع فرديته إلى آخر مدى مستطاع، وهنا سيد درويش يحرر الموسيقى من صيغتها القديمة التي كانت تستهدف الطرب، لتصبح تصويرًا وتعبيرًا لما يتردد في صدور الناس بكل فئاتهم، وهنا طلعت حرب وقيادته للتحرر الاقتصادي بإنشائه لبنك مصر وشركاته، وهنا علي عبد الرازق يحرر مفهوم الحكومة الإسلامية من تقليد الخلافة، وهنا طه حسين بمنهجه في البحث الأدبي الذي أراد به أن يحل منطق العقل محل الميل مع عاطفية التقاليد، وهنا أحمد أمين ولجنة التأليف والترجمة والنشر بما رفعته من مصابيح يرى الناس على أضوائها ثقافة الأقدمين والمحدثين، وهنا توفيق الحكيم — أطال الله عمره — والتبشير بعودة الروح الخلَّاقة إلى المصري الجديد، وكأن هؤلاء جميعًا لم يكفهم الشرح النظري للمبادئ الجديدة، فجسدوها في بطولاتٍ ليراها الناس.
وعن هذه الحركة الفكرية العارمة ولدت ثورة ١٩٥٢م، فانتقلنا بها إلى المسطح الأعلى في طريق النهضة، فإذا كانت الثورتان السابقتان قد دعتا إلى «التحرر» من قيودٍ مختلفة، فقد جاءت هذه الثورة لتدعو إلى «الحرية» والفرق بعيد بين التحرر والحرية، فالتحرر هو تحطيم القيود والحرية هي العمل الإيجابي الحر الذي يضطلع به من تحطمت قيوده، ثم إذا كانت الثورتان السابقتان قد أوشكتا على أن يكون المطلب هو الحقوق السياسية للأفراد — وخصوصًا المثقفون منهم — فإن هذه الثورة الثالثة قد كسرت هذا الطوق لتطالب أيضًا بالحقوق الاجتماعية للجمهور العريض، مثقفين وغير مثقفين على حدٍّ سواء، بل لعلها قد ركزت على غير المثقفين على سبيل التعويض … والحديث في الثورة الثالثة يطول.