ضعف المعارضة
ما أشرت في الفصل السابق إلى آفات بغداد الثلاث حبًّا بالإغراب والإبداع في الإنشاء. إنما هي الحقيقة تجمع في بعض الأحايين الشوارد والمتناقضات، فإذا هي شَرَعٌ في كنهها أو في نتائجها. فإن الآفات البغدادية هي عاصفة التراب (أو ما يُدعى «القاطرة» أو «الطوز») في الربيع، والوحل في الشتاء، السياسيون في كل فصول السنة.
أما الآفتان الأوليان فلا تنفرد بغداد بهما، وقد لا تكون فيهما كغيرها من المدن. فإن في أسواق باريس مثلًا تتكون في الشتاء صفحة رقيقة من الوحل الرخو اللزج الذي يتحول تحت الأرجل إلى مزلقات، فهي إذا ذاك أكرب من بغداد، وإن ضباب لندن في الخريف، ذلك الضباب القاتم الكثيف المُعمي، والمفعم بالروائح الكبريتية، هو أفظع من «قاطرة» بغداد التي لا رائحة لها ولا هي تسد عليك السبيل. أما سياسي بغداد فلا أظنك تجد له صنوًا في الشرق أو في الغرب. فإنه في عقليته مزيج من الغبار والرماد. غير أن قلبه مضمخ بالطيب، ولسانه لسان خطيب.
أجل، إن إرث السياسي البغدادي لإرث مركب من شتى العناصر النفسية والعقلية والبيانية. فيستطيع لذلك أن يكون شفافًا أو كثيفًا، دقيقًا أو غليظًا، قويمًا أو مواربًا، لطيفًا أو خشنًا، صريحًا أو مجمجمًا. إن في عروقه العربية أثرًا من الدم الفارسي والتركي والكردي والتتري.
فهو يُصلي بالعربية، ويفكر بالتركية، ويستشعر بالفارسية، وقد بدأ يرى الأشياء بعين إنكليزية. هو ديمقراطي اللسان، أوتوقراطي العقل، ثيوقراطي القلب والمجموع مَيْلٌ، بعد الاتكال على الله، إلى الاستبداد، «إنما العاجز من لا يستبد.»
لله من أولئك السياسيين، ومن فصاحتهم، ومن لطفهم، ومن حججهم وأحكامهم، ومن أساليبهم في الطعن والاغتياب! وما أكثرهم في بغداد! كم مرة وقفت في سراديب عقولهم السياسية! وكم مرة تغلغلت بعقلي وقلبي فيها لأفهم أقوالهم، وأدرك أفكارهم، ومقاصدهم، وأميز بين الأوهام والحقائق في مزاعمهم! وكم مرة أصغيت ساكتًا صابرًا للأحاديث الطويلة لأتحقق ما فيها من شكوى! وكم مرة أوقفني محدثي وأنا أتبعه مصغيًا متنبهًا، كم مرة أوقفني بغتةً في جادة ملتوية مظلمة؛ ليؤكد لي أنها ليست بجادته أو جادة حزبه، بل هي جادة الحكومة والإنكليز!
– إني أُطلعك، يا أستاذ، على حقائق هذه المسالك الملتوية المظلمة.
وهل يليق بي الشك وأنا في مجلس من أولاني صداقته، وأكد لي أنه يمشي ويتكلم أيامًا في خدمتي؛ لينير ذهني، ليطلعني على حقائق الدولة وأسرارها. ولولا وطنيتي وأدبي ورغبتي في التحقيق والتدقيق، لما كان يمشي خطوة، أو يفوه بكلمة. لا والله! فهل يليق بي الشك أو الاحتياط؟!
أما إنه كان في خدمته لي يخدم كذلك نفسه، من حيث لا يظن أني أدري، فذلك أمر لا ريب فيه. إلا أنه لا يمدح نفسه. كلَّا، ولكنه يرهفك بالحديث، ويعييك بالسير في سراديب السياسة؛ ليفهمك أنه أخلص سياسيي العراق وطنيةً، وأبعدهم نظرًا، وأسدُّهم رأيًا، وأصرحهم مقالًا. هذا السياسي المدرب المجرب، اللطيف الشريف، سنيًّا كان أو شيعيًّا، كرديًّا أو مسيحيًّا، هو يومًا للمعارضة ويومًا عليها — مثل الزمان.
وسأعطيك الآن بعض الأمثلة من أعمال المعارضة، بادئًا بالإضراب في صيف سنة ١٩٣١؛ لأنه من أهم حركات العراق الداخلية، وأقلها بركة. وها هي القصة في حقائقها العريضة.
