خطبة بين كربتين
من المألوف في آداب الحفلات الخطابية أن الهيئة المقيمة الحفلة تعيِّن لجنة من ثلاثة أو اثنين، أو واحد فقط؛ لتستقبل الخطيب وترافقه إلى قاعة الخطابة. هذا ما عرفتُه وألِفته خطيبًا في الغرب، وفي هذا الشرق العربي.
أما في بغداد، يوم افتتاح المعرض الزراعي (٧ نيسان ١٩٣٢) فقد كان الاستقبال هائلًا، وكنت أنا الخطيب الفريد منقطع النظير في العالم. وكيف لا، وقد كنت الغريق في لجج من الناس، أحاول أن أُسمعهم غير ما جاءوا يسمعون، أحاول أن أُسمعهم شيئًا من الأنَّات والزفرات التي كانت تخرج متقطعة من تحت أضلعي.
وهاكم القصة. كنت في ذاك النهار خطيب الحفلة الأولى في المعرض، فجئتُ قبل الوقت المعيَّن لأنجو من الزحام الذي وقعت فيه. فأين لجنة الاستقبال تنقذني، وتضمن سلامة الحفلة التي أنا خطيبها؟ اللجنة هي هذه اللُّجَّة من الناس المحتشدين في الشارع، وفي الساحة، أمام المدخل الوحيد إلى أرض المعرض. هي لجنة هائلة، وما هي على شيء من لطف الاستقبال، أو من حب المجاملة.
وما كان الذنب ذنبي في خوض عبابها، فقد رأيت عندما وصلت ثلة من الشرطة تغالب الجماهير، وأخرى من الخيالة تُشذِّبها؛ لتفتح الطريق إلى المدخل، وتحفظ النظام. ورأَيت تلك الجماهير من المدن ومن العشائر — من حضر وبدو وأكراد — يتزاحمون ويتدافعون ويتضاغطون، وبينهم النساء المحجبات والسافرات — يهوديات ومسيحيات — وهن في تلك اللجج كالأزهار في الإعصار.
ومن أعجب ما شاهدت في احتشاد الناس أن الجماهير العراقية غير صخَّابة. فهي تتموج ساكنة هادئة، وتتضاغط وتتدافع بشدة وبطء دون أن يُسمع لها صوت أو أنين، كأنه قطع من الجماد تحركها يد جبارة خفية. وكانت في تلك الساعة تدفعها دفعًا بطيئًا عنيفًا قاهرًا نحو بوابة موصدة يحرسها شرطيان لا غير.
وقفت مترددًا في الطريق التي فتحتها الخيالة، وما آنست من رفيقي شجاعة على الإقدام، وبينا نحن كذلك دُهشت الدهشة الثانية، الدهشة الكبرى، فقد رأيت على حاشية اللجة السيد نوري السعيد رئيس الوزراء في تلك الأيام، فلفتُّ إليه نظر الرفيق، فاستبشر وقال: لنتبع الباشا ولا خوف علينا.
عجبت لصروف الزمان، فقد أعاد إلى ذهني هذا الرئيس مشهدًا من مشاهد الدولة العثمانية في الأستانة. وكان هناك أبهة ملك وازدحام، وكانت الخيالة تخترق اللجج البشرية وتدفع بها يمنةً ويسرة، دون أن تبالي بما تفعله سنابك الخيل؛ لتفتح الطريق لعربة الصدر الأعظم، السائرة في موكب فخم إلى الباب العالي. لله من صروف الدهر، وتقلب الزمان!
ليس العراق — وإن استقل ودخل في عصبة الأمم — بالدولة العثمانية. ولكنه ذو سيادة ودستور وبرلمان، والصدر الأعظم فيه شخصية بارزة، وقوة في البلاد نافذة. وهو مع ذلك يحضر الاجتماعات العمومية غالبًا وحده، دون مرافق عسكري أو مدني. إن نوري السعيد لمن أخلص الوزراء في روحه الديمقراطية الوادعة، وإنه أصغرهم سنًّا، وأكثرهم إقدامًا، وأغناهم في ما عنده من بشاشة وسكينة، فتراه، والسيكارة في فمه، والسبحة بيده، طلق المحيا، هادئ البال على الدوام.