كانت حكومة الاحتلال قد قررت وضع ضريبة على أصحاب المهن والحرف، ولكن قرارها لم يُنفذ كل التنفيذ. وفي سنة ١٩٢٩، تناولت حكومة العراق ذلك القرار فحولته إلى قانون يُدعى قانون رسوم البلديات، وجعلته يشمل في ضرائبه الأهالي جميعًا. إلا أن المادة الثالثة من هذا القانون تجيز لمجالس البلديات أن تخفض أو تلغي من جدول الضرائب ما لا يناسب أحوال الأهالي الاقتصادية.
ومع ذلك فقد تعددت أصوات الشكوى والاحتجاج، عندما شرعت الحكومة تنفذ القانون، فتمردت الحلة، وتبعتها بعقوبة في أوائل تموز، ثم أعلنت بغداد الإضراب وأمست مقفلة.
أما المادة الثالثة من القانون فقلما استرعت النظر. بيد أن بعض البلديات باشرت تحوير جدول الضرائب بموجب هذه المادة. ولكن الشعب لم يكترث، بل أصر على الإضراب الذي أضحى حركة وطنية.
وظل النظام سائدًا والسكينة مستتبة في الأيام الخمسة الأُوَل. وبعد ذلك فقد اصطدم الشعب بالشرطة وتضاربوا بضع مرات، واضطرب حبل الأمن في البصرة، وقتل في الناصرية اثنان. ما خلا هذا! فقد ظهرت الحكومة وظهر المضربون في مظهر من الثبات والسكينة يذكر فيشكر. ظلت بغداد مقفلة عشرة أيام، ثم بدت في بعض أمارات السأم والوهن. فأصدرت الحكومة بلاغًا ثانيًا افتتحته بهذه العبارة: «حيث إن الإلحاح المستمر على بعض الأشخاص، المعروفين بحسن النية والقصد، بلزوم الامتناع عن فتح حوانيتهم، أو مزاولة أشغالهم، قد سبب ضنكًا للأهالي إلخ»، وأنذرت بعقوبة الحبس والغرامة كلَّ من يردع أو يحاول أن يردع أحدًا عن فتح حانوته أو استئناف عمله، «وكل من ينشر أخبارًا كاذبة يقصد بها التدخل بالحرية العامة».
كان الملك فيصل يومئذ في أوروبا ومعه رئيس الوزراء السيد نوري السعيد. فعاد السعيد إلى بغداد في أواسط تموز، عند ما كان الإضراب آخذًا بالتلاشي، وأول ما عمله أن استعان بالمادة الثالثة من قانون رسوم البلديات، فألغى بعض الضرائب، وأصدر بلاغًا جامعًا بين الشدة واللين، فتمكن في خلال ثلاثة أيام من إقناع الناس بلزوم العودة إلى أشغالهم. إنما بقيت البصرة متمردة، فلجأ إلى الحزم، فأُلقي القبض على بعض زعماء الإضراب، وأُبعدوا، فعادت المياه إلى مجاريها.
إن الشعب لم يجنِ شيئًا من الإضراب. فلماذا كان إذن؟ ولماذا لم يستفد المسئولون من المادة الثالثة فيخفضوا الضرائب قبل عودة رئيس الوزارة؟
كان وزير الداخلية يومئذ من زعماء المعارضة السابقين فتذبذب وفاز بأمنيته فصار وزيرًا في الوزارة السعيدية. هو إذن خارج على حزبه، وحق للحزب أن يطلب رأسه — أن يذبحه سياسيًّا. وكان أمين العاصمة يومئذ من أعداء وزير الداخلية، فساعد المعارضين لينالوا مأربهم منه. فخلا لهم الجو، فتزعَّموا الإضراب، وكانوا في تنظيمه وتعميمه مفلحين. فطمعوا بغير رأس وزير من الوزراء — طمعوا برأس الحكومة نفسها.
قال الزعماء للمضربين ببغداد: «إن ثبتم أسبوعًا تسقط البلدية. وإن ثبتم عشرة أيام تسقط الوزارة.»
نسي المضربون غرضهم الأول من الإضراب، نسوا مصالحهم التي كانت تتعلق بتخفيض الضرائب. نسوها وصاروا وطنيين ثائرين، يبتغون قلب الحكومة. وكانت المعارضة تغذيهم بالكلمات الحماسية والمناورات السياسية.
وقد أوعزت الحكومة إلى البلديات بذبح الأغنام وبيع لحمها. فرحبت بلدية بغداد بتجارة جديدة كاسبة. وما أدركت شيئًا مما دبُر لكسبها، ولا أحست به. ذبحت، وما باعت في اليوم الأول، ولا في اليوم الثاني. خفضت الأسعار وما رغب الناس باللحم. فعرضته بأسعار خاسرة، فظل الناس راغبين عنه.