عندما أشار رفيقي بأن نتبعه قلت في نفسي: ولا بأس على من يمشي في ظل حاكم البلاد. فإن السبحة بيده، إذا ما أومأ بها، لتفعل ما لا تفعله ثلة من الشرطة.
توكلنا على الله وأقدمنا، فإذا بنوري السعيد، وقد رآني، يرفع يده، ويومئ بالسبحة والبسمة أن أقدِما، كأنه يدعونا إلى طبق من البقلاوة. فأسرعنا إذَّاك مصدرين أرواحنا، وما عتَّمنا أن صرنا في ظله، فغمرتنا اللجة، وتوارينا وإياه فيها.
وكانت تزداد ثقلًا وراءنا وصلابة أمامنا، فوقفنا متراصين متلاصقين نكاد نفقد النفس — نغص بالهواء. ولولا صرخات لبعض النساء لما سمعنا للحشد صوتًا غير ذاك الذي يخرج من تحت الأحذية عندما يستحيل المشي على المحتشدين فيزحفون زحفًا.
هي ضغطة القبر. وكان الوزير الأكبر أمامنا ساكتًا هادئًا مثل غيره من الناس. وما أحد — على ما أظن — عرفه غيرنا. إلا أنه كان يحاول أن يصل إلى مكان يرى منه الشرطي، فيأمره بفتح الباب.
خبرت الجماهير في المدن الكبرى، وليس فيها أفظع من جماهير الصباح والمساء في نيويورك. إلا أني ما أحسست مرة هناك بمثل الهول المجسم في جماهير بغداد، تلك الجماهير الهادئة الواجمة الساحقة.
وكنت قد أضعت رفيقي، وأصبحت ولا أرى من نوري السعيد حتى سدارته. فوددتُ في تلك الساعة لو أن أحدًا عرفني فآنسني ولو بابتسامة … أين شهرتك الآن، أيها الفيلسوف؟ وأين عظمتك، أيها الرئيس؟ أنُضغط، ونخنق، ونُسحق مثل سائر الناس، ولا أحد يصيح: المدد! ولا أحد يقول: مَه!
سبحانك اللهم! فها هو ذا المدد أراه بعيني. إن اليد المرتفعة يدُ نوري، والسبحة سبحته، فقد دنا من المحجة، فرآه الشرطي، فأومأ إليه الرئيس أن افتح الباب. وما كاد ينفتح ذلك الباب حتى سُدَّ بالناس. فطفقوا يتدفقون كالسيل الجارف، فيهبطون من أعلى الدرج إلى أسفله، واثبين ومتدحرجين إلى أرض المعرض.
أخذت اللجة تخف أمامنا، وتزداد شدة وراءنا. فتقدمنا متعثرين متقاذفين. وكنت أحس وأنا في هذه الحالة بكوع يُغرس في جنبي، وبآخر، لبدوي عمليق، يطوي عنقي. فصحتُ متأوهًا، فضاعت صيحتي بين صيحات أخرى عميقة، كأنها كانت تصعد من تحت الأرض. إنما هي في الحقيقة صاعدة من بين أرجل الهاجمين المغيرين.
أما أنا فما كدتُ أفرح بدنوي من بوابة الحديد، وأنسى كوع البدوي، حتى تراءى لي شبح الموت، فقد دُفعت بعنف إلى البوابة، وضغُطت هناك ضغطة القبر، فعلقت يدي بين قضيبين من قضبان الحديد، وسمعت صوتًا في كتفي كصوت عظم يتكسر، فتأوهت وأننت، وخُيِّل إليَّ أن سأقضي بقية حياتي بيد واحدة. ولكنه سبحانه وتعالى تداركني برحمته، فتفلتُ من قبضة الحديد، وهويت فوق الدرجات طائحًا، فإذا أنا بين ذراعي رئيس الوزراء. وكان قد وقف هناك ينتظرني، فعانقته بكلتا يديَّ، وأنا أحمد الله على السلامة.