وكان حرُّ تموز يفعل فعله باللحم، فقدمته البلدية مجانًا للناس، فما أقبلوا عليه. كأن أهل بغداد أضحوا جميعًا من مذهب الهندوس — من المتنحسين. فأشفقت البلدية على الصحة العامة من فساد اللحم، فرمته في نهر دجلة!
إذا ذاك علت أصوات الوطنيين بالهتاف والتحبيذ: خذوا المثل الأعلى في الجهاد الوطني عن المضربين! تشبهوا بهؤلاء المتفانين في حب وطنهم. إنهم بوطنيتهم الصافية، وروحانيتهم العالية، ونزعتهم الشريفة التي حبَّبت إليهم حرمان ما تعودوه، يفوقون حتى أهل الهند.
إن الله أعلم بما كان وراء ذلك الحرمان. وإن المؤلف — لحسن حظ القارئ الطالب الحقيقة — على شيء كذلك من العلم.
فالحقيقة العارية في لحم البلدية هي أن أهل بغداد رفضوا أن يشتروه، أو يقبلوه مجانًا؛ لأن رجال المعارضة — وهم يرون حقًّا كل ما يساعد في مقاومة الحكومة والإنكليز — أشاعوا أنه من ذبح الأرمن!
هو إذن للمسلمين منجس، ولليهود «كاشِر». وهل يجرؤ المسيحي — وخصوصًا في أيام الإضراب — أن يدنو مما نبذه المسلمون واليهود؟
إذن، إلى دجلة باللحم! وعاشَ الوطنيون. وعاشَ المضربون! وليسقط جان بول الملعون!
وقد قررت الحكومة الكافرة، المذعنة لإرادة الكفار الإنكليز، أن تعفي من الضرائب كل مسلم يسمح لحرمه بالسفور. إلى دجلة بهذه الحكومة! الثبات، الثبات، أيها المضربون. بعد أسبوع تسقط الوزارة، وبعد أسبوعين الملك نفسه يشد للرحيل! …
سمعت في بغداد هذه القصة: كان أحد القناصل يدعو صديقًا له من الوزراء للعشاء ولعب اﻟ «بريدج» في بيته، وكان الوزير يعتذر دائمًا. لا وقت لسوء الحظ، الأشغال كثيرة.
ثم سقطت الوزارة واجتمع القنصل بصديقه الوزير السابق فقال له: «إن وقتكم في هذه الأيام يسمح — ولا شك — بسهرة للعب اﻟ «بريدج» في الأقل.» فرفع الوزير يديه مجيبًا: «إن الأشغال في هذه الأيام أكثر والله وأهم، فقد دخلنا في حزب المعارضة.»
وهناك غيره ممن يعتقدون أن لذة السياسة بالتنقل. فكيف تستطيع المعارضة وهؤلاء هم رجالها أن تكتم أسرار حزبها، أو تموِّه حيلها فتخفى على الحكومة؟ ومع ذلك فقد كانت مَفزعة للحكومة تروعها وتفسد ظنونها وتدابيرها، فصارت الحكومة تتخيل تلك المفزعَة في كل مكان. بيد أن المعارضة كانت دائما متيقظة متأهبة «لتستغل» — كما تقول — المواقف كلها؛ لتشوه سمعة الحكومة، لتعرقل أعمالها، لتفسد خطتها، لتسقط وتسحق رجالها.
إن في موقف الطرفين شيئًا من المبالغة والوهم. فالحكومة تبالغ بسوء الظن والخوف، والمعارضة تبالغ بتقدير قواها. لكن مما لا ريب فيه هو أنها تتخذ لأغراضها شتى المسالك والأساليب، القويمة وغير القويمة، الجائزة وغير الجائزة. ومن هذه ما يُضحك، وقد أعطيتك مثالًا ومنها ما يثير الأشجان، مثال ذلك ما حدث يوم كانت عصبة الأمم تبحث مؤهلات العراق لعضويتها.
كتب أحد الأدباء العراقيين السيد عبد الرزاق الحسني مقالًا في مجلة مصرية عن الصابئة. وقد جاء في المقال أن المرأة الصابئية، إذا ما اعتدى رجل عليها، ترضخ له صامتة دون مقاومة أو احتجاج. وكل ما تفعله خلال الاعتداء هو أن تقبض على شيء قربها، حجرًا كان أو خشبة أو غير ذلك، مستشهدة بها على ثلم عرضها. هي تهمة فظيعة تثير الحفائظ في أي بلد كان.
فلا عجب إذا ثار ثائر الصابئة في العراق. فقاموا ببغداد يطلبون رأس الحسني عبد الرزاق. فاعتذر عما كتب، ونشر اعتذاره في جريدة محلية. ولكن الأمر مع ذلك ما انتهى. فإن بعض الناس غاروا على شرف الصابئة أكثر من غيرة الصابئة على أنفسهم، فراحوا يحرضونهم على المطالبة بالعقوبة.
غضبت الصابئة غضبة مستجدة شديدة. فجاء ممثلو الطائفة، من العمارة حتى الموصل، إلى بغداد شاكين غاضبين. جاءوا يطلبون مقابلة الملك فقابلهم وطيَّب خاطرهم، ثم أحالهم إلى العدلية، وأمر بأن يُنظر في قضيتهم سريعًا. كان الملك فيصل — رحمه الله — يخترق الأسترة، وكانت الحكومة، كما أسلفت القول، تتخيل المعارضة في كل مكان. فأُشير باسترضاء الصابئة.
وما استرضاء هذا الشعب الصغير الهادئ الوادع بالأمر الشاق. ولا استهواؤه واستفزازه، فقد كان بين عاملين، الصفح والشرف. ولعبت في العامل الثاني الأهواء والإغراء، فاعتزم الرؤساء إقامة الدعوى على الكاتب يطلبون الإثبات. فركت العدلية جبينها، وعادت إلى القانون تستشيره، فسُرت بما قرأت، وهو أن لا يحق لشعب بأجمعه أن يقيم الدعوى على شخص ما، بل ينبغي على كل فرد من ذلك الشعب أن يقيم الدعوى باسمه منفردًا. إذن تقدموا أيها المعمدانيون الأتقياء … تقدموا جميعًا!
إنه لموقف عظيم «للاستغلال»، فإن أربعة أو خمسة آلاف دعوى تقام على كاتب في دولة صغيرة كالعراق؛ ليملأ خبرها الأرض، فتخدم مصلحة الأحزاب المعارضة للحكومة. فهل يفادي الصابئة بوقتهم وبمالهم وبسعادتهم؟ كلَّا. إذن ليست العدلية مرجعهم. إذن لتنقل القضية إلى الوزارة الداخلية.
إلى وزارة الداخلية
بالإشارة إلى حاشيتيكم …
لقد أحضرنا رجال الصابئة إلى هذا المقام في يوم الأربعاء المصادف ٢٣ / ٣ / ١٩٣٢ وكلمناهم في عدم وجود أي مُمسك قانوني يستلزم مجازاة السيد عبد الرزاق الحسني لحسن نيته في ما كتبه عنهم واعتذاره عن ذلك في جريدة «العراق» ولصدور المجلة في القاهرة، ثم إننا أطلعناهم في يوم الخميس على الكتب التاريخية القديمة التي استند إليها الكاتب في بحثه عنهم، فأمنوا على عدم وجود سوء نية عند الكاتب، وأكدوا لنا أن ما كتبه الأقدمون عنهم لا يتفق والحقيقة.
وأخيرًا، اتفقوا على أن يجلبوا كتابهم الخطي المقدس، وأن يترجمه بطارقة الملل الأخرى إلى اللغة العربية في ديوان هذه المتصرفية في يوم الاثنين ٢٩ الجاري. فإذا ظهر أن ما ذكره الأقدمون صحيح ومطابق لما ورد في هذا الكتاب المقدس فهم يتنازلون عن شكواهم. وإذا ظهر تفاوت بين كتابة الأقدمين وكتابة الحسني، وبين ما جاء في كتابهم المقدس فإنهم يكتفون بتكذيبٍ تُصدره هذه المتصرفية وتنشره في مجلة «الهلال» المصرية التي نُشر فيها مقال الكاتب. وسنخبركم بما سيتم في هذا الصدد.
هو ذا سياسي عراقي متخرج من المدرسة التركية المَكْيافيلية. وهل يستطيع أحد أرباب هذه المدرسة أن يخرج من هذا المأزق بأحسن من هذا الأسلوب؟ هاتوا كتابكم الخطي المقدس لتترجمه بطارقة الملل الأخرى إلى اللغة العربية! فإذا جاء رؤساء الصابئة بالكتاب فهل يجيء البطارقة؟ وإذا جاءوا فهل يترجمون؟ وإذا ترجموا فهل يحسنون؟ وإذا أحسنوا فهل يتفقون؟ وإذا اتفقوا فهل يصدق رؤساء الصابئة أنهم أحسنوا الترجمة وتحروا الأمانة فيها؟
فكَّر أولئك الرؤساء، ثم رضوا باعتذار الأستاذ الحسني. أما الذين كانوا يأملون أن «يستغلوا» الموقف، فيستخدمون القضية، قضية إحدى الأقليات؛ ليشوهوا سمعة العراق في جنيف، ويحولوا دون دخوله في عصبة الأمم، فقد أخفق مسعاهم.