وعلى المحن التي فيها بعد السلامة العلم والشجاعة، فقد أصبحت، بعد نجاتي من تلك الغمرة ببغداد، فارسًا مغوارًا، لا تروِّعني الجماهيرُ، ولا تتكأكأني الزحماتُ. فأخوض عبابها كأنها حوض ماء، في جنينة غناء. ليقبضني بيديه المتحجرتين ذلك العلج الواقف في باب القطار في النفق بنيويورك، وليقذف بي إلى داخل القطار، وليضغطني ويرصني فوق مَن ضُغطوا ورُصوا، وليقفل وراءنا باب الحديد، فيجيء كالمكبس على بالة القطن، ليفعل كل ذلك فلستُ أبالي. قد خضت عباب الجماهير العربية ببغداد، وأصبحتُ ذا مناعة بدوية.
وقد شاهدت وخبرت أباطيل الشهرة والسيادة، أباطيل العبقرية والعظمة، في مثل تلك الغمرات. فما رئيس الوزراء، وما الفيلسوف الخطيب، إذا لم يكن ذا إحساس بليد، ونشاط عنيد، وأعصاب من حديد، فيكون في الغمرة جزءًا منها، جزءًا متحركًا متحكمًا متقدمًا مستهترًا؟!
وما كانت الكُربة بعد الخطبة أقل من الكربة التي تقدمتها، إلا أنها من نوع آخر. ولكن بين الكربتين برهة سعيدة أحب أن أشرك القارئ بها. ولا حرج في الحديث، وإن كنتُ موضوعه؛ لأنه يتناول ما هو أكبر من حالة حائلة، وشخصية زائلة. كيف لا والحدَث منقطع النظير في تاريخ العراق قديمًا وحديثًا؟ كيف لا، والخطيب — دعني أروي ولو مرة واحدة خبرة خطبتي؟ — كان أول مَن وقف ذلك الموقف في قطر من الأقطار العربية. وحسبي أن أنوه بصوته العجيب. فما كان كزئير الأسد، ولا كقصف الرعد. بل كان منخفضًا ناعمًا هادئًا. وقد جاز مع ذلك الآفاق، وسُمع حتى في بلاد الواق الواق.
عفوًا، قارئي. لست محدثك بالألغاز، فقد ملأ الراديو الأرض على حداثة عهده، وأمسى ذكره مألوفًا مبتذلًا. بيد أن للتاريخ حقًّا يُرعى. فإن استعمال الراديو للمرة الأولى في أقدم بلدان العالم — في أرض الرافدين — لجدير بالذكر والاعتبار.
قد نُصبت الآلة للمرة الأولى ببغداد لسبع خلون من نيسان من السنة الثانية والثلاثين وتسعمائة وألف مسيحية، وكان الريحاني أول من وقف أمامها للخطابة. وكان الاثنان — الخطيب ومطية صوته — في أحسن حال، تمدهما السماء بروحها المكهربة الممغنطة. وكانت الأسلاك ممتدة من الجهاز إلى مكبرات موزعة في أرض المعرض، فخطب الخطيب في جمع أمامه يُرى، وجموع في جواره لا تُرى.
وهناك وراء الآفاق في عواصم ألوية العراق، وفي ما دون العراق غربًا وشمالًا وشرقًا — في سوريا وفلسطين ومصر وفي أنقرة وطهران — سُمع صوت الخطيب الواقف على المنبر ببغداد. أجل، قد طارت كلماته على أجنحة الأثير لتُحدِّث بأعجوبة هذا الزمان، وبأعاجيب أخرى في تاريخ العراق الحديث، فسمعها المؤمنون والمشككون، وثم يُبسمِلون ويكبِّرون. سمعوها لأول مرة في حياتهم باللغة العربية، وسيذكرونها مدى الحياة.
سيذكرون — ولا ريب — الحدث العظيم. وسيذكرون — إن شاء الله — اسم صاحب الخطبة. وقد يذكرون بعض ما أشاد به من مظاهر النهضة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العراق، وبعض ما أشار إليه من أوليات هذه النهضة المباركة. ورأس الأوليات المعرض الزراعي الاقتصادي. فما رأت أرض الرافدين، منذ عهد السومريين إلى عهد الأتراك، معرضًا مثله. ومن الأوليات في كل أزمنة التاريخ القديم والحديث حكومة العراق النيابية، وملك العراق الدستوري، ومدارس العراق العامة. وقد يذكر مَن سمع الخطيب أنه دعا العرب للاتحاد، ودعا زعماء الأقطار العربية للتفاهم والتعاون، وأنه أثنى على الملك فيصل الذي ساس العراق بالحزم والحكمة، فاجتاز بفضله المرحلة الأولى من مراحل الاستقلال الوطني والسيادة القومية. قد يذكرون كل ذلك أو بعضه. وقد لا يذكرون شيئًا من الخطبة، غير أنها هبطت عليهم مثل الوحي من عالم الغيب، إنها إذن لوحيٌّ منزلٌ. أستغفر الله. ليس فيها شيء عجيب غير أنها سُمعت في وقت واحد في سائر المدن الكبرى في الشرق العربي.
على أن الخطبة ما نجت ولا نجا الخطيب، من صحافة بغداد، أو بالحري من صحافة المعارضة، فقد تناولت الخطبة، بل نتلتها بمخالب النقد، ومزَّقتها إربًا إربًا، ثم عرقتْ منها العظم، وتلمظت بالمرارة. قال أحد كتاب المعارضة: إن الخطيب من الثرثارين. وقال آخر: إنه يتزلف من الملك، وإنه من المستوزرين. وغمس آخر قلمه في دواة التهكم والظرف وخطَّ الآية: إن الخطيب لمن ذوي الآذان الطويلة. وشخَّص آخر مرضه فقال إنه مصاب بداء التفاؤل.
فاستنتجت من كل ذلك أن المعارضة — أي الأحزاب المعارضة للحكومة — لا تزال حية تُرزق، وأنها تعارض مبدئيًّا على طول الخط، ولا تبالي بما يُقال في مواقفها. ولِمَ المبالاة، ووظيفة المعارضة، كما يقول السياسيون، هي أن تعارض؟! إن في بغداد ثلاثة لا تتغير، هي: الغبار والوحل والسياسة.
وقد عجب أرباب السياسة لما في الخطبة من السطحيات. فكيف فات الجوهرُ الخطيب؟ ماذا دهاه فعمي أو تعامى؟ أما كان بإمكانه أن يرى، في نظرة سطحية، الحقائق البارزة؟ فالإنكليز لا يزالون في العراق، وما تحسنت اقتصاديات البلاد، وما تحررت الإدارات من المستشارين، وما، وما …
هي المعارضة، ولا حرج، فقد نصبت مدافعها بين أدغال الصحافة، ووراء أكمات الأحزاب، وشرعت تطلقها في كل ناحية، من الطرف الأيمن في جبهة الحكومة إلى الطرف الأيسر، من القصر على شاطئ الكرخ إلى القصر على شاطئ الرصافة — على المندوب البريطاني، على الملك، على الوزارة، على البرلمان، وحتى على المعرض؛ لأنه من أعمال الحكومة! فلا عجب إذا أصابني رشاش من مدافعها، وأنا أتنقل مستكشفًا — يا للحماقة! — من مكان إلى مكان في مرامي الجبهة